إستراحة المسافر
الـمـقـدمـة:
وبعد أن قطعنا شوطا فى التعرف على معالم الطريق وعقباته.. وبعد أن تعلمنا كيف يكون العبور على الجسور، آن لنا أن نأخذ قسطا من الراحة.. فالمسافر الى الله تعالى لابد له من الاستجمام ليستعين به على اتمام المسير، واكمال الشوط لتتمالنفرة ويتنشط البدن ويتروح القلب.. فيكون ذلك تقوية للانطلاق فى قطع مرحلة تالية.
اذا فلابد للمسافر من وقفات على الطريق.. وقفات ترويحية على جنبات الطريق، يستروح فيها الى بعض المباحات من لهو ومزاح وانبساط، وما يتبع ذلك من لين القول والتبسم وانشراح الصدر، وكل ما يؤدى من مباح الى تطييب النفس ومؤانستها فهو سنة مستحبة.
يقول ابن القيم – عليه رحمة الله – فى " زاد المعاد ":
" وكانت سيرته صلى الله عليه وسلم مع أزواجه حسن المعاشرة، وحسن الخلق، وكان يسرب الى عائشة بنات الانصار يلعبن معها. وكان اذا هويت شيئا لا محذور فيه تابعها عليه، وكانت اذا شربت من الاناء أخذه فوضع فمه فى موضع فمها وشرب، وكان اذا تعرقت عرقا – وهو العظم الذى عليه لحم – أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتكىء فى حجرها ويقرأ القرآن ورأسه فى حجرها، وربما كانت حائضا، وكان يأمرها وهى حائض فتتزر ثم يباشرها، وكان يقبلها وهو صائم، وكان من لطفه وحسن خلقه مع أهله أنه كان يمكنها من اللعب، ويريها الحبشة وهم يلعبون فى مسجده وهى متكئة على منكبيه تنظر، وسابقها فى السفر على الاقدام مرتين، وتدافعا فى خروجهما من المنزل مرة ".
فقد يحتاج الامر الى ملاعبة الزوجة، او ارضائها بنزهة لا تخلو من ذكر وتأمل فى بديع صنع الله وملاعبة للأولاد لا تخلو من تعبد فى التربية.. وسمر سريع لطيف مع صحبة صالحة.. بذكر جميل الشعر ونوادر الطرائف والحكايات، بعيدا عن الماجريات.
قال ابو الدرداء رضى الله عنه وروى عن على رضى الله عنه أيضا: " روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فانها تمل كما تمل الابدان ".
هذه الاستراحة يجرى فيها أيضا شىء من التلطف بالنفس وسياستها، لكى تنقاد بعد ذلك أسهل وأيسر.. فالاستلقاء مثلا مع اعمال الفكر والنظر: نوع من انواع الترويح المأجور عليه ان أحسن المسافر نيته.. قال معاذ بن جبل رضى الله عنه: انى لاحتسب نومتى، كما احتسب قومتى.
ولكن الشأن فى المزاح فيمن يحسنه ويضعه مواضعه.. فيضبطه بضوابطه الشرعية.. فما رافقه أو نتج عنه استهزاء أو سخرية أو استخفاف أو تهكم أو كذب.. فهو المنهى عنه شرعا.. وما كان عن تعجب أو اعجاب أو ملاحظة وتحبب، أو ادخال للسرور على قلب اخر.. فهو المباح شرعا.
ولعل القاعدة الجامعة، ما حددها الامام النووى بقوله:
" المزاح المنهى عنه هو الذى فيه افراط ويداوم عليه، فانه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله – تعالى -، والفكر فى مهمات الدين، ويؤول فى كثير من الاوقات الى الايذاء ويورث الاحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما ما سلم من هذه الامور فهو المباح الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، فانه صلى الله عليه وسلم انما كان يفعله فى نادر من الاحوال لمصلحة وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهذا لا منع منه قطعا، بل هو سنة مستحبة اذا كان بهذه الصفة.. فاعتمد ما نلقاه عن العلماء وحققناه، فانه مما يعظم الاحتياج اليه، وبالله التوفيق ".
وانظر ايضا الى الميزان الدقيق.. الذى وضعه سعيد بن العاص حين قال لابنه:
" اقتصد فى مزاحك، فان الافراط فيه يذهب البهاء ويجرىء عليك السفهاء، وان التقصير فيه يفض عنك المؤانسين ويوحش منك المصاحبين ".
" وقد سئل ابن عمر – رضى الله عنهما -: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال نعم، والايمان فى قلوبهم مثل الجبل.
وقال بلال بن سعد: أدركتهم يشتدون بين الاغراض ويضحك بعضهم الى بعض فاذا كان الليل كانوا رهبانا ".
وفى استراحة المسافر يمكن أن نجد بعض الالعاب والمسابقات، كما نجد بعض المسامرات: كالحكمة والطرفة والفكاهة والمثل والشعر والقصة.. وغير ذلك.. وهاك طرفا من تلك الترويحات:
مختارات