الآفة الحادية عشرة - ضيق الأفق أو قصر النظر
والآفة الحادية عشرة التي يبتلى بها كثير من العاملين، ويعانى منها العمل الإسلامي أشد المعاناة، إنما هي: ضيق الأفق أو قصر النظر وحتى نسهم في اقتلاع هذه الآفة من النفوس من ابتلوا بها وتحصين الآخرين ضدها، ويسلم من شرها العمل الإسلامي، فإنه لابد من تقديم تصور دقيق واضح على النحو التالي: أولاً: مفهوم ضيق الأفق أو قصر النظر ضيق الأفق لغة: الأفق لغة واحد الآفاق التي هي الجهات أو النواحي، قال تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق } و النظر هو تأمل الشيء بالعين، قال تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت }، وهو كذلك تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، قال تعالى { أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض، وما خلق الله من شئ.... } وتبعاً لما ذكرنا، فإن ضيق الأفق في اللغة، يعنى انحسار أو انكماش جهة أو ناحية النظر والتأمل وكذلك قصر النظر يعنى ضعف أو اختلال البصر و البصيرة أو هما معاً. ضيق الأفق اصطلاحاً: أما مفهوم ضيق الأفق أو قصر النظر في الاصطلاح الشرعي و الدعوى فهو ضعف أو خلل في البصيرة يؤدى إلى حصر التفكير أو الرؤية في حدود ضيقة لا تتجاوز المكان و الزمان، أو بعبارة أخرى، هو ضعف أو خلل في البصيرة يؤدى إلى رؤية القريب وما تحت القدمين فقط، دون النظر إلى البعيد، ودون تقدير الآثار و العواقب، قال تعالى { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }. ثانياً: أسباب ضيق الأفق أو قصر النظر: ولضيق الأفق أو قصر النظر أسباب تؤدى إليه، وبواعث توقع فيه، نذكر منها: 1- النشأة الأولى: فقد ينشأ الإنسان في بيئة لا تهتم كثيراً بتنمية الذكاء الفطري أو المواهب لدى أفرادها فتكون العاقبة انحسار دائرة التفكير أو النظر أو التأمل إلا من رحم الله - عز وجل -. 2- صحبة نفر من ذوى الأفق الضيق و النظر القصير: وقد يحيط بالإنسان صحبة ذات أفق ضيق، ونظر قصير، فتسرى آثار ذلك إلى هذا الإنسان، فإذا به يواجه كل المواقف بنفس النمط، وعلى هذا المنوال، إذ المرء على دين خليله. 3- الانزواء أو العزلة: وقد يؤثر الإنسان العزلة و الانزواء، إما لعدم القدرة على التوفيق بين الفردية و الجماعية، وإما إيثاراً للعافية و السلامة، ومثل هذا وإن جنى كثيراً من ثمار العزلة أو التفرد، فإنه يخسر أول ما يخسر الخبرة أو التجربة، تلك التي تستفاد من ملازمة الجماعة والارتماء في أحضانها، و التي تساعد على اتساع الأفق، وبعد النظر، وحين يخسر الإنسان الخبرة، فإنه يظل ذا أفق ضيق، ونظر قصير محدود. 4- عدم الفهم لدور أو لرسالة الإنسان في الأرض: وقد لا يفهم الإنسان دوره أو رسالته في الأرض، من أنه خليفة فيها { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..} وأن هذه الخلافة إنما هي سيادة { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } وعبودية { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }، وإن تحقيق هذا الدور أو الرسالة يقتضي التبصر و التدبر { وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون }، و العمل الدائم بالليل و النهار { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله و المؤمنون }، وقد لا يفهم الإنسان ذلك كله، فيقعد وينام، أو ينطلق على غير هدى وبصيرة، وأنى لهذا أن يكون واسع الأفق بعيد النظر؟. 