" صفة الرحمة ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) "
" صفة الرحمة (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) "
صفتان مشتقان من الرحمة، و«الرحمن» أشد مبالغة من «رحيم» وزيادة المبنى تدل على كثرة المعنى، فهما صفتان لمعنى واحد هو «الرحمة» وهي تعني: الرقة والعطف والحنو والمغفرة، والرحمة من الله تعالى نعم وفضل، ومن الآدميين رقة وعطف ولين جانب.
قال أبو الأعلى المودودي في تفسيره لسورة الفاتحة:
«رحمن» صيغة مبالغة، وهي تعبر عن صفات الإحسان والرحمة، وتظهرها في أعلى وأرقى مراتبها، إلا أنها تعجز عن التعبير عن كمال صفات الله تعالى غير المحدودة، ولهذا أضيفت لها كلمة أخرى من نفس الأصل، وهي " الرَّحِيمِ " ؛ ليسد هذا النقص.
و " الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " اسمان دالان على أن الله سبحانه ذو الرحمة الواسعة العظيمة المطلقة الشاملة التي وسعت كل شيء، رحمة عامة بجميع خلقه، ورحمة خاصة بعباده المؤمنين.
قال تعالى: " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ " [الأعراف: 156، 157].
و " الرَّحْمنِ " صفة قائمة بذات الله سبحانه وتعالى (وصف ذاتي ثابت له سبحانه).
أما " الرَّحِيمِ ": فهي صفة تتعلق بالمرحوم، وهو (فعل الرحمة) الذي يرحم الله به عباده، ويخص به منهم المؤمنون، وهو يدل على تجدد واستمرار رحمة الله تعالى بخلقه.
و " الرَّحْمنِ " هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافر والمؤمن.
و " الرَّحِيمِ " أي: المنعم بنعم خاصة بالمؤمنين فقط، فهو تخصيص بعد تعميم.
والله سبحانه هو المنعم بجلائل النعم، وهو المنعم بدقائقها.
وقد اشتملت البسملة على ثلاثة من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وهي: " الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ "، ولفظ الجلالة منها هو العلم على الذات الإلهية، و " الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " صفتان للفظ الجلالة، فالله تعالى هو نفسه الرحمن الرحيم، وفيها تدرج معنوي، وتحول منطقي، من أخص الأسماء، وهو الاسم الأعظم للذات الإلهية " اللهِ " إلى أخص الصفات وهي " الرَّحْمنِ " إلى رحمة خاصة وهي " الرَّحِيمِ ".
وقد علمنا القرآن أن نضع التوحيد مكان التثليث الذي يبدأ به النصارى شئونهم باسم الأب والابن والروح القدس، وهذه ثلاثة مختلفة، فالأب غير الابن، والابن غير الروح القدس (جبريل)، وكل واحد منهما يدل على ذات غير الذات الأخرى، فهي آلهة ثلاثة.
أما " الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " فهما صفتان لذات واحدة هو الله سبحانه، كما يقال: فلان كريم شجاع عفيف...
فالأول ذات، وما بعده صفات، ويُضاف إليهما وصف رابع في الآية التي بعدها هي " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ "، فهذه صفات ثلاث لموصوف واحد وهو الاسم الوحيد " اللهِ " المذكور أولًا.
ولفظ " الرَّحْمنِ " يضارع لفظ الجلالة، فلا يطلق إلا على الله سبحانه، ولا يتصف به غيره، ولا يتسمى به مخلوق.
ومن أسمائه الحسنى ما يسمى بها غيره، ومنها ما لا يسمى بها غيره، لاسيما ما كان معرفًا منها، بالألف واللام، ولفظ الجلالة هو أعظم الأسماء الحسنى، ولفظ " الرَّحْمنِ " هو أعظم صفات الله سبحانه، وقد جمعتهما آية الإسراء: " قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى " [الإسراء: 110].
فما أحرى بالمؤمنين أن يحمدوا ربهم ويشكروه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه !
وهكذا وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه رحمن رحيم في (البسملة)، ثم جاء هذا الوصف نفسه في آية مستقلة بعد ذلك؛ لتأكيد هذا المعنى وتقويته، ولتثبيت الصلة بين الخالق والمخلوق، وبيان طبيعتها، وأنها تقوم على الرحمن العامة والخاصة.
وليس هذا تكرار لما جاء في (البسملة) وإنما لما ذكر سبحانه أنه رب العالمين، وكأن لفظ " رَبِّ " ينبئ عن معنى الكبرياء والسيادة والغلبة والقهر، فربما توهم السامع أن هذا «الرب» قهار جبار، لا يرحم العباد، فيدخل في نفسه الفزع واليأس والخوف والقنوط؛ لذلك جاءت هذه الآية.
" الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " بعد " رَبِّ الْعَالَمِينَ " لتؤكد أن الرب – جل وعلا – رحمن رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن ربوبيته ربوبية رحمة، وليست ربوبية قهر وجبروت.
قال القرطبي في تفسيره: وصف نفسه تعالى بعد " رَبِّ الْعَالَمِينَ " بأنه «رحمن رحيم»؛ لأنه لما كان في اتصافه برب العالمين ترهيب، قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمن من الترغيب؛ ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمتع.
كما قال تعالى: " نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ " [الحجر: 49، 50].
وقال سبحانه: " غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ " [غافر: 3].
وقال جل شأنه: " إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ " [الأعراف: 167].
وقال سبحانه وتعالى: " وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ " [الرعد: 6].
وقال أيضًا: " اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [المائدة: 98].
وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد» («صحيح مسلم» و«صحيح البخاري»).
فهذه الآية ليست تكرارًا لما سبق، وإنما لها مناسبتها وضرورتها بالنسبة للآية قبلها، والآية بعدها.
فقد تدرجت السورة تدرجًا معنويًا ومنطقيًا؛ حيث بدأت بتوحيد الألوهية، ممثلًا في لفظ الجلالة " بِسْمِ اللهِ " وهو أخص الأسماء الحسنى، والعلم الوحيد على الذات، ثم أتبعته بأخص الصفات، وهي الرحمة العامة الشاملة للمؤمن والكافر، ثم الرحمة الخاصة بالمؤمنين، من باب الخصوص بعد العموم، أو من باب تقوية وتمام الرحمة غير المحدودة.
ثم ثنت بتوحيد الربوبية الممثل في " رَبِّ الْعَالَمِينَ " فهي صفات ثلاث: «رحمن، رحيم، رب» لمسمى واحد هو «الله»، وأعقبت ذلك بالرحمة ثانيًا؛ لأنه سبحانه رحمن رحيم في ألوهيته وربوبيته، فالرحمة من صفات الله تعالى، وهي قريبة من المحسنين المهتدين التائبين.
قال سبحانه: " إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ " [الأعراف: 56].
فمن تباعد عن الله بإحسانه، تباعد الله عنه برحمته.
قال سبحانه: " وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ " [الحجر: 56].
فالمهتدون يطمعون في رحمة الله تعالى بمقتضى هدايتهم.
قال تعالى: " وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ " [الكهف: 58، والأنعام: 133].
وقال أيضًا: " فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ " [البقرة: 64].
وقال جل شأنه: " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " [الأنعام: 54].
وقال سبحانه: " إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " [البقرة: 143].
وقال سبحانه وتعالى: " إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " [البقرة: 37] وغير ذلك من عشرات الآيات.
وللرحمة جوانب للخير وجوانب للشر في حياة الناس، كالرحمة التي تستدعي كف العقاب عن الظالمين، وكرحمة الأم الرعناء التي تهمل تأديب ولدها مهما أساء؛ لأن الرحمة لا تتنافى مع التأديب والعقاب المناسب، أما الله سبحانه، فإنه لا يرحم إلا في الخير، قال تعالى: " وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ " [المؤمنون: 118]، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلمًا " رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ " [غافر: 7].
فبرحمته يهدي عباده إلى سبيل السعادة، وبرحمته يغفر للمسيئين، وبرحمته يُدخل المؤمنين الجنة، وبرحمته يجيب المضطر إذا دعاه، وقد كتب الله على نفسه الرحمة، ووصف نفسه بأنه أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وأنه سبحانه ذو رحمة واسعة، وأن رحمته وسعت كل شيء.
في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها، وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» (لفظ مسلم وانظر: «صحيح البخاري).
وفي رواية البخاري: «جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه»(«اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان» وهو في البخاري ومسلم ).
وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها، تسعى، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار، وهي تقدر أن تطرحه؟ قلنا: لا، فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها» («اللؤلؤ والمرجان» وهو في البخاري وفي مسلم ).
فرحمة الله تعالى وسعت كل شيء، ولكن رحمته تعالى مقرونة بحكمته، وقد كتبها سبحانه للذين يتقون ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بآيات الله جل وعلا، ويتبعون الرسول النبي الأمي: " قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ " [الأعراف: 156، 157].
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن رحمته سبقت غضبه، وأن من تقرب إلى الله شبرًا تقرب منه ذراعًا، ومن تقرب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، ومن أتى ربه يمشي أتاه هرولة.
ومن لقي ربه بقراب الأرض خطايا وهو لا يشرك به شيئًا لقيه بقرابها مغفرة.
مختارات