19. مجزأة بن ثور السدوسي
مجزأة بن ثور السدوسي
"مجزأة بن ثور كمي باسل قتل مائة من المشركين مبارزة؛ فما بالك بمن قتلهم في خضم المعارك!! "
[المؤرخون]
ها هم أولاء الأبطال الأمجاد من جند الله ينفضون عنهم غبار "القادسية" جذلين (١) بما آتاهم الله من نصر.
مغتبطين بما كتب لإخوانهم الشهداء من أجر …
متشوقين إلى معركة أخرى تكون صنوا (٢) "للقادسية" في روعتها وجلالها
متربصين أن يأتيهم أمر خليفة رسول الله عمر بن الخطاب بمواصلة الجهاد، لاجتثاث (٣) العرش الكسروي من جذوره.
* * *
لم يطل تشوق الغر الميامين وتشرفهم (٤) كثيرا.
فها هو ذا رسول الفاروق يقدم من المدينة إلى "الكوفة"، ومعه أمر من الخليفة لواليها أبي موسى الأشعري (٥) بالمضي بعسكره والالتقاء مع جند المسلمين القادمين من "البصرة"، والانطلاق معا إلى "الأهواز" (٦) لتتبع
"الهرمزان" (٧) والقضاء عليه، وتحرير مدينة "تستر" درة التاج الكسروي، ولؤلوة بلاد فارس.
وقد جاء في الأمر الذي وجهه الخليفة لأبي موسى أن يصحب معه الفارس الباسل "مجزأة بن ثور السدوسي" سيد بني "بكر" وأميرهم المطاع.
* * *
صدع أبو موسى الأشعري بأمر خليفة المسلمين، فعبأ جيشه؛ وجعل على ميسرته مجزأة بن ثور السدوسي، وانضم إلى جيوش المسلمين القادمة من "البصرة"، ومضوا معا غزاة في سبيل الله.
فما زالوا يحررون المدن، ويطهرون المعاقل، و "الهرمزان" يفر أمامهم من مكان إلى آخر حتى بلغ مدينة "تستر"، واحتمل بحماها.
* * *
كانت "تستر" التي انحاز إليها "والهرمزان" من أجمل مدن الفرس جمالا، وأبهاها طبيعة، وأقواها تحصينا.
وهي إلى ذلك مدينة عريقة (٨) ضاربة في أغوار (٩) التاريخ، مبنية على مرتفع من الأرض على شكل فرس، يسقيها نهر كبير يدعى بنهر "دجيل".
وفوقها "شاذروان" (١٠) بناه الملك "سابور"؛ ليرفع إليها ماء النهر من خلال أنفاق حفرها تحت الأرض.
وشاذروان تستر وأنفاقه عجيبة من عجائب البناء، شيد بالحجارة
الضخمة المحكمة، ودعم بأعمدة الحديد الصلبة، وبلط هو وأنفاقه بالرصاص.
وحول "تستر" سور كبير سامق (١١) يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، قال المؤرخون عنه:
إنه أول وأعظم سور بني على ظهر الأرض.
ثم حفر "الهرمزان" حول السور خندقا عظيما يتعذر اجتيازه، وحشد وراءه خيرة جنود فارس.
* * *
عسكرت جيوش المسلمين حول خندق "تستر" وظلت ثمانية عشر شهرا لا تستطيع اجتيازه.
وخاضت مع جيوش "الفرس" خلال تلك المدة الطويلة ثمانين معركة.
وكانت كل معركة من هذه المعارك تبدأ بالمبارزة بين فرسان الفريقين؛ ثم تتحول إلى حرب ضارية ضروس (١٢).
وقد أبلى مجزأة بن ثور في هذه المبارزات بلاء أذهل العقول، وأدهش الأعداء والأصدقاء في وقت معا.
فقد تمكن من قتل مائة كمي (١٣) من فرسان الأعداء مبارزة؛ فأصبح اسمه يثير الرعب في صفوف "الفرس"، ويبعث النخوة والعزة في صدور المسلمين.
وعند ذلك عرف الذين لم يكونوا قد عرفوه من قبل لم حرص أمير
المؤمنين على أن يكون هذا البطل الباسل في عداد الجيش الغازي.
* * *
وفي آخر معركة من تلك المعارك الثمانين حمل المسلمون على عدوهم حملة باسلة صادقة فأخلى "الفرس" لهم الجسور المنصوبة فوق الخندق، ولاذوا بالمدينة، وأغلقوا عليهم أبواب حصنها المنيع.
