همومه أخروية
فإن فات حي القلب ورده من قرآن أو صلاة وجد لفواته ألما أشد من فوات ماله، وتقلَّب بالليل على فراش كالجمر، فما عسانا نقول لمن ليس له ورد بالأساس؟! بل ماذا عسانا نقول لمن إذا فاتته الصلاة المفروضة لم يجد ألما ولا حسرة؟! وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخاطب بالحديث التالي إلا أحياء القلوب حين يقول: « الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتِر أهله وماله ».
أي كأنما فقد أهله وماله وهلكوا، فصاحب القلب الحي فحسب هو من يشعر بهذا وأما غيره فهيهات هيهات، ولما كان حاتم الأصم رجلا كريما من أرباب القلوب الحية، فقد أراد أن يبعث الحياة في قلوب من حوله، فكان أن روى لنا تجربته قائلا وهو يحمل هَم فوات الخير:
" فاتتني صلاة الجماعة مرة فعزاني أبو إسحق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزَّاني أكثر من عشرة آلاف ؛ لأن مصيبة الدين عندهم أهون من مصيبة الدنيا ".
وآخر كان يحمل هَمّ الأمّة وهو أويس القرني الذي كان رغم فقره المدقع وبؤسه الشديد مستشعرا مسئوليته تجاه كل مسلم جائع أو عريان، ويسأل الله أن يغفر ذنبه هذا!! فكيف بنا يا أصحاب النعيم والترف؟! قال عنه سفيان الثوري: " كان لأويس القرني رداء إذا جلس مسَّ الأرض، وكان يقول: اللهم إني أعتذر إليك من كبد جائعة وجسد عار، وليس لي إلا ما على ظهري وفي بطني ".
ومن القرن العشرين يطل علينا الإمام حسن البنا الذي حمل الهم حتى أطار النوم من عينيه، وذلك لما انتشرت موجتا الإلحاد والإباحية في آن واحد على أرض مصر، واسمع إليه يقول:
" وصرتُ أرقب هذين المعسكرين فأجد معسكر الإباحية والتحلل في قوة وفتوة، ومعسكر الإسلامية الفاضلة في تناقص وانكماش، واشتد بي القلق حتى إني لأذكر أنني قضيت نحوا من نصف رمضان هذا العام في حالة أرق شديد لا يجد النوم إلى جفني سبيلا من شدة القلق والتفكير في هذه الحال ".
ومثله في حمل هذا الهم كان الشيخ رشيد رضا الذي دخلت عليه أمه يوما فوجدته مهموما فقالت له: " مالك؟! هل مات مسلم بالصين؟! ".
ورابع ممن يحمل حيوية القلب يحمل معها هَمّ الخاتمة، فلا يدري أيختم له بخير أم يودِّع الدنيا بسوء؟! قال يحيى بن معاذ: " التائب يبكيه ذنبه، والزاهد يبكيه غربته، والصديق يبكيه خوف زوال الإيمان ".
وخامس يحمل هم التقصير حتى أبكاه وهو يحيى بن معاذ كذلك الذي قال: " لست أبكي على نفسي إن ماتت ؛ إنما أبكي على حاجتي إن فاتت ".
مختارات