" الغــدر "
" الغــدر "
ذم الغدر والنهي عنه:
#### أولًا: في القرآن الكريم:
- قال تعالى: " وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ " [النحل: 94].
(أي: تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتم - خديعةً، وغرورًا، ليطمئنوا إليكم، وأنتم مضمرون لهم الغدر، وترك الوفاء بالعهد، والنَّقلة إلى غيرهم، من أجل أنهم أكثر منهم عَددًا وعُددًا وأعز نفرًا، بل عليكم بالوفاء بالعهود، والمحافظة عليها في كل حال) [تفسير المراغى].
وقال ابن زيد، في قوله: " تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ " [النحل: 92] يغر بها، يعطيه العهد، يؤمنه وينزله من مأمنه، فتزل قدمه وهو في مأمن، ثم يعود يريد الغدر، " دَخَلاً بَيْنَكُمْ " [النحل: 92] قال قتادة: خيانة وغدرًا [جامع البيان،للطبرى].
قال ابن كثير: (...لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده، ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فانصدَّ بسببه عن الدخول في الإسلام) [تفسير القرآن العظيم].
- قال تعالى: " وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ " [النحل: 91].
قال الطبري: (إنَّ الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم، ونهاهم عن نقض الأيمان، بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين بعقود تكون بينهم بحق مما لا يكرهه الله) [جامع البيان فى تأويل آى القرآن].
قال الماوردي: (لا تنقضوها بالغدر، بعد توكيدها بالوفاء) [النكت والعيون].
#### ثانيًا: في السنة النبوية:
- عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) [رواه البخارى].
قال المناوي: (وإذا عاهد غدر) أي: نقض العهد [فيض القدير].
وقال العظيم آبادي: (وإذا عاهد غدر) أي: نقض العهد وترك الوفاء بما عاهد عليه [عون المعبود].
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الل ه: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعط أجره) [رواه البخارى].
قال المهلب: قوله: (أعطى بي ثم غدر) يريد: نقض عهدًا عاهده عليه [شرح صحيح البخارى،لابن بطال].
وقال المناوي: (... (ثم غدر) أي: نقض العهد الذي عاهد عليه؛ لأنَّه جعل الله كفيلًا له فيما لزمه من وفاء ما أعطى، والكفيل خصم المكفول به للمكفول له) [فيض القدير].
#### أقوال السلف والعلماء في الغدر:
- قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنَّة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع،ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كَيسًا، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله؟ قد يرى الحول القلب وجه الحيلة، ودونها مانع من الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا خريجة له في الدين) [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار،للزمخشرى].
- وقال أيضًا: (إذا كان الغدر طبعًا، فالثقة بكل أحد عجز) [المستطرف،للأبشيهى].
- وقال عديُّ بن حاتم: (أتينا عمر في وفد، فجعل يدعو رجلًا رجلًا ويسمِّيهم،فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، فقال عديُّ: فلا أبالي إذًا) [رواه البخارى].
- وقال ابن حزم: (الغدر، وهو الذي لا يحتمله أحد ولا يغضي عليه كريم، وهو المسلاة حقًّا، ولا يلام السالي عنه على أي وجه كان، ناسيًا أو متصبرًا، بل اللائمة لاحقة لمن صبر عليه) [طوق الحمامة،لابن حزم].
#### من آثار الغدر:
1- قسوة القلب:
لقد كانت قسوة القلب سمة بارزة في أهل الكتاب، لاسيما اليهود لكثرة نقضهم العهد والمواثيق، قال تعالى: " فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ " [المائدة: 13-14].
2- تحمل الجزاء المترتب على الغدر:
ذلك أنَّ الغدر يؤدي إلى خسائر بدنية أو نفسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية وقد تكون هذه جميعًا، ولابد من ضمان التلف في جزاء يتولاه ولي الأمر أو نائبه، أو تتولاه الرعية حين يغدر ولي الأمر، فيضيع من هم في رعايته.