* * *
انتقل المسلمون بعد هذا الصبر الطويل من حال سيئة إلى أخرى أشد سوءا، فقد أخذ "الفرس" يمطرونهم من أعالي الأبراج بسهامهم الصائبة …
وجعلوا يدلون من فوق الأسوار سلاسل من الحديد، في نهاية كل سلسلة كلاليب متوهجة من شدة ما حميت بالنار.
فإذا رام (١٤) أحد جنود المسلمين تسلق السور أو الاقتراب منه، أنشبوها فيه (١٥) وجذبوه إليهم، فيحترق جسده، ويتساقط لحمه، ويقضى عليه.
* * *
اشتد الكرب على المسلمين، وأخذوا يسألون الله بقلوب ضارعة خاشعة أن يفرج عنهم، وينصرهم على عدوه وعدوهم.
* **
وبينما كان أبو موسى الأشعري يتأمل سور "تستر" العظيم، يائسا من اقتحامه، سقط أمامه سهم قذف نحوه من فوق السور، فنظر إليه فإذا فيه رسالة تقول: لقد وثقت بكم معشر المسلمين، وإني أستأمنكم على نفسي ومالي وأهلي ومن تبعني، ولكم علي أن أدلكم على منفذ تنفذون منه إلى المدينة.
فكتب أبو موسى أمانا لصاحب السهم، وقذفه إليه بالنشابة (١٦).
فاستوثق الرجل من أمان المسلمين لما عرف عنهم من الصدق بالوعد والوفاء بالعهد، وتسلل إليهم تحت جنح الظلام، وأفضى لأبي موسى بحقيقة أمره فقال:
نحن من سادات القوم، وقد قتل "الهرمزان" أخي الأكبر، وعدا (١٧) على ماله وأهله، وأضمر لي الشر في صدره حتى ما عدت آمنه على نفسي وأولادي …
فآثرت عدلكم على ظلمه، ووفاءكم على غدره، وعزمت على أن أدلكم على منفذ خفي تنفذون منه إلى "تستر" …
فأعطني إنسانا يتحلى بالجرأة والعقل، ويكون ممن يتقنون السباحة حتى أرشده إلى الطريق.
* * *
استدعى أبو موسى الأشعري مجزأة بن ثور السدوسي، وأسر إليه بالأمر وقال: أعني برجل من قومك له عقل وحزم، وقدرة على السباحة.
فقال مجزأة: اجعلني ذلك الرجل أيها الأمير.
فقال له أبو موسى: إذا كنت قد شئت؛ فعلى بركة الله.
ثم أوصاه أن يحفظ الطريق، وأن يعرف موضع الباب، وأن يحدد مكان "الهرمزان"، وأن يتثبت من شخصه، وألا يحدث أمرا غير ذلك.
* **
مضى مجزأة بن ثور تحت جنح الظلام مع دليله الفارسي، فأدخله في نفق (١٨) تحت الأرض يصل بين النهر والمدينة.
فكان النفق يتسع تارة حتى يتمكن من الخوض في مائه وهو ماش على قدميه، ويضيق تارة أخرى حتى يحمله على السباحة حملا.
وكان يتشعب ويتعرج مرة، ويستقيم مرة ثانية …
وهكذا حتى بلغ به المنفذ الذي ينفذ منه إلى المدينة، وأراه "الهرمزان" قاتل أخيه، والمكان الذي يتحصن فيه.
فلما رأى مجزأة "الهرمزان"، هم بأن يرديه بسهم في نحره، لكنه ما لبث أن تذكر وصية أبي موسى له بألا يحدث أمرا، فكبح جماح (١٩) هذه الرغبة في نفسه، وعاد من حيث جاء قبل بزوغ الفجر.
* * *
أعد أبو موسى ثلاثمائة من أشجع جند المسلمين قلبا، وأشدهم جلدا وصبرا، وأقدرهم على العوم، وأمر عليهم مجزأة بن ثور وودعهم وأوصاهم …
وجعل التكبير علامة على دعوة جند المسلمين لاقتحام المدينة.
أمر مجزأة رجاله أن يتخففوا من ملابسهم ما استطاعوا حتى لا تحمل من الماء ما يثقلهم.
وحذرهم من أن يأخذوا معهم غير سيوفهم … وأوصاهم أن يشدوها على أجسادهم تحت الثياب.
ومضى بهم في آخر الهزيع (٢٠) الأول من الليل.
