تابع " أثر الاستغفار على الدعاة إلى الله تعالى وثمراته "
تابع " أثر الاستغفار على الدعاة إلى الله تعالى وثمراته "
3/ تعميق الصلة بالله تعالى:
وملازمة الداعية للاستغفار تقوي صلته يقوي صلته بالله تعالى، وهذا من أهم ما يلزم الداعية.
" والصلة بالله تعالى هي الدعامة الأولى في حياة الدعاة إلى الله تعالى ويرجع السبب في ذلك إلى أن الداعي إلى الله يهدف إلى تعريف الناس بربهم، وتوثيق علاقتهم به، فكيف يتأتى له ذلك إذا كان جاهلا بالله واهي الصلة به، إن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن لا يملك نصاباً لا يزكي، ويضاف إلى هذا أن عبء الدعوة ثقيل تعجز قدرة المرء عن تحمله بمفرده بل ويضيع جهده فيها ما لم يصحبه توفيق الله وعونه، وفي الإشارة إلى الترابط بين هذين المعنيين يقول نبي الله شعيب كما جاء في القرآن: " إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ " [هود: 88] ولا يتأتى للمرء أن يصحبه توفيق الله ونصرته - وبالتالي نجاحه - ما لم يكن على صلة وثيقة بربه، وعلاقة وطيدة بمولاه " (أخلاق الدعاة إلى الله تعالى " النظرية والتطبيق "، د.طلعت محمد عفيفي).
وما من شك في أن حسن صلة الداعية بربه تولد في نفسه طاقة هائلة من القوة والحركة يخدم بها الدعوة، وينفع بها الناس.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: (والصلة بالله هى الأساس الأول في تكوين الدعاة، إذ كيف تدعو الناس إلى أحد، صلاتك به واهية، ومعرفتك له قليلة؟ إن الذين يدعون إلى مرشح من المرشحين أو إلى مبدأ من المبادئ لابد أن تكون أواصرهم بهذا الشخص أو بذلك المبدأ قائمة، ومن ثم لا يفهم بتة أن يتصدى أحد للدعوة إلى الله والأخذ بصراطه، وهو لا يعرف الله ولا يدرى صراطه..!! ولذلك يقول الله جلَّ شأنه: " الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا " [الفرقان: 59].
وقد عرَّف الله نفسه إلى خلقه في آيات بينات استفاض بها الكتاب العزيز، وفي كلمات نفيسة زخر بها تراث النبوة. والناس يتفاوتون في مدى استيعابهم وفقههم لهذه المأثورات المشرقة بنور الله.. والدعاة - بداهة - أجل المؤمنين نصيباً من هذا النور.. والمهم أن ندرك طبيعة هذه الصلة الإلهية، إنها روح ينفث الحياة، وينبض بالحركة والقوة، ويشيع الضوء والدفء " أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون " [الأنعام: 122] وهذه الصلة تشمل في موكبها أرقى ما في الحياة، وأكفل أسباب النجاة، ولذلك يرفض الإسلام أي مقارنة تسويها بغيرها " وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور " [فاطر: 19-22].
وحق على الدعاه - وذلك مكانهم العتيد - ألا يهنوا في الحياة وألا يهونوا، وألا يعدلوا بنسبتهم إلى الله شيئاً، وأن ينظروا إلى الحياة على أنهم أكبر منها.
وأن تغلب رؤيتهم لله كل ما يملأ العين في زحام الأحياء وتكاثرهم، إن وعى الناس للحقائق المبعثرة حولهم يختلف اختلافاً كبيراً، ولما كان العباد قاطبة مكلفين أن يعرفوا ربهم، وأن يؤدوا له حقوقاً معينة، فإن شعورهم به وبحقه، يخالط أعمالهم وأحوالهم، وينزل من نفوسهم منازل بعيدة التفاوت.. وأغلب العامة يقيمون الصلاة مثلاً، والمسيطر على أنفسهم هو ما يقارن كل عادة مأنوسة وكل طريقة مدروسة.. أي شبه الشعور !! لا الوعي الكامل، ولا القريب من الكمال، وقد تتألق في حيوات الناس لحظات ذكر يقظ، وإنابة مخلصة، ثم يستأنفون مسيرهم في دنياهم، وتعفر جبينهم متاعبها ومآربها.. فهل صلة الدعاة بربهم من هذا القبيل؟ لا.. لا.. إن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله، ولدفع الناس إلى سبيله، لابد أن يكون شعورهم بالله أعمق، وارتباطهم به أوثق، وشغلهم به أدوم ورقابتهم له أوضح، أي إنهم إن هبطوا من مجال الضوء المشرق. فإلى قريب منه.. إلى منطقة شبه الظل كما يقال، أما إذا سقطوا في عتمة، فإن ذلك أمر لا تتحمله وظيفتهم) (مع الله: دراسات في الدعوة والدعاة، الشيخ محمد الغزالي، بتصرف).
