" الصلاة هي العبادة المشتركة بين جميع الكائنات "
" الصلاة هي العبادة المشتركة بين جميع الكائنات "
إن المتأمل في آيات القرآن الكريم يدرك أن جميع من في الكون في صلاة دائمة وعبادة مستمرة من غير فتور ولا استكبار، وأن جميع مخلوقات الله تعالى تشترك في أداء الصلاة، كل بحسب حاله، وبما أن الآيات التي وردت في هذا المعنى كثيرة نقتصر على أظهرها دلالة على الموضوع:
1- قال الله سبحانه وتعالى: " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ " (النحل: 49،48).
يخبر الله سبحانه وتعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها: جماداتها و حيواناتها، ومكلفوها من الإنس والجن، والملائكة، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال، أي: بكرة وعشيًّا فإنه ساجد بظله لله تعالى، وقوله: " وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ " أي: تسجد لله، أي: غير مستكبرين عن عبادته، وقوله: " يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ " أي: يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله، وقوله: " وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " أي: مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره، وترك زواجره (تفسير ابن كثير).
وتقديم المجرور على فعله مؤذن بالحصر، أي: سجد لله لا لغيره ما في السموات وما في الأرض، وهو تعريض بالمشركين إذ يسجدون للأصنام (التحرير والتنوير).
كان الحسن البصري رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية الكريمة يقول: يا ابن آدم، ظلك يسجد لله تعالى، وأنت لا تسجد لله، فبئس والله ما صنعت (النكت والعيون، وتفسير السمعاني).
2- قال الله جل وعلا: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " (الحج:18).
يخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة: بأنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعًا وكرهًا، وسجود كل شيء بحسب ما يختص به ويليق به، فقال: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ " أي: من الملائكة في أقطار السموات، والحيوانات في جميع الجهات من الإنس والجن والدواب والطير، وقوله: " وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ " إنما نص على هذه؛ لأنها قد عبدت من دون الله، فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربونة مسخرة، وأن المستحق للعبادة هو خالقها لا غيره (تفسير ابن كثير).
3- قال الله عز وجل: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ " (النور:41).
يخبر الله جل وجلاله في هذه الآية الكريمة: أنه يسبح له من في السموات والأرض، أي: من الملائكة والإنس والجن والحيوتان حتى الجمادات، وقوله: " وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ " أي: في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة، وقوله: " كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ " أي: كل من المصلين والمسبحين، قد علم الله صلاته وتسبيحه، فأرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل، وقيل معناه: كل من المصلين والمسبحين، قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه، فهو يثابر عليها (تفسير الطبري).
4- قال الله سبحانه وتعالى: " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " (الإسراء44).
يخبر الله عز وجل في هذه الآية الكريمة بأن السموات السبع والأرض ومن فيهن، أي: من المخلوقات، تقدسه وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته، وقوله: " مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ " أي: وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله، وقوله: " وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ " أي: لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس؛ لأن تسبيحهم بخلاف ألسنتكم ولغاتكم، وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات؛ لأنه ليس يستحيل أن يكون للجمادات فضلًا عن البهائم تسبيح بكلام، وإن لم نفقهه عنها، ولله تعالى نقض العادة وخرقها بما شاء من قدرته لمن شاء من مخلوقاته (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز).
قال العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي رحمه الله تعالى: معلقا على هذه الايات التي ورد فيها أن جميع المخلوقات تصلي لله تعالى: ونحن نقول: إن الله جل وعلا قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يخلق لها إدراكها تدرك به وتسجد لله سجودًا حقيقيًّا، والقاعدة المقررة عند علماء الأصول هي: حمل نصوص الوحي على ظواهرها، وأنه لا يجوز صرفها إلا بدليل من كتاب أو سنة (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن).
وقال أيضًا: والظاهر أن الطير تسبح وتصلي صلاة وتسبيحًا يعلمهما الله، ونحن لا نعلمهما (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن).
هذه الآية لم يرد فيها لفظ الصلاة أو السجود، وإنما ورد فيها لفظ التسبيح، ووجه الاستدلال منها أن الله تعالى قد بين فيها العلة التي تمنع الإنسان من فهم العبادات التي يقوم غير الإنسان من مخلوقات الله تعالى، وأن السبب في عدم فهمها راجع إلى قصور الإنسان، لهذا قال: " وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ " ولم يق: ولكن لا تعلمون، وهذا فيه إشارة إلى أن المنفي علم دقيق، وأن عدم فهم الإنسان لصلاة وتسبيح غيره من المخلوقات لا يدل على عدم وجودها، وإنما يدل على أن فهم الإنسان وعلمه محدود، هذا بالإضافة إلى أن التسبيح جزء من الصلاة، وعمل من أعمالها، فيكون الاستدلال بالآية على أن الصلاة عبادة مشتركة بين جميع الكائنات في محله، كما هو ظاهر في الآيات التي ذكرت قبلها.
مختارات