" وجوب لزوم السنة في طريق إصلاح القلب "
" وجوب لزوم السنة في طريق إصلاح القلب "
من خلال ما تقدم من مباحث يظهر بجلاء أن أعمال القلوب من أصول الإيمان وقواعد الدين، وما دامت كذلك فمحال ألا يكون في الكتاب والسنة ما يشفي ويكفي في علمها وطريق تحصيلها.
ولكن لما بعدت الشقة بين كثير من الناس وبين تدبر القرآن والفقه في السنة، دعت الحاجة إلى إبراز تلك المعاني العظيمة، تبصرة وذكرى.
والكلام في تلك الأصول وطلب تحصيلها يجب أن يكون مستقى من القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، موافقًا للهدي النبوي، وما كان عليه سلف الأمة.
فمحبة الله التي هي رأس أعمال القلوب مقتضاها اتباع السنة: " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " [آل عمران: 31].
وأهل الرجاء لله هم أهل التأسي بنبيه صلى الله عليه وسلم: " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ " [الأحزاب: 21].
والتقوى التي هي جماع صلاح القلب والجوارع سبيلها اتباع الصراط المستقيم " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [الأنعام: 153].
قال مجاهد: السبل: البدع والشبهات (الدارمي).
وفي اتباع الوحيين عصمة " فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ " [التكوير: 28]، " ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " [البقرة: 2]، " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " [الحشر: 7].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاًا ليس عليه أمرنا، فهو رد» (أخرجه البخاري ومسلم) وهذا الحديث ميزان لما عليه الناس من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (أخرجه مسلم).
يقول ابن تيمية: (فمن بنى الكلام في العلم -الأصول والفروع- على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين، فقد أصاب طريق النبوة).
وكذلك من بني الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى) (مجموع الفتاوى).
وربما التبس على بعض الناس الحق بالباطل مع كثرة الاختلاف وتعدد الآراء، والمخرج من ذلك أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوًا عليها بالنواجذ، وإياكم والمحدثات، فإن كل محدثة بدعة» وفي لفظ «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» (أخرجه أحمد والترمذي وصححه الالباني).
وحسن النية والصدق في طلب الخير ليسا كفيلين بالفلاح ما لم يقرنا بالاتباع، فعن عمرو بن يحيى قال: (سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج، مشينًا معه إلى المسجد؛ فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج، قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت تراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، في أيديهم حصى، فيقول كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك؟ قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت أن لا يضيع من حسناتهم شيء.
ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلقات، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، فقال: وكم من مريد للخير لن يصيبه ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله، لا أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم فقال عمرو بن سلمة: رأيت عامة أولئك يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج) (أخرجه الدارمي وهو في السلسلة الصحيحة).
هذا وإن بعض من يسلك الطرق المبتدعة يحتج بما يجده في ذلك من أعمال قلبية، وهذا ليس دليلا على صحة ذلك الطريق. بل المعول في ذلك على موافقة السنة، وقد يكون ما يجده فتنة واستدراجًا.
ومن أنكر هذا فليتأمل حال الخوارج، الذين جاءت النصوص النبوية بذمهم والأمر بقتلهم، وأنهم كلاب النار، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، مع أنهم وصفوا في النصوص بأنهم يحقر المرء صلاته عند صلاتهم، وقراءته عند قراءتهم، ومع ما كانوا عليه في عصر الصحابة من عظيم التعبد وإظهار الخشية والبكاء عند تلاوة القرآن.
ولله در العالم الرباني الأوزاعي حين قال: (من ابتدع بدعة خلاه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء؛ لكي يصطاد به) (الحوادث والبدع) ولكي يثبت على بدعته، فيكون من الأخسرين أعمالاً " الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا " [الكهف: 104].
وقد ورد أن ابن عباس قيل له: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب (الأثر أورده ابن القيم في الوابل الصيب منسوبًا لابن عباس، وذكر محققه الأنصاري أنه ورد معناه عن الأعمش عند أبي نعيم في الحلية، وعن العلاء بن زياد عند أحمد في كتاب الزهد. الوابل الصيب بتحقيق الأنصاري).
وربما اغتر بعض سالكي الطرق البدعية بما يجدونه من خوارق يظنونها كرامات، تدل على سلامة طريقهم.
وهذا خطأ بين؛ فالخوارق ليست دليلا على ولاية من جرت له. ألا ترى أن المسيح الدجال ثبت في النصوص النبوية أنه تجري على يده خوارق عظيمة، ولم يكن ذلك دليلاً على إسلامه ولا ولايته، وقد شاهد الناس خوارق تجري على أيدي وثنيين كفار، وسحرة ومشعوذين.
فإن قيل: فكيف تميز كرامات الأولياء عن الأحوال الشيطانية؟
فالجواب: أن أولياء الله عرفنا بهم ربنا بقوله: " أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ " [يونس: 64] فأهل الإيمان والتقوى هم أولياء الله، قد تقدم أن القرآن دل على أن التقوى تنال باتباع الصراط المستقيم وتجنب سبل الشيطان وهي البدع والشبهات وليس من شرط الولاية جريان الخوارق (انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان).
مختارات