" مقــدمة "
" مقــدمة "
إن التاجر يحرص على تنمية رصيده المالي، ولا يفتر عن مراجعة حساباته وتقليب أوراق تجارته لمعرفة صافي أرباحه، فإذا وجد أن إجمالي إيراداته أكثر بكثير من إجمالي مصروفاته، اطمأنت نفسه، وسر فؤاده، واستمر على طريقته، وإذا وجد عكس ذلك تدارك وضعه، وصحح مساره، لئلا يقع في دائرة الديون أو الإفلاس من حيث لا يشعر.
فالكَيِّسُ الفَطِنُ من يحرص كذلك على تنمية رصيد حسناته، فيتاجر مع ربه عز وجل، بأن يجمع خلال حياته أكبر قدر ممكن من الحسنات وأقل عدد ممكن من السيئات؛ ليثقل يوم القيامة ميزانه، ومن ثقل ميزانه فسوف يسعد سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، ليعيش عيشة راضية، في جنة عالية، قال الله تعالى: " فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ " [القارعة: 6-11].
يعد نصب الميزان إحدى كرب يوم القيامة التي سيواجهها العباد، وكل مسلم سيشهد وزن أعماله، وسيرى جميع حسناته وسيئاته على هذا الميزان،فماذا أعددت لهذا الموقف العصيب من عمل؟ فالأمر جد وليس بالهزل، فهو خلود إما في الجنان أو النيران، وقد جاء عن معاذ بن جبل رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فلما قدم عليهم قال: يا أيها الناس، إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يخبركم (أن المَردَّ إلى الله، إلى جنة أو نار، خلود ولا موت، وإقامة ولا ظعن) (رواه الطبراني في الكبير واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الجامع) والظعن هو الارتحال.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل سأل الله عز وجل أن يثقل ميزانه، حيث روى أبو الأزهر الأنماري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: «بسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي، واخسأ شيطاني، وفك رهاني، وثقل ميزاني، واجعلني في الندي الأعلى» (رواه أبو داود،والحاكم والطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع) * قال المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير شرح الجامع الصغير: في معنى الندي الأعلى: أي الملأ الأعلى من الملائكة، والندى يفتح النون وكسر الدال وتشديد الياء، كما في الأذكار: القوم المجتمعون في مجلس ومنه النادي، وهذا دعاء يجمع خير الدنيا والآخرة فتتأكد المواظبة عليه كلما أريد النوم، وهو من أجل الأدعية المشروعة عنده على كثرتها.أ.هـ.).
فتثقيل الميزان هم وكرب يشغل الصالحين ويقض مضاجعهم، ولذلك لا يزالون يذكرونه حتى بعد دخولهم الجنة، وكأنه كان أمنية عظمى فحققها الله عز وجل لهم.
فعن صهيب بن سنان رضى الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " [يونس:26] وقال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ نادى مناد: يا أهل الجنة؛ إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل الله موازيننا؟ ويبيض وجوهنا؟ ويدخلنا الجنة؟ وينجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر، يعني إليه ولا أقر لأعينهم) (رواه الإمام أحمد – الفتح الرباني، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة واللفظ له، وابن حبان، والطبراني في الكبير).
مختارات