5- عدم الفهم لحقيقة ومضمون الإسلام: وقد لا يفهم المسلم حقيقة ومضمون الإسلام، من أنه دين شامل للحياة جميعاً، وإلى قيام الساعة:{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } وأن الدعوة إليه، و التمكين له في الأرض يقتضي الحكمة التي من لوازمها اتساع الأفق، وبعد النظر، كما قال سبحانه وتعالى { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني }، { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة } وقد لا يفهم المسلم ذلك فيدعو إلى هذا الإسلام، ويعمل على التمكين له دون أن يجهد نفسه في تحصيل الحكمة، وأنى لمن حرم الحكمة أن يكون واسع الأفق بعيد النظر؟. 6- عدم الإلمام بواقع الأعداء وأسلوبهم في العمل: وقد يكون المسلم غير ملم بواقع الأعداء، وأسلوبهم في العمل من أنهم كثرة، وأن لديهم العتاد و العدد، وأن أسلوبهم في العمل يقوم على الدهاء و المكر و الخديعة، قد لا يلم المسلم بذلك كله، فتضيع عليه فرصة اكتساب الخبرة و الدراية و التجربة، وأنى لمن لم يكتسب خبرة ولا دراية ولا تجربة أن يكون واسع الأفق بعيد النظر؟. 7- الإعجاب بالنفس، بل الغرور و التكبر: وقد يكون الإنسان معجباً بنفسه، مغروراً متكبراً فيحمله ذلك على الترفع، والاستعلاء أن يكتسب من غيره الخبرة أو مهارة أو تجربة، فيبقى طول حياته محدود الأفق قصير النظر. 8- الغفلة عن العواقب أو الآثار المترتبة على ضيق الأفق، أو قصر النظر، وقد يكون المسلم غافلا عن العواقب أو الآثار المترتبة على ضيق الأفق، أو قصر النظر، فيقنع بما هو عليه دون أن يجهد نفسه، أو أن يعمل فكره في تلاشى هذه العواقب، أو تلك الآثار، ومثل هذا يظل طول حياته ضيق الأفق، محدود النظر. 9- الجهل بأخبار وحوادث الماضين: وقد يكون المسلم جاهلاً بأخبار وحوادث الماضين وكيف كانوا يتصرفون بإزاء المواقف المباغتة أو المفاجئة، ومثل هذا يعيش محروماً من الخبرة و الدراية و التجربة، التي هي أساس اتساع الأفق، وبعد النظر، وصدق الله - سبحانه وتعالى - الذي يقول عن أخبار وحوادث الماضين: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب }، { فاقصص القصص لعلهم يتفكرون }. 10- ضعف الصلة بالله - عز وجل - وقد يكون المسلم ضعيف الصلة بالله - عز وجل - بأن يكون غير محترز من المعاصي و السيئات، لاسيما الصغائر منها، أو أن يكون مفرطاً في عمل اليوم و الليلة، أو أن يكون مهملاً لجانب فعل الخيرات، فيعاقب على ذلك كله بالحرمان من الحكمة التي هي أساس سعة الأفق وبعد النظر. ولعل ذلك هو المفهوم من قوله تعالى في كتابه الحكيم: { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً } ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي يقول الله تعالى: " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته " ثالثاً: مظاهر أو سمات ضيق الأفق أو قصر النظر: ولضيق الأفق أو قصر النظر مظاهر أو سمات يعرف بها وتدل عليه نذكر منها: 1- التبرم الشديد بالمنهج الدعوى أو الحركي الذي ارتضته الحركة الإسلامية المعاصرة، من أجل التمكين لدين الله في الأرض، ووصف هذا المنهج بالتخلف، وعدم القدرة على مواكبة ظروف ومستجدات العصر، بل ووصف القائمين عليه بالركون إلى الدنيا إيثاراً للعافية و السلامة. 2- حصر الجهد في جوانب، وإن كانت مفيدة إلا أنها ثانوية، تستهلك طاقة كبيرة، ووقتاً طويلاً، مثل العمل على بناء مسجد أو إنشاء جمعية خيرية، أو إلقاء موعظة، أو تأليف كتاب، أو قراءة ومطالعة، أو عيادة مريض، أو محاولة جمع الناس على رأي واحد في مسائل الفروع، أو المسائل المختلف فيها، وهكذا دواليك. 