" إن أهم ما يجب على الداعية ويعينه على القيام بالدعوة توثق صلته بالله تعالى في يقين وقوة إيمان، مفرغا قلبه لله، متين الارتباط به راسخ التوكل عليه، تام التسليم له، ولكل ما يأتي عن الله ورسوله من غير ارتياب أو حرج ليكون قيامه بالدعوة نابعاً في قوله وفعله عن عقيدة إيمانية راسخة، وصلة وثيقة بالله فينطلق بدعوته من مبدأ تحقيق الغاية التي من أجلَّها خلق الله الخلق ألا وهى عبادة الله وحده، قال الله تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " [الذرايات: 56] وبالصلة الصادقة مع الله تعالى يرتفع الداعية بنفسه في عقيدته ومنهجه، ويسعي في تحقيق ذلك لغيره " (صفات الداعية الناجح، صالح محمد العليوي).
إن صلة الداعية بربه تعطيه ثباتاً ورسوخاً وصلابة في مواجهة الشدائد والصعاب والعقبات في وقت توحدت فيه الكثير من الرايات لمواجهة الإسلام والنيل منه.
" إن إيمان الداعي العميق ثابت لا يتزعزع مهما صادفته محنة أو شدة، ومهما كانت حاله من ضعف وقلة، ومهما كان حال الكفرة من قوة ومنعة، حتى لو بقى وحده في الأرض وهكذا كان إيمان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحوالهم لم يتسرب إلى قلوبهم ذرة من الشك في كونهم على الحق، وموصولين بالحق، ويدعون إلى الحق، ولا يضعف إيمان الداعي انصراف الناس عنه وعدم إجابتهم له فلا يدل هذا على أنه مقصر في دعوته ما دام قد أفرغ جهده فالتقصير يعرف - إن وجد - من قلة ما يقدمه الداعي للدعوة لا من عدم إجابة المدعو.
ومثل هذا الإيمان العميق ضروري لكل مسلم وهو للداعي أشد ضرورة في الوقت الحاضر الذي ازدادت فيه محن المسلمين، وعلت فيه شوكة الكافرين وهذا يعطي الداعية دافعا للمزيد من بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه، وتلمس الدواء والعلاج لما آل إليه أمر الإسلام " (أصول الدعوة، د. عبد الكريم زيدان).
وأما السبل والطريق الموصل إلى حسن الصلة بالله، وتقوية الإيمان به فهو أن يذكر الله تعالى على كل أحواله، وحركاته وسكناته، ويحرص على الاستغفار.
" وعلى الداعية أن يكون دائم الحضور مع الله تعالى، دائم الذكر له، ولأجلَّه، وأن لا يبتعد عن كل ما يشغله عن ربه ومهمته، إن رغب فبالله وبما عنده، وإن رهب فمن الله، ومن عذابه أن يلجأ إلى الله في كل شيء، وأن يفزع إليه في كل شيء، وأن يجعل الله جلَّيسه، وكتابه أنيسه، وجدير بالداعية أن يتأسى برسوله صلى الله عليه وسلم فقد تعلق عليه الصلاة والسلام بالله في كل شيء، فهو ذاكره، واثق به، مراقب له، مطيع، خائف، محب، خاشع آناء الليل وأطراف النهار " (مرشد الدعاة، الشيخ محمد نمر الخطيب).
4/ ملازمة الاستغفار دليل الإخلاص:
" إن الداعية المخلص هو الذي يجرد وجهته في عمله ودعوته من أي مطمع دنيوي، ويؤثر رضا الله تبارك وتعالى على من سواه وتحقيق الداعية لهذا الخلق في دعوته يرقى به إلى أرقى المراتب، وأسمى الدرجات، والإخلاص هو الحماية القوية للإنسان من الوقوع في حبائل الشيطان، وإذا كان الإخلاص مطلباً من جميع المؤمنين، وشرطاً من شروط قبول الله للعمل فإن الدعاة إلى الله أحوج الناس إلى هذا الخلق من غيرهم لكونهم اختصوا بحمل أمانة العلم، وشرفوا بالانتساب إلى القرآن " (أخلاق الدعاة إلى الله تعالى " النظرية والتطبيق "، د.طلعت محمد عفيفي سالم، بتصرف).