* * *
ظل مجزأة بن ثور وجنده البواسل نحوا من ساعتين يصارعون عقبات هذا النفق الخطير، فيصرعونها تارة وتصرعهم تارة أخرى.
ولما بلغوا المنفذ المؤدي إلى المدينة؛ وجد مجزأة أن النفق قد ابتلع مائتين وعشرين رجلا من رجاله، وأبقى له ثمانين.
* * *
وما إن وطئت أقدام مجزأة وصحبه أرض المدينة حتى جردوا سيوفهم، وانقضوا على حماة الحصن، فأغمدوها في صدورهم.
ثم وثبوا إلى الأبواب وفتحوها وهم يكبرون.
فتلاقى تكبيرهم من الداخل مع تكبير إخوانهم من الخارج …
وتدفق المسلمون على المدينة عند الفجر …
ودارت بينهم وبين أعداء الله رحى معركة ضروس قلما شهد تاريح الحروب مثلها هولا ورهبة وكثرة في القتلى.
* * *
وفيما كانت المعركة قائمة على قدم وساق أبصر مجزأة بن ثور "الهرمزان" في ساحها، فقصد قصده (٢١)، وساوره (٢٢) بالسيف، فما لبث أن ابتلعه موج المتقاتلين وأخفاه عن ناظريه … ثم إنه بدا له مرة أخرى فاندفع نحوه وحمل عليه …
وتصاول (٢٣) مجزأة و "الهرمزان" بسيفيهما فضرب كل منهما صاحبه ضربة قاضية، فنبا (٢٤) سيف مجزأة، وأصاب سيف "الهرمزان" …
فخر البطل الكمي الباسل صريعا على أرض المعركة، وعينه قريرة بما حقق الله على يديه.
وواصل جند المسلمين القتال، حتى كتب الله لهم النصر، ووقع "الهرمزان" في أيديهم أسيرا.
* * *
انطلق المبشرون إلى المدينة المنورة يزفون إلى الفاروق بشائر الفتح.
ويسوقون أمامهم "الهرمزان" وعلى رأسه تاجه المرصع بالجوهر، وعلى كتفيه حلته الموشاة بخيوط الذهب ليراه الخليفة (٢٥).
وكان المبشرون يحملون مع ذلك تعزية حارة للخليفة بفارسه الباسل مجزأة بن ثور (*).
_________
(١) جذلين: فرحين.
(٢) صنوا للقادسية: أختا لها.
(٣) لاجتثاث العرش الكسروي: لاقتلاعه من أصله.
(٤) تشرفهم: تطلعهم وانتظارهم.
(٥) أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري صحابي جليل من أهل اليمن لما أراد الهجرة إلى الرسول ﷺ من اليمن، ألقت به السفينة إلى أرض الحبشة، والتقى بالمهاجرين إليها، وقد استعمله النبي على زبيد وعدن ثم ولاه عمر بن الخطاب البصرة، وكان أحد الحكمين بين علي ومعاوية من قبل علي.
(٦) الأهواز: إقليم من أقاليم فارس يقع على الخليج في غربي إيران اليوم.
(٧) الهرمزان: قائد جيوش الفرس.
(٨) مدينة عريقة: مدينة قديمة ذات حضارة.
(٩) أغوار التاريخ: أعماق التاريخ.
(١٠) الشاذروان والشادروان: منهل ماء له حوض ونوافير، وربما وجدت فيه تماثيل حيوانات يخرج الماء من أفواهها.
(١١) سور سامق: سور عال.
(١٢) حرب ضروس: حرب شديدة مهلكة.
(١٣) الكمي: الشجاع الباسل.
(١٤) رام: أراد.
(١٥) أنشبوها فيه: علقوها فيه، وأدخلوها في لحمه.
(١٦) النشابة: السهم.
(١٧) عدا: تعدى.
(١٨) النفق: ممر تحت الأرض.
(١٩) كبح جماح رغبته: رد نفسه عن هواها، ولم يحقق لها رغبتها.
(٢٠) الهزيع الأول من الليل: الثلث الأول منه.
(٢١) قصد قصده: اتجه نحوه.
(٢٢) ساوره بالسيف: وثب عليه بالسيف.
(٢٣) تصاول الرجلان: وثب كل منهما على صاحبه.
(٢٤) نبا السيف: ارتد ولم يقطع.
(٢٥) انظر خبر الهرمزان مع عمر بن الخطاب في الأحنف بن قيس بكتاب "صور من حياة التابعين" للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي.
مختارات