3- الصلابة أو الشدة عند التقصير في سنة من السنن، أو هيئة من الهيئات، و السكوت وعدم تغير القلب أو تمعر الوجه عند تضييع فريضة من الفرائض، أو واجب من الواجبات، فتراه مثلاً يقيم الدنيا ولا يقعدها على من لا يهتم بتقصير ثيابه، أو لا يحافظ على السواك، أو لا يلبس الساعة في اليد اليمنى، ولا تتحرك فيه شعرة عندما يرى حكم الله معطلاً في الأرض، وأهل الباطل يصدون عن سبيل الله، ويسومون أولياء الله سوء العذاب. 4- علاج المشكلات التي تعانى منها الأمة الإسلامية بطريق تعاطى المسكنات دون البحث عن أصل الداء، وسبب العلة، ثم اجتثاث هذا الأصل، أو هذا السبب من جذوره، فمثلاً نسمع ونرى علاج مشكلة الحانات و البارات ومراكز الفيديو الداعرة، إنما يكون بالتكسير وإشعال الحرائق، وحقيقة العلاج يجب أن ينصرف إلى إيجاد السلطان الذي يقيم شرع الله في الأرض، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ثم إحداث وعى في الأمة يغير العرف العام ويجعلها تحمل مسئولية أو أمانة تطبيق شرع الله بنفسها. 5- استعجال النتائج أو قطف الثمار قبل أوانها ن وقد قيل: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. رابعاً: آثار ضيق الأفق أو قصر النظر: ولضيق الأفق أو قصر النظر آثار سيئة وعواقب وخيمة على العاملين، وعلى العمل الإسلامي وهاك طرفاً منها: آثار ضيق الأفق على العاملين: فمن آثار ضيق الأفق أو قصر النظر على العاملين: 1- تبديد الجهود وإهدار الطاقات فالأثر الأول: تبديد الجهود وإهدار الطاقات في أمور نافعة مفيدة لكنها ثانوية بل هامشية، وإذا بددت الجهود، وأهدرت الطاقات في مثل هذه الأمور، فإن المسلم العامل سيعجز بعد ذلك ويفقد القدرة على مواجهة المهام الجسام، و التبعات الضخمة. ولعل هذا الأثر هو المفهوم من توجيه القرآن للمسلمين أول مرة: أن يقيموا الإسلام في أنفسهم وأن يحسنوا الترابط فيما بينهم { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى }، { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها }، دون أن يستجيبوا لأي إثارة أو يردوا على أي أذى أو اضطهاد يوجه إليهم من عدوهم: { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة... }، { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين }. كل هذا من أجل أن تنمو طاقاتهم، وتتضاعف جهودهم بل ويحتفظ بهذه الجهود وتلك الطاقات لتوجه نحو النافع والمفيد في الوقت المناسب وفي اللحظة المناسبة، وقد كان... فإن أولئك الذين جاهدوا أنفسهم وترابطوا فيما بينهم، وأوذوا فصبروا طوال المرحلة في بدر، رغم عدم التكافؤ بين الفريقين، لا في العدد ولا في العدة، وسجلت لهم صور تدل على مدى امتلائهم وشحنهم من داخلهم ضد أعداء الله وأعدائهم، ولعل من أبرز هذه الصور ما صنعه بلال بن رباح مع أمية بن خلف، إذ يقول عبد الرحمن بن عوف: " كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتى (خاصتى) بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن، قال: لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته: عبد عمرو، فلما كان في يوم بدر، خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس، فأبصره بلال فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار فقال: أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم، فقتلوه، ثم أتوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له ابرك فبرك فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه. 2- اليأس و القنوط: والأثر الثاني هو اليأس و القنوط، وذلك أن ضيق الأفق أو قصر النظر سيواجه في طريقه كثيراً من العقبات و الصعاب، ولن يستطيع - لضيق أفقه أو لقصر نظره - استيعاب هذه العقبات وتلك الصعاب، ومحاولة التغلب عليها وتكون النتيجة: اليأس و القنوط، بله القعود عن أداء الدور والقيام بالواجب، ولعمري ذلك هو أهم ما يسعى إليه أعداء الله، ليخلوا لهم الجو ويفسح أمامهم المجال: " خلا لك الجو فبيضي واصفري ". 