ويبين الشيخ محمد الغزالي أهمية الإخلاص في حياة الدعاة إلى الله فيقول:
" الإخلاص روح الدين ولباب العبادة، وأساس أي داع إلى الله، وفي ميدان الدين لا يرتفع عمل أبداً ما لم تصحبه نية صالحة، وما لم يقترن بإرادة وجه الله وحده، والإخلاص فريضة على كل عابد وهو في محرابه الخاص، يتعامل مع ربه فحسب، فإذا اتصل الأمر بالدعاة فهو فريضة أكد وعقدة أوثق، واتساع نطاق العمل، واشتباكه مع أحوال الناس، ورضاهم وسخطهم، وقوتهم وضعفهم يجعل الداعية أحرص على استدامة ذكر الله ومطالعة وجهه حتى لا يضل الغاية، ولا يحيد عن النهج في زحمة هذه الحياة " (مع الله: دراسات في الدعوة والدعاة، الشيخ محمد الغزالي).
والداعية الذي يتحلى بالإخلاص في دعوته يؤثر في نفوس المدعوين بموعظته ونصحه، وقوله وفعله.
" ومن أهم صفات الداعية الإخلاص لله في العمل، فلا يطلب على الإرشاد أجراً، ولا يقصد به جزاءً ولاشكوراً من أحد، ولا تحصيل جاه أو شهرة أو سمعة فإن المرشد إنما يكون مقبول النصيحة إذا كان خاليا من الأغراض الدنيوية، أما إذا كان عمله لشيء من هذه الأغراض فلا أثر لقوله في قلوب الناس ألبتة، بل يعمل لوجه الله تعالى وطلباً لمرضاته، وحسن مثوبته، ولا يرى لنفسه منة على من يرشدهم فيجب علينا أن نؤدي الواجب حباً في الواجب، وإطاعة لخالقنا، وتلبية لضمائرنا، وإرضاء لوجداننا، لا إذعانا لسلطان المادة، ولا جريا وراء شهوة نحصل عليها أو مغنم نصيبه، فالداعي حتى يكون وارثاً نبوياً وعالماً ربانياً يجب أن يتحلى بالإخلاص فيي الدعوة إلى الله، وأن يعلم أنه لا يجتمع الإخلاص في القلب، ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار " (هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة، الشيخ علي محفوظ).
والداعية الذي يمرن نفسه على الإخلاص، ويربيها على الترفع عن الغايات الذاتية، والمنافع الشخصية يصير الإخلاص ديدنه في أعماله كلها، وتصرفاته جميعها، قال الله تعالى: " قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ " [الأنعام: 162، 163].
قال صاحب المنار " فتذكر أيها المؤمن أن الذي يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله، يتحرى الخير والصلاح والإصلاح في كل عمل من أعماله ويطلب الكمال في ذلك لنفسه ليكون قدوة في الحق والخير في الدنيا، وأهلا لرضوان الله في الآخرة ثم يتحرى أن يموت ميتة مرضية له تعالى فلا يحرص على الحياة لذاتها ولا يخاف الموت فيمنعه الخوف من الجهاد في سبيل الله لإحقاق الحق وإبطال الباطل وإقامة ميزان العدل والأخذ على أيدي أهل الجور والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا مقتضى الدين يقوم به من يأخذه بقوة وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجريد في التوحيد والراءة من الشرك الجلَّي والخفي فلا يعبد الرب إلا بما أمر دون أهواء الأنفس ونظريات العقول وتقاليد البشر (تفسير المنار، الإمام محمد رشيد رضا).
إن الداعية الناجح في دعوته هو الذي يحرص أن تكون أعماله خالصة لله عز وجلَّ لا يشوبها رياء ولا سمعة ولا منفعة ولا مصلحة ذاتية.
" إن أي عمل لا يتصف بالصلاح والقبول حتى يكون على الشريعة، ويكون خالصاً لله وبناء على هذا فيجب على الدعاة أن يقصدوا من دعوتهم وجه الله وأن تكون جميع تصرفاتهم وأعمالهم وسلوكهم الاجتماعي على وفق شريعة الله، وأن يحاسبوا أنفسهم بشكل دائم وأن يتساءلوا ماذا يريدون من تبليغ الدعوة؟ وماذا يقصدون من دعوة الناس؟ وأن ينظروا إلى أفعالهم هل هي مطابقة لأقوالهم ولسان حالهم؟ فالدعاة إلى الله إذا أدركوا هذه الحقائق ساروا صادقين في درب الإخلاص، ومضوا مخلصين في طريق الدعوة وحقق الله سبحانه على أيديهم إصلاح البشر، وهداية الشعوب، بل الناس يتأثرون بهم ويستجيبون لدعوتهم " (صفات الداعية النفسية، د. عبد الله ناصح علوان).
مختارات