" الأسباب الميسرة لقيام الليل "
" الأسباب الميسرة لقيام الليل "
اعلم – أخي المسلم – وفقك الله – أن قيام الليل من أثقل الطاعات على النفوس، ومن أشدها على القلوب، ومن أصعبها على الأبدان إلا على من يسره الله عليه وهناك أمور لو تمسك بها العبد ليسرت عليه قيام الليل إن شاء الله تعالى.
وهذه الأمور تنقسم إلى قسمين: أمور ظاهرة، وأخرى باطنة.
أولاً: الأمور الظاهرة:
1- أن لا يكثر العبد من الأكل والشرب فيغلبه النوم ويثقل عليه القيام، وقد قيل: لا تأكل كثيرًا، فتشرب كثيرًا، فتنام كثيرًا، فتخسر كثيرًا.
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أهلَ الشِّبَعِ في الدنيا هم أهلُ الجوعِ غدًا في الآخرةِ» (صحيح الترغيب).
وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إياكم والبطنة فإنها ثقل في الحياة، نتن في الممات.
وقال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وقال أبو سليمان الداراني: من شبع دخل عليه ست آفات:
أ) فقد حلاوة المناجاة.
ب) تعذر عليه حفظ الحكمة.
ج) وحرمان الشفقة على الخلق – لأنه إذا شبع ظن الخلق كلهم شباعًا.
د) وثقل العبادة.
هـ) وزيادة الشهوات.
و) وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشباع يدورون حول المزابل.
وقال محمد بن واسع: من قل طعامه فهم وأفهم، وصفا ورق، وإن كثير الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد.
وقال عمرو بن قيس: إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب.
وقال الحسن البصري: كانت بلية أبيكم آدم – عليه السلام – أكلة وهي بليتكم إلى يوم القيامة.
وقد قيل: إذا أردت أن يصح جسمك، ويقل نومك، فأقلل من الأكل.
وقال إبراهيم بن أدهم: من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع، وقريبة من الشبعان، والشبع يميت القلب.
وقال الشافعي: الشبع يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة.
وخلاصة القول أن تقلل من الأكل، وتقوم قبل حد الشبع، وعلامة ذلك أن تقوم وأنت مشتاق إلى الطعام.
2- ألا يتعب نفسه بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح وتضعف بها الأعصاب فإن ذلك مجلبة للنوم.
3- ألا يترك القيلولة بالنهار للاستعانة بها على قيام الليل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قيلوا فإن الشياطين لا تقيل» (السلسلة الصحيحة).
4- أن يتجنب ارتكاب المعاصي، فإن ذلك مما يقسي القلب ويحول بينه وبين أسباب الرحمة، فإن مقترف الذنوب لا يوفق لقيام الليل، ومن أحسن في نهاره وفق في ليله.
قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟! فقال الحسن البصري: قيدتك ذنوبك.
وقيل لعبد الله بن مسعود: ما لنا لا نستطيع قيام الليل؟ قال: أبعدتكم ذنوبكم.
5- أن يبتعد عن التنعم الزائد في الفراش، فإن ذلك يمنع من قيام الليل.
فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: «إنما كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه من أدم (الأدم: جمع أديم وهو الجلد المدبوغ، والليف هو ليف النخل) حشوه ليف»(رواه مسلم).
6- الابتعاد عن فضول النظر والكلام، فإن ذلك يقسي القلب ويبعده عن الرب.
7- كثرة ذكر الله فإن الذكر حياة للقلب وصاحب القلب الحي موفق لقيام الليل إن شاء الله تعالى، فقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم الذي يذكر ربه كالحي – وهو فعلاً حي القلب – ومثل الغافل عن ذكر الله كالميت – وهو فعلاً ميت القلب – فعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» (رواه مسلم والدارمي).
8- أكل الحلال والابتعاد عن الحرام، فكلما كان العبد متحريًا الحلال كان موفقًا، قال سهل بن عبد الله التستري – رحمه الله -: من أكل الحلال أطاع الله شاء أم أبى.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: " يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " [المؤمنون: 51]، وقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك» (رواه مسلم والدارمي بلفظ قريب من ذلك).