3- قلة بل تلاشى كسب الأنصار و المؤيدين: والأثر الثالث إنما هو قلة بل تلاشى كسب الأنصار و المؤيدين، ذلك أن ضيق الأفق أو قصر النظر نادراً ما يصادفه التوفيق و النجاح، ومن يفقد التوفيق و النجاح لا يبقى لديه ما يغرى به الناس، حتى يكسب منهم نصيراً، أو على الأقل مؤيداً، و الواقع يؤيد ذلك، فكم من ضيق أفق أو قصير نظر يعيش ويموت وليس من حوله إلا أفراداً يعدون على الأصابع، فضلاً عن نفور كثير من الناس منه، وإعراضهم عنه. 4- الحرمان من التوفيق الإلهي: والأثر الأخير هو الحرمان من التوفيق الإلهي، ذلك أن ضيق الأفق أو قصير النظر، يريد من كل الناس السير وفق تصوره الضيق ورؤيته المحدودة، ولن يستجيب له الناس، وحينئذٍ يسلقهم بألسنة حداد، ويجعل من لحومهم غذاءً شهياً، وأنى لمن يلغ في أعراض الناس، ويعيش على لحومهم أن يمنحه ربه توفيقاً أو تأييداً؟ آثار ضيق الأفق على العمل الإسلامي: ومن آثار ضيق الأفق أو قصر النظر على العمل الإسلامي: 1- التشويه: ذلك أن ضيق الأفق وقصر النظر سيوجه العمل الإسلامي إلى علاج المشكلات عن طريق المسكنات دون النظر في الأسباب وبترها من جذورها على النحو الذي ذكرنا آنفا ومثل هذه الأسلوب في العمل غير مجد فضلا عما سيصاحبه من طول الطريق وكثرة التكاليف وحينئذ يجدها أعداء الله فرصه للتشويه وتقديم الإسلام وصورة العمل له على أنهما غير قادرين على مواجهة مشكلات العصر ووضع الحلول المناسبة لها. (2) المصادرة: وذلك أن العمل الإسلامي يواجه كثيرا من العقبات والصعاب التي يضعها أعداء الله في طريقه وضيق الأفق أو قصر النظر سيؤدى إلى الصدام بهذه العقبات وتلك الصعاب وعدم القدرة على استيعابها أو تحايل عليها وحينئذ تكون المصادرة وعدم السماح بالاستمرار. (3) الضرب أو على الأقل الإجهاض: وذلك أن ضيق الأفق أو قصر النظر سيحرم العمل الإسلامي من الأنصار المؤيدين بل من التوفيق والعون الإلهي ويوم يحرم العمل الإسلامي من ذلك فإنه يسهل على أعداء الله ضربه أو على الأقل إجهاضه والرجوع به إلى الوراء عشرات السنين. خامسا: علاج ضيق الأفق أو قصر النظر: هذا ويمكن علاج ضيف الأفق أو قصر النظر بل والتحصين ضده باتباع الأساليب التالية: (1) التعويد على حمل المسؤلية في الصغر ومنذ نعومة الأظفار فإن ذلك يكسب الإنسان كثيرا من الخبرات والتجارب وينمى لديه مواهبه أو ذكاءه الفطري فإذا شب بعد ذلك كان واسع التصور بعيد الرؤية. ولنا في أنبياء الله ورسله لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة إذ حملوا بأنفسهم مسئولية الحياة في الصغر ومنذ نعومة أظفارهم الأمر الذي ساعد على تنمية مواهبهم وقدرتهم على سياسة النفوس وإصلاحها بعد الرسالة وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى هذا الأسلوب التربوي حين قال: (ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم) فقال أصحابه: وأنت فقال (نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة). (2) اقتلاع النفس من بين ذوى الأفق الضيق والنظرة المحدودة والارتماء في أحضان أصحاب الخيرات والتجارب الذين اتسموا بسمة التصور الواسع والرؤية البعيدة وملازمة هؤلاء دوما مع التواضع وخفض الجناح لهم فإن ذلك يؤدى بمرور الزمن إلى تنمية المواهب الفطرية وتعلم