" من أساليب الشيطان في غواية الإنسان : التغرير بالأمانى "
" من أساليب الشيطان فى غواية الإنسان: التغرير بالأمانى "
قال تعالى: " وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ".
فهذه الآية تدلُّ على أنَّ من أساليب الشيطان في إغواء الإنسان نفث الوعود والتغرير بالأماني الكاذبة، ومن مكائده في هذا الباب التغرير بطول الأمل وزهرة الحياة الدنيا وتزيينها وتحسين الحرص عليها؛ فهو يُدرك حب الإنسان للمال وميله للشهوات وحرصه على لذَّة الحياة كما قال تعالى: " وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ "، وقال سبحانه: " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ " الآية.
ولذلك فإنَّ إبليس يجعل من تزيين الحياة والتغرير بحيوانها وطول وقتها مدخلاً لتغرير الإنسان وقذف الأماني في قلبه وإغراقه في خواطر الغفلة عن الموت وقلَّة الانتباه للحساب ونسيان الآخرة وما فيها من نعيم وعذاب !.. قال تعالى مُبيِّنًا كيده وتغريره: " يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا "..
ومن مكائده ومصائده أيضًا أنه إذا وجد في المسلم خوفًا من الله ورهبة ورغبة قوَّى جانب الرَّغبة في قلبه، وملأه بالرجاء والتعويل على رحمة الله وعظيم عفوه ومنته وكريم رأفته ومغفرته.. ويظل يُنسيه جانب الخوف ويُذكِّره بجانب المغفرة حتى يُوقِعَه في عظائم الذنوب وبلايا العيوب.
وبهذا الأسلوب الفتَّاك أغوى إبليس آدم عليه السلام، قال تعالى: " فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ".
فلقد شمَّ عدوُّ الله آدم عليه السلام وأحس منه استشرافاً للملك والخلود في جنة النعيم، فدخله من استشرافه وأتاه بوجه الناصح الأمين مُغرِّرًا إياه بالملك والخلد كَذِبًا وحقدًا.
يقول ابن القيم الجوزية:
وإنما كذبهما عدو الله وغرَّهما وخدعهما بأن سمَّى تلك الشجرة «شجرة الخلد»؛ فهذا أول المكر والكيد، ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرَّمة بالأسماء التي تحبُّ النفوس مُسمَّياتها، فسموا الخمر «أم الأفراح»، وسموا الربا «المعاملة»، وسموا المكوس «الحقوق السلطانية»، وسمو أقبح الظلم وأفحشه «شرع الديوان»، وسموا أبدع الكفر وهو جحد الصفات «تنزيهًا» وسموا مجالس الفسوق «مجالس طيِّبة»... إلخ.
فلمَّا سمَّاها «شجرة الخلد» قال: " ما نهاكما عن هذه الشجرة إلاَّ كراهة أن تأكلا منها فتخلدا في الجنة ولا تموتا، فتكونا مثل الملائكة الذين لا يموتون "، ولم يكن عليه السلام قد علم أنه يموت بعد واشتