" الرسالـة "
" الرسالـة "
أصابه الكمد لرؤية أبنائه الأربعة وهم يسلكون درب الشيطان، ولا يتورعون عن ارتكاب الحرام.. ذهبت تربيته لهم ونصائحه الكثيرة أدراج الرياح.. شعر بعظم الابتلاء..حسبي الله ونعم الوكيل..
دخل عليه ابنه الأصغر.. شعر بانشراح في صدره وهو ينظر إلى وجهه المضيء..الحمد لله الذي لم يحرمني من الولد الصالح..كان صالح – الابن الأصغر - صالحا كما سماه أبوه.. وكان بارا بوالديه لا يرفض لهما طلبا.. بل كان يسارع لإرضائهما ويبش لهما ويسهر على راحتهما.. كان ذلك يهون كثيرا من مصائبهما في الأربعة الآخرين..
كانت الأم تجلس بعد الصلاة تدعو لأبنائها بالهداية..اللهم اهدهم لطريق الحق والنور.. اللهم أرهم الحق حقا وارزقهم اتباعه.. وأرهم الباطل باطلا وارزقهم اجتنابه..
ظل الأبناء الأربعة فترة من الزمن يعيشون حياة التيه والضلال.. لهو وعبث.. شغف بالمباريات التي تلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة.. أكل وشرب ولعب بالورق أعمى أبصارهم عن رؤية النور.. قلوب غافلة عن القرآن الكريم.. عقوق للوالدين..وقف والدهم برمقهم بنظرات الحسرة والألم..يلتفت إليه أبناؤه ويتهامسون..كبر أبونا وخرف..!!
كم كان يتألم لرؤيتهم على هذه الحال.. كان عزاؤه في ذلك ولده الأصغر.. حبيب فؤاده ونور قلبه.. ولطالما أدخل عليه السرور وملأ صدره انشراحا وبهجة..
كانت صدمة له يوم جاءه يطلب منه الإذن في السفر..إلى أين يا صالح..؟!
إلى مكة يا أبي.. أريد أن أعتمر..
ومع من ستسافر؟!
مع أصحاب لي تعرفت عليهم في المسجد..
.. يطأطئ برأسه إلى الأرض.. إنه لا يستطيع أن يمنع ولده من تحقيق هذا الغرض النبيل.. إنه يزداد إيمانا يوما بعد يوم..حسنا يا بني.. ولكن انتبه لنفسك..
لا تهتم يا أبي..
لا تنسنا من دعائك يا ولدي..
سأجعل لك ولوالدتي النصيب الأكبر من الدعاء إن شاء الله..
عد إلينا بسرعة يا بني..
لن أتأخر إن شاء الله..
.. ويقبِّل صالح يد ورأس أبيه.. ويمضي مع إخوانه والشوق يغمر قلبه لرؤية بيت الله والطواف فيه..
إنها المرة الأولى التي أسافر فيها لأداء العمرة.. لك الحمد يا الله.. أخيرا سأرى بيتك المحرم..
ويؤدي صالح العمرة.. ويبكي عند الكعبة كثيرا.. ويلهج بالدعاء لوالديه وإخوته.. اللهم اهد إخوتي.. اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم. وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.. اللهم ارحم والديَّ كما ربياني صغيرا..
وتبلل دموعه أرض الحرم وهو يودع مكة..
ويَعُدُّ العدة للعودة بعدما اكتسى حلة الوقار والخشوع.. ويشعر وهو يتهيأ للسفر بألم حاد في صدره.. يهرع إليه إخوانه..ماذا بك يا صالح.. ما الذي أصابك..أريد ورقة وقلما بسرعة..لنأخذه إلى المستشفى..لا ضرورة لذلك..أرجوكم أعطوني ورقة وقلما.... ويكتب كلمات لوالديه.. ويسلم الورقة لأحد إخوانه.. سلمها لوالدي أرجوك.. أشهد أن لا إله إلا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله.. صالح.. صالح..
وينتظر الوالد بفارغ الصبر.. ويأتيه الشاب وهو يخفي دموعا تسللت من عينيه.. من أنت؟
أنا صديق صالح.. أرسل لك هذه الرسالة.
يسلمه الرسالة ويطلب قراءتها أمام جميع العائلة..يفتح الرسالة ويداه ترتجفان..
(.. بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. أبي الحبيب.. أمي الغالية.. إخوتي الأعزاء.. أكتب لكم هذه الكلمات وأنا أشعر أن أجلي قد حان.. أوصيكم بتقوى الله - عز وجل - وطاعته.. وأوصي إخوتي بوالديَّ خيرا.. عليكم بطاعتهما وإجابة رغباتهما.. دعوا اللهو والعبث واتركوا الركض وراء الملذات.. إن الحياة وإن طالت فمصيرها الفناء.. وبعدها يكون الحساب..
والدي الحبيب.. والدتي الغالية.. إخوتي.. سامحوني واسألوا الله لي المغفرة.. واصبروا ولا تبكوا عليَّ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)
جثا الرجل على ركبتيه.. أصابه الوجوم.. بكت الأم وبللت ثيابها بالدموع الحارة.. دمعت عيون إخوته.. تقدموا لوالدهم ووالدتهم واحدا بعد أخر.. انكب الجميع على أيديهما يقبلونها.. سالت دموع الندم.. وكانت بداية الهداية !!
مختارات