الحكمة التي يعد اتساع الأفق أو يعد النظر أمارة من أماراتها وسمة بارزة من سماتها. (3) الفهم الدقيق لرسالة الإنسان ودوره في الأرض وسبيل القيام بهذا الدور وهذه الرسالة. (4) الفهم الدقيق لحقيقة ومضمون الإسلام وسبيل العمل أو التمكين له في الأرض فإن هذا الفهم كثيرا ما يحمل على جمع الهمة من أجل التطبيق والتنفيذ الأمر الذي يساعد على سعة الأفق وبعد النظر. (5) الإلمام التام بواقع الأعداء وسبيلهم أو مناهجهم في العمل فإن هذا الإلمام كثيرا ما يحمل صاحبه على قدح زناد الفكر والاحتيال من أجل إبطال هذه السبيل أو هذا النهج وذلك هو ما نعنيه بسعة الأفق وبعد النظر. (6) معايشة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته فإنها حافلة بالكثير من المواقف التي تساعد على سعة الأفق وبعد النظر وحسبنا من هذه المواقف ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لم يحطم الأصنام الموجودة في جوف الكعبة وعلى سطحها إلا في العام الثامن من الهجرة يوم فتح مكة لأنه كان يرى أن البدء بتحطيم هذه الأصنام قبل تحطيم الأصنام الموجودة بداخل النفوس تلك التي توجه وتدعو إلى الشرك والإثم والرذيلة سيساعد على إعادة بناء هذه الأصنام من الذهب بدلا من الحجارة بل سيضاعف من عددها لذا تركها وعمل إلى إصلاح النفوس من داخلها تطبيقا لقوله تعالى { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} حتى إذا صلحت هذه النفوس واستقامت على منهج الله وترابطت فيما بينها قادها صلى الله عليه وسلم وفتح بها مكة وحطم بها هذه الأصنام وكذلك ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية إذ قبل هذا الصلح رغم القسوة التي انطوت عليها شروطه حتى ضايق ذلك كثيرا من الصحابة وعلى رأسهم عمر رضى الله تعالى عنه لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينظر بعين النبوة وكان يرى أن هذه الشروط وإن بدا أنها قاسية فإنها ستسفر عن خير كثير للمسلمين وذلك هو ما أكده الواقع فقد زاد عدد المسلمين بعد الحديبية إلى أضعاف أضعاف ما كانوا قبله حسبنا أن عدد المقاتلين في غزوة الخندق وهي التي كانت في السنة الخامسة من الهجرة كان ثلاثة آلاف وإذا به يصل يوم فتح مكة إلى عشرة آلاف وما حدث هذا بسبب التزاور والاختلاط بين الفريقين واطلاع المشركين على أخلاق المسلمين وأحوالهم نتيجة الهدنة ووضع الحرب بين الفريقين لعشر سنوات وكذلك جاء المشركون بعد فترة من إبرام هذا الصلح يطالبون بإلغاء شرط (ومن جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما رده إلى المشركين) بعد ما أذاقهم أبو بصير ورفاقه الأمرين وبعد ما قطعوا طريق تجارتهم حتى اضطروهم إلى أكل الجيف والميتة وأوراق الشجر من شدة الجوع. هذه المواقف وغيرها تعلم كيف تكون سعة الأفق وبعد النظر. (7) حسن الصلة بالله عز وجل من ترك للمعاصي والسيئات صغيرها وكبيرها ومن المواظبة لي عمل اليوم والليلة ومن التفاني في فعل الخيرات فإن ذلك يورث الحكمة التي عنوانها: سعة الأفق وبعد النظر. (8) دوام الاطلاع على خبرات وتجارب الماضين فإنها مشحونة بالكثير والكثير الذي يكسب الخبرات والتجارب وينمى المواهب والقدرات وحسبنا في هذا المقام ما أثر عن الحافظ أبى الفرج المعروف بابن الجوزى ت 597 إذ سأله رافضي في مجلس وعظ عام قائلا له: (يا سيدي: نريد كلمة ننقلها عنك أيهما أفضل أبو بكر أو على؟ وأدرك أبو فرج خبث السؤال وخطورته فرد على الفور: (أفضلهما من كانت بنته تحته). وهذه العبارة محتملة للوجهين لذا فهي ترضى الفريقين: الرافضة وأهل السنة وما كان هذا الجواب إلا لسعة الأفق وبعد النظر. وحسبنا أيضا ما قاله الشيخ حسن البنا ردا على مؤلف كتاب (أحداث صنعت التاريخ) وقد حمل إليه مقالا كتبه يبطل فيه المقال الذي نشره سيد قطب في جريدة الأهرام في أواخر الثلاثينات حيث دعا سيد قطب في هذا المقال دعوة صريحة إلى العرى التام وأن يعيش الناس عرايا كما ولدتهم أمهاتهم قرأ الشيخ حسن البنا الرد ثم أطرق طويلا على غير عادته والتفت إلى كاتب مقال الرد واسمه (محمود) وقال له: يا محمود إن المقال متين الأسلوب قوى الحجة جدير أن ينشر وقد سبق أن أجزت لك بعض ما نشرته في بعض الصحف اليومية ولكن في هذه المرة مرت بخاطري عدة خواطر أحب أن أعرضها عليك فقال: أولاً: لاشك أن فكرة المقال مثيرة تجرح قلب المؤمن. ثانيا:كاتب هذا المقال شاب متأثر بالبيئة التي تعرفها ونعرفها وهي التي تغذيه بمثل هذه الأفكار. ثالثا: إن هدف هذا الشاب من كتابة هذا المقال ليس مجرد التغيير عما يؤمن به وإنما هو محاولة جذب الأنظار إليه على أساس عرفهم من أن الغاية تبرر الوسيلة. رابعا: إن قراء الأهرام عدد محدود بالنسبة لسكان هذه البلاد يعنى بها مصر وليس كل قراء الأهرام قد قرأوا هذا المقال فأكثر قراء الأهرام لا يقرأون فيه إلا الأخبار وأكثر الذين قرءوا المقال لم يستوعبوا فكرته لأنهم اعتادوا قراءة المقالات غير الرئيسة قراءة عابرة. خامسا: إذا نشرنا ردا على هذا المقال في الأهرام كانت لذلك النتائج الآتية: (أ) سيثير نشر الرد اهتمام الذين لم يقرءوا المقال الأصلي إلى البحث عنه وقراءته كما سيدفع الذين قرأوه قراءة عابرة أن يقرأوه مرة أخرى قراءة متأنية وسيبرز بذلك فكرة المقال في مختلف المجتمعات وتكون موضوع مناقشة واهتمام ونكون بذلك قد عملنا من حيث لا نقصد على تحقيق مأرب صاحب المقال من جذب الأنظار إليه وجعل اسمه على الألسنة. (ب) نكون من غير قصد قد تسببنا في لفت الأنظار إلى لون من الرذائل ربما علقت به بعض النفوس الضعيفة ولو لم نرد عليه لمرت الدعوة إلى هذه الرذائل في غفلة من الناس غير معارة أي اهتمام ولطمرت في طيات النسيان. (ج) الرد نوع من التحدي يخلف في نفس المرء المردود عليه نوعا من العناد وهذا العناد يجعله يتعصب لرأيه مهما اقتنع بخطئه ونكون بذلك قد قطعنا عليه خط الرجعة وفي هذا خسارة نحن في غنى عنها. وهذا الكاتب شاب وترك الفرصة أمامه للرجوع إلى الحق خير من إحراجه وما يدريك لعل هذا الشاب يفيق من غفلته ويفئ إلى الصواب ويكون ممن تنتفع الدعوة بجهوده في يوم من الأيام ثم قال: ما رأيك في هذه الخواطر؟ قلت - أي كاتب الرد - إنها مقنعة تمام الإقناع....ومزقت الرد بين يديه. وتمر الأيام ويصير (سيد قطب) رحمة الله علما من أعلام الدعوة الإسلامية بل شهيدا من شهدائها. ولعل السر في ذلك هو توفيق الله أولا ثم هذه البصيرة النافذة والرأي الملهم اللذين كان يتمتع بهما الشيخ حسن البنا رحمة الله تعالى. وحسبنا كذلك ما قاله داعية ملهم لشابين من شباب هذا العصر الملتزم بالإسلام عن ضيق أفق وقصر النظر وقد رآهما يختلفان على مقدار الممسوح من الرأس أهو شعرات أم الربع أم النصف أم الرأس كله؟ووصل الاختلاف إلى أحد التراشق بالكلام بل إلى حد الضرب قال لهما: احميا هذه الرأس من القطع أولا فإن هناك مؤامرة من قلب أعداء الله على قطعهما ثم بعد ذلك اختلفا في مقدار الممسوح منها. (9) النظر في عواقب قصر النظر أو ضيق الأفق سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي إلى النحو الذي شرحنا آنفا فلعل ذلك يشحذ الهمم أو يحرك العزائم فتسعى إلى السعة الأفق ونفاذ البصيرة.
مختارات