3- براءة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الغدر:
ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاء بمنهاج يدعو إلى الوفاء مع الخالق، والمخلوق، ومع العدو، والصديق، بل حتى مع الدواب، والجمادات، ثم طبق ذلك عمليًّا على نفسه حين استبقى عليًّا مكانه في فراشه ليلة الهجرة، ليرد الودائع إلى أصحابها، ووفى بعهده مع اليهود، لولا أنهم غدروا، ووفى مع المشركين في مكة والطائف وغيرهما، لولا غدرهم وخيانتهم.
4- حلول اللعنة على الغادر من الله، والملائكة، والناس أجمعين:
ذلك أن الله يغار حين يرى العبد أكل نعمته، ثم غدر فاستخدمها في معصيته وحربه، وتمثل هذه الغيرة في حلول اللعنة، ومعه سبحانه الملائكة، والناس أجمعين برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
5- الانتظام في سلك المنافقين:
ذلك أنَّ الغادر أظهر شيئًا في الوقت الذي أبطن فيه خلافه، ومثل هذا الصنف من الناس يجب توقيه، والحذر منه؛ لأنه لم يعد محل ثقة ولا أمانة، إذ يظهر الموافقة على العهود والالتزام، ثم يخفي النقض والغدر.
من صور الغدر:
لغدر صور كثيرة، نذكر منها ما يلي [آفات على الطريق،لسيد محمد نوح،بتصرف]:
1- نقض العهد الذي أخذ الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره، إذ يقول سبحانه: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ " [الأعراف: 172-173].
2- نقض العهد الذي وصى الله به خلقه، من فعل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأفعال، وترك ما لا يحبه الله ولا يرضاه، من الأقوال، والأفعال، والذي تضمنته كتبه المنزلة، وبلغه رسله عليهم الصلاة والسلام، ومعنى نقض هذا العهد ترك العمل به.
3- نقض العهد المأخوذ على بني آدم من النظر في أدلة وحدانيته، وكمالاته المنصورة في الكون، وفي النفس، والذي تحدث به عنه رب العزة في قوله تعالى: " وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ " [الذاريات:20-21].
4- نقض العهد الذي أخذه الله على النبيين وأتباعهم أن يؤمنوا بهذا النبي، وأن ينصروه، وذلك في قوله سبحانه: " وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " [آل عمران: 81-82].
5- نقض العهد الذي للإمام ونائبه على المسلمين، من وجوب الطاعة في المعروف، ونصرة دين الله عزَّ وجلَّ، دون مبرر شرعي يقتضي ذلك.
#### من أسباب الوقوع في الغدر:
1- ضعف التربية وفساد البيئة.
2- حب الكفار وموالاتهم.
3- صحبة الذين اشتهروا بالغدر.
4- ضعف الإيمان بالله.
#### من الوسائل المعينة على ترك الغدر:
1- تقوية الإيمان بالله تعالى.
2- البعد عن أصدقاء السوء ومجالسة أهل الصلاح.
3- التأمل في الآثار الوخيمة للغدر على الفرد والمجتمع.
4- تدبر الآيات القرآنية التي حذرت من الغدر، وعدم الوفاء.
#### من أقوال الحكماء:
- قالوا: الغالب بالغدر مغلول، والناكث للعهد ممقوت مخذول [نهاية الأرب فى فنون الأدب،للنويرى].
- وقالوا: لا عذر في الغدر، والعذر يصلح في كلِّ المواطن، ولا عذر لغادر ولا خائن [نهاية الأرب فى فنون الأدب،للنويرى].
- (وفي بعض الكتب المنزَّلة: إنَّ مما تعجَّل عقوبته من الذنوب، ولا يؤخر، الإحسان يُكفر، والذِّمة تُخفر [نهاية الأرب فى فنون الأدب،للنويرى].
- من عاشر الناس بالمكر كافؤوه بالغدر [مجمع الأمثال،للميدانى].
- وقالوا: الغدر ضامن العثرة، قاطع ليد النُّصرة [نهاية الأرب فى فنون الأدب،للنويرى].
- كان يقال:لم يغدر غادر قط إلا لصغر همته عن الوفاء، واتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار،للزمخشرى].
مختارات