ثانيًا: الأمور الباطنة:
1- سلامة القلب من الحقد على المسلمين، وعن البدع، وعن فضول هموم الدنيا كي ينشغل القلب بالله مولاه، ويترك ما سواه.
2- خوف غالب يلازم القلب، فإنه إذا تفكر العبد في أهوال الآخرة، ودركات جهنم طار نومه، وعظم حذره، وازداد خوفه.
- أن يتفكر في فضل قيام الليل بسماع الآيات والأحاديث والآثار الواردة فيه فإن ذلك يدفعه إلى العمل وييسر عليه المشقة، فإن الشوق إلى الجنة يدفع النفس إلى العمل والاجتهاد لتحصيل المراد من رب العباد.
4- تذكرة حلاوة المناجاة والوقوف بين يدي الله فإن لقيام الليل لذة في القلب، وحلاوة في النفس ولا يشعر بهذه اللذة، وتلك الحلاوة إلا من أخلص الحب لله، وجرد الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ " [آل عمران: 31].
5- قصر الأمل فإنه يدفع إلى العمل، وإياك وطول الأمل فإنه يدفع إلى الكسل، ويجلب الملل، ويحرمك من لبس الحُلل، والجلوس في الظل. وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسل بمنكبي وقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» (رواه البخاري).
6- تذكر نومتك في القبر الوحيش وظلمته فإن ذلك يهون عليك القيام في ظلمات الليل: قال الإمام البخاري – رحمه الله تعالى -:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكون موتك بغتة
كم من صحيح مات من غير سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلتة
وهاك طرفًا من حالهم في الصلاة عمومًا ومدى خشوعهم على وجه الاختصار لا على وجه الاستطراد:
1- مسروق (أبو عائشة) روى له أصحاب الكتب الستة، روى أنس بن سيرين عن امرأة مسروق قالت: كان مسروق يُصلي حتى تورم قدماه، فربما جلست أبكي مما أره يصنع بنفسه (سير أعلام النبلاء).
2- عمرو بن ميمون (أبو عبد الله) الإمام الحجة، روى منصور عن إبراهيم، قال: لما كبر عمرو بن ميمون، أوتد له في الحائط، فكان إذا سئم من القيام أمسك به، أو تعلق بحبل (سير أعلام النبلاء) (لعل صدور هذا من هذا الإمام مما لم يصل إلى حد الإفراط، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى زينب عن هذا الفعل لما وجَدَ حبلاً مربوطًا بين ساريتين تتعلق به إذا فترت عن العبادة كما هو في الصحيح ولذا قال عنه يونس بن أبي إسحاق عن أبيه، كان عمرو بن ميمون إذا رُئي، ذُكِرَ الله).
3- إبراهيم بن يزيد التيمي (أبو أسماء) روى له أصحاب الكتب الستة، وكان شابًا صالحًا قانتًا لله عالمًا كبير القدر واعظًا.
قال الأعمش: كان إبراهيم التيمي إذا سجد كأنه جِذْمُ حائط ينزل على ظهره العصافير (سير أعلام النبلاء) فيا له من سكون غريب في الصلاة ما أحوجنا إليه.
4- مِسْعر (أبو سلمة) الإمام الثبت: الحافظ من أسنان شُعبة، روى له أصحاب الكتب الستة.
عن خالد بن عمرو قال: رأيت مسعرًا كأن جبهته رُكبةُ عنز من السجود.
5- محمد بن نصر المروزي (أبو عبد الله) قال عنه الحاكم: إمام عصره بلا مدافعة في الحديث.
قال أبو بكر الصبغي: ما رأيت أحسن صلاة من محمد بن نصر المروزي، لقد بلغني أن زُنْبُورًا قعد على جَبْهته، فسال الدم على وجهه، ولم يتحرك(سير أعلام النبلاء).
وقال يعقوب بن الأخرم: ما رأيت أحسن صلاة من محمد بن ناصر، كان الذباب يقع على أذنه، فيسيل الدم، ولا يذبه عن نفسه، ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيئته للصلاة، كان يضع ذقنه على صدره، فينتصب كأنه خشبة منصوبة (سير أعلام النبلاء).
مختارات