فقه الفقر (١)
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)} [فاطر: ١٥].
وقال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)} [الحشر: ٨].
الفقر: عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه.
وكل موجود سوى الله تعالى فهو فقير إليه بالذات والصفات؛ لأنه محتاج إلى الله في وجوده، وفي بقائه، وفي حركاته وسكناته، وفي سائر حوائجه.
وفقر العبد إلى ربه بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا ينحصر؛ لأن حاجاته لا حصر لها، فالله عزَّ وجلَّ غني بالذات، والخلق كلهم فقراء إليه بالذات.
وقد نادى الله جميع الناس وأخبرهم بحالهم، ووصفهم بأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه.
فقراء في إيجادهم.
فلولا خلق الله لهم لم يوجدوا.
وفقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، فلولا إعداد الله إياهم بها لما استعدوا لأي عمل كان.
وفقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق، والنعم الظاهرة والباطنة.
فلولا فضل الله وإحسانه وتيسيره الأمور لما حصل لهم من الأرزاق والنعم شيء.
وفقراء إلى الله في تربيتهم بأنواع التربية وأجناس التدبير.
وفقراء إليه في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم.
فلولا تعليمه لم يتعلموا، ولولا توفيقه لم يصلحوا.
وفقراء إلى ربهم في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد، فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم؛ لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.
وفقراء إلى ربهم في تألههم له، وحبهم له، وعبادتهم إياه، وإخلاص العبادة له.
فلو لم يوفقهم لذلك لهلكوا، وفسدت أرواحهم وقلوبهم وأحوالهم.
فهم الفقراء بالذات إلى ربهم بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أو لم يشعروا، ولكن الموفق منهم الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع إليه سبحانه أن يعينه على جميع أموره، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.
الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض، وغناه تام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، ومن غناه أنه أغنى الخلق كلهم في الدنيا والآخرة.
وهو سبحانه الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها عليا، وأفعاله كلها فضل وإحسان، وعدل وحكمة ورحمة، فهو الحميد في ذاته، الحميد في أسمائه وصفاته، الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، الحميد في غناه.
فهذا الفقر العام المطلق، أما الفقر من المال فالعاقل يرى أن الأموال والأشياء كلها في خزائن الله تعالى لا في يد نفسه، فلا يفرق بين أن تكون بيده أو بيد غيره، وكل رزق في الكون فهو من رزقه.
وللفقير إلى الله آداب في باطنه وظاهره.
وآداب في مخالطته.
وآداب في أفعاله.
فأما أدب باطنه، فأن لا يكون فيه كراهة لما ابتلاه الله تعالى به من الفقر، فالله أعلم بما يصلح له، وإن كان كارهاً للفقر، فهذا أقل درجاته وهو واجب، وأرفع من هذا أن لا يكون كارهاً للفقر بل يكون راضياً به، وأرفع منه أن يكون طالباً له وفرحاً به، لعلمه بغوائل الغنى، كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧)} [العلق: ٦، ٧].
وأما أدب ظاهره فأن يظهر التعفف والتجمل، ولا يظهر الشكوى والفقر، بل يستر فقره ويستر أنه يستره، مستغنياً بربه مفتقراً إليه وحده، فهؤلاء الفقراء الأغنياء: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: ٢٧٣].
وأما في أعماله فأن لا يتواضع لغني لأجل غناه، فهذه رتبة، وأقل منها أن لا يخالط الأغنياء، ولا يرغب في مجالسهم؛ لأن ذلك من مبادئ الطمع وهو مذموم.
وأما أدبه في أفعاله فينبغي له أن لا يفتر بسبب الفقر عن العبادة، ولا يمنع بذل قليل ما يفضل عن حاجته، فإن ذلك جهد المقل، وفضله أكثر مما يبذل عن ظهر غنى.
والسؤال محرم في الأصل، وإنما يباح لضرورة أو حاجة مهمة.
وإنما حرمه الشرع؛ لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة:
الأول: أنه إظهار لشكوى الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر، وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه، وهو عين الشكوى لله.
وكما أن العبد المملوك لو سأل غير سيده لكان سؤاله تشنيعاً على سيده، فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى، فهو محرم لا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة للمضطر.
الثاني: أنه فيه إذلال للسائل نفسه لغير الله تعالى، وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله، بل عليه أن يذل نفسه لمولاه، فأما الخلق فإنهم عباد أمثاله، فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة، وفي السؤال ذل للسائل، وظلم للمسئول من الخلق.
الثالث: أن السؤال لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً؛ لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب نفس، فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ، وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع.
ففي المنع نقصان جاهه، وفي البذل نقصان ماله، وكلاهما مؤذيان، والسائل هو السبب في الإيذاء، وأذى المسلم محرم.
مختارات