وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
لقد كان بدهياً لمن اصطفاه الله لحمل أعظم رسالة للناس، وفضله على العالمين أن يجمع مكارم الأخلاق، وأن يكون النموذج المثالي الحي للإنسان الكامل، ولا غرابة في ذلك، فالرسول - صلى الله عليه وسلم- الكريم منحة السماء إلى الأرض، ورحمة الله إلى العالمين ربَّاه الله فأحسن تربيته، وأدبه فأحسن تأديبه.
وقد حفل القرآنُ الكريم بالآيات الكريمة التي ترسم لنا صورة مشرقة صادقة لأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- وفضائله، وكان واقع سيرته النبوية أعظم شهادة على عظم أخلاقه - صلى الله عليه وسلم-.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم- كان الينبوع الزاخر المتدفق للفضائل، حلَّاه بها ربه وبعثه لينشر شذاها بين الناس، ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) أحمد. وصححه الألباني في " السلسة الصحيحة " رقم (45).
ولقد سُئلت السيدة عائشة مرة عن خلق الرسول - صلى الله عليه وسلم- فقالت: (كان خلقه القرآن)، ولعل أبلغ وصف وأدق تصوير لخلق الرسول الكريم ما وصفه به القرآن بقوله الجامع الموجز: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(4) سورة القلم وهي شهادة من الله في ميزان الله لعبد الله يقول فيها: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(4) سورة القلم ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين.
ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم- تبرز من نواح شتى: تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله.
وتبرز من جانب آخر من جانب إطاقة محمد - صلى الله عليه وسلم- لتلقيها، وهو يعلم من ربه هذا، قائل هذه الكلمة. ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة التي يدرك منها ما لا يدركه أحد من العالمين.
ولقد رويت عن عظمة خُلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة، وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه؛ ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر، أعظم بصدورها عن العلي الكبير، وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير، وبقائه بعدها ثابتاً راسخاً مطمئناً، لا يتكبر على العباد، ولا يتعاظم وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير!
والله أعلم حيث يجعل رسالته، وما كان إلا محمد-صلى الله عليه وسلم-بعظمة نفسه هذه من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى، فيكون كفؤاً لها، كما يكون صورة حيه منها.
إن هذه الرسالة من الكمال، والجمال، والعظمة، والشمول، والصدق، والحق بحيث لا يحتملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء. انظر ظلال القرآن (6/3656).
فقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(4) سورة القلم، شهادة من الله له-صلى الله عليه وسلم- بأنه على أكمل الأخلاق وأتمها، وأرفعها، وأفضلها، بحيث لا يُدانى فيها بحال من الأحوال.
لقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم-يتحلى ويتجمل بأخلاق عظيمة، فكان-صلى الله عليه وسلم- يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يُجهل، سلاسة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أُوتي جوامع الكلم، وخُصَّ ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي.
كان - صلى الله عليه وسلم- يغض الطرف فلا يتبع نظره الأشياء، وكان جل نظره الملاحظة فلا يحملق إذا نظر، ونظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، إذا مشى مع أصحابه يسوقهم أمامه فلا يتقدمهم، ويبدأ من لقيه بالسلام، وكان-صلى الله عليه وسلم-لا تُغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعرض للحق لم يعرفه أحد، ولم يقيم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جُلُّ ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام، وإذا تكلم تكلم ثلاثاً، وإذا سلم سلم ثلاثاً، إذا استأذن استأذن ثلاثاً، وذلك ليُعقل عنه، ويُفهم مراده من كلامه نظراً إلى ما وجبعليه من البلاغ، وكان يشارك أصحابه في مباح أحاديثهم، فإذا ذكروا الدنيا ذكرها معهم، وإذا ذكروا الآخرة ذكرها معهم، وإذا ذكروا طعاماً أو شراباً ذكره معهم، وكان لا يعيب طعاماً يُقدَّم إليه أبداً، وإنما إذا أعجبه أكل منه، وإن لم يعجبه تركه). انتهى بتصرف يسير. هذا الحبيب يا محب ص 523-524).
وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفاتٌ أدّبه الله بها، وكل حليم قد عُرفت منه زلة، وحُفظت عنه هَفْوَة، ولكنه - صلى الله عليه وسلم- لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى إسراف الجاهل إلا حلماً، وقالت عائشة: (ما خُيِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها). البخاري - الفتح- كتاب المناقب باب صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- (6/654) رقم (3560). وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً.
وكان من صفة الجود والكرم على مالا يُقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس: (كان النبي-صلى الله عليه وسلم-أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فالرسول الله - صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة).البخاري - الفتح- كتاب المناقب باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (6/653) رقم (3554). وقال جابر: (ما سئل شيئاً قط فقال: لا). البخاري - الفتح- كتاب الأدب باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (10/470) رقم (6034).
وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذي لا يُجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكُماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أُحصيت له فَرَّة، وحُفظت عنه جولة سواه، قال علي: " كنا إذا حمي البأس واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ". قال أنس: " فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي، في عنقه السيف، وهو يقول: (لم تُرَاعوا، لم تُرَاعوا). البخاري - الفتح- كتاب الجهاد والسير باب إذا فزعوا بالليل (6/189) رقم (3040)، ومسلم كتاب الفضائل- باب شجاعته عليه السلام وتقدمه في الحرب- (4/1802)- رقم (2307).
وكان أشد الناس حياء وإغضاء، قال أبو سعيد الخدري: " كان أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عُرف في وجهة، وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يُشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يُسمِّي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول. (ما بال أقوام يصنعون كذا) (السلسلة الصحيحة (2064). وكان أحق الناس بقول الفرزدق:
وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه، وكان يُسمَّى قبل نبوته الأمين، ويُتَحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روى الترمذي عن علي أن أبا جهل قال له: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله –تعالى- فيهم: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}الأنعام:33. وسأل هرقل أبا سفيان: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.
وكان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة: كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. مشكاة المصابيح (1/521) السلسلة الصحيحة (671).
وكان أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخَّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحداً يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أُفٍّ قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره.
كان في بعض أسفاره فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: عليَّ ذبحها، وقال آخر: عليَّ سلخها، وقال آخر عليَّ طبخها، فقال - صلى الله عليه وسلم-: (وعلي جمع الحطب)، فقالوا: نحن نكفيك. فقال: (قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه)، وقام وجمع الحطب. مشكاة المصابيح (1/520).
ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؛ قال هند فيما قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه - لا بأطراف فمه - ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذمُّ شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً – ما يُطعم - ولا يمدحه، ولا يُقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها - سماحة - وإذا أشار أشار بكفه كُلِّها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جُلَّ ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام.
وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلِّف أصحابه ولا يُفرِّقهم، يكرم كريم كل قوم، ويُولِّيه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره.
يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويُحسِّن الحسن ويُصوِّبه، ويُقبِّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره.
الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذِكر، ولا يوطن الأماكن - لا يميز لنفسه مكاناً- إذا انتهي إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلس حلم، وحياء، وصبر، وأمانة، لا تُرفع فيه الأصوات، ولا تؤبن (من الأبن، وهو العيب والتهمة) فيه الحرم - لا تُخشى فلتاته-، يتعاطفون بالتقوى، يُوقِّرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويُؤنسون الغريب.
كان دائم البِشْرِ، سهل الخُلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صَخَّاب، ولا فَحَّاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحداً، ولا يُعَيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا. لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، يقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ. انظر الشفاء للقاضي عياض (1/121-126).
وقال خارجة بن زيد: كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلاً لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيراً له واقتداء به.
ووصفه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- وهو من أعرف الناس به، وأكثرهم عشرة له، وأقدرهم على الوصف والبيان، فقال: لم يكن فاحشاً، ولم متفحشاً، ولا صخَّاباً في الأسواق، ولا يحكي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ما ضرب بيده شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادماً ولا امرأة، وما رأيته منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله –تعالى- شيئاً، فإذا انتهك من محارم الله كان من أشدهم غضباً، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وإذا دخل بيته كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. السيرة النبوية للندوي (ص484-486).
مختارات