" يوم الدين ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) "
" يوم الدين (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) "
كلمة «مالك» مأخوذة من «المِلك» بكسر الميم، أو من «المُلك» بضم الميم، وبضمها أخص؛ لأن «الملك» بكسر اللام يكون نافذ الأمر في ملكه، وهي تدل على ذات وصفه...؛ حيث لا يوجد «ملك» بكسر اللام بدون «ملك» بضم الميم.
أما «الملك» بضم الميم، فهو يدل على الصفة والعرض، ولا يدل على الذات و«مالك» اسم فاعل تدل على الذات والصفة، أي: تدل على وجود «ملك» بضم الميم، وتدل على وجود «ملك» بكسر اللام، يملك هذا الملك.
والملك في الحقيقة هو الله تعالى؛ إذ لا مالك إلا هو، وإطلاق «ملك» على غير الله تعالى إنما هو على سبيل المجاز.
فالمالك هو من اتصف بصفة الملك، ومن آثارها أنه يأمر وينهي، ويثيب ويعاقب، ويتصرف في ملكه كما يشاء.
وقد أفاد القرطبي: أن «ملك» بكسر الميم صفة ذاتية لله تعالى، وأن «مالك» اسم فاعل، وهي صفة فعله سبحانه، وبضم الميم جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى:
1- " يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " [غافر: 16].
2- وقوله: " وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا " [الفرقان: 25، 26].
3- وقوله أيضًا: " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ " [الأنعام: 73].
وكلها تشير إلى صفة الملك، وصاحب الذات الذي يملك هذا الملك يشار إليه في الآية الأولى بقوله تعالى: " للّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ " وفي الثانية بقوله: " لِلرَّحْمَنِ " وفي الثالثة: بضمير الإشارة في " وَلَهُ الْمُلْكُ ".
1- وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعًا: «أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة: رجل تسمى بملك الأملاك (أي: ملك الملوك) لا مالك إلا الله، وله الملك» (البخاري ومسلم ).
وفيه إشارة على عدم جواز التسمية بـ«ملك الملوك» أو بمعناها «شاهٍ شاه» إذ إن هذا من خصائص الله تعالى وحده، ولا يطلق على غيره سبحانه.
2- وعن ابن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بُعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان» (أخرجه البخاري).
3- وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟» (البخاري ومسلم).
مناسبة الآية لما قبلها: لما وصف الله تعالى نفسه بالرحمة العامة والخاصة، وأدى ذلك إلى تغليب جانب الرجاء عند العباد أتبعه ببيان أنه سبحانه هو المالك ليوم الفصل والجزاء، وأن رحمته السابق ذكرها في الآية قبلها، والعدل يوم الحساب المذكور في هذه الآية قرينان؛ ليكون المرء على وَجَلٍ من عمله، ويدرك أن لعمله يومًا تظهر له فيه ثمرته من خير أو شر، فيجمع بذلك بين الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، حتى لا يغتر أحد في رحمة الله تعالى وشفقته، فيأمن مكر الله سبحانه وتعالى، ويُهمل العمل لذلك اليوم، وحتى يعلم أنه محاسب على ما كسبت يداه، وأن الدنيا مزرعة للآخرة، وعليه أن يتزود فيها بالعمل الصالح، ويحسن اختيار الزاد ليوم المعاد.
وهذه الآية: " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " تتحدث عن الدار الآخرة عقب الآيتين: " الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ " وهما يتحدثان غالبًا عن الحياة الدنيا، وكلا الحياتين متصل، والموت بينهما فاصل برزخي حتى يتكامل فناء العالم، والحياة الأولى هي دار العمل، والحياة الآخرة هي دار الجزاء والخلود، ولابد أن يكون الجزاء من جنس العمل، فمن وجد خيرًا فليحمد الله تعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
والخلق في يوم القيامة أحوج ما يكونون إلى رحمة الله تعالى في ذلك اليوم المجموع له الناس، وذلك اليوم المشهود.
ولهذا: جاءت هذه الآية " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " بعد الآية قبلها " الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ".
ولم يرد لفظ " الرَّحْمنِ " في القرآن الكريم إلا مصاحبًا للمواقف العصبية، كقوله تعالى: " الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا " [الفرقان: 26].
مناسبة الآية لما بعدها: ولعل في تقديم " يَوْمِ الدِّينِ " وهو الجانب الأخروي، على العبادة لله تعالى والاستعانة به في الدنيا الواردتين في " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " يفيد أن جانب الدين مقدم على جانب الدنيا.
لماذا خص يوم الدين بالذكر؟
ويوم الدين: هو يوم الحساب والجزاء على الأعمال، اليوم الذي يدان فيه الناس بأعمالهم خيرها وشرها، وفي ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الملك، وكمال العدل، الذي يعلو كل شيء، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء؛ لأنه سبحانه صاحب السلطان المطلق بقوته غير المحدودة.
وتظهر الحكمة في تخصيص يوم الدين بالذكر، في قوله تعالى: " يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ " [الانفطار: 19].
حيث تنقطع أملاك الخلائق كلهم، فيستوي الملوك والرعايا، والأغنياء والفقراء، الكل خاضع خاشع لله تعالى ينتظر الحساب والجزاء " وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا " [طه: 108].
وقد خُص يوم الدين بالملك حيث لا يدعي فيه أحد ملكًا، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه " يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا " [النبأ: 38] وإلا فهو سبحانه رب العالمين، مالك للدين والدنيا؛ لأن من ملك الآخرة فهو مالك للدنيا من باب أولى، وهو سبحانه مالك الأزمنة والأمكنة جميعًا، وخص التنبيه على يوم الدين لما فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام، والناس في أيامنا لا يكادون يذكرون الحياة الآخرة، فقد طغت عليهم الحضارة المادية؛ فأنستهم لقاء الله.
ويوم القيامة هو أهم قضايا المؤمن التي يجب أن يهتم بها ويحاسب نفسه عليها، ويعمل في الدنيا من أجلها؛ إذ يترتب عليها السعادة الأبدية، أو الشقاء الأبدي، والعياذ بالله تعالى.
والملك الحق تام الملك، له دار عذاب هي النار، يُعذب بها من يشاء، ممن هم من أهلها، وعملوا لها في الدنيا، وله دار نعيم، أعدها لمن عمل لها في الدنيا.
وإذا قرأ العبد: " الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " فإنه يقف هنيهة عند نهاية كل آية منها، ينتظر جواب الله تعالى له ورده عليه وهو يقول سبحانه: «حمدني عبدي» «أثنى علي عبدي» «مجدني عبدي» وعينه تقر بمناجاته لربه، وذكر العبد أصول أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا (الله، الرحمن، الرحيم) يجعله يطير فرحًا وسرورًا بإجابة الله تعالى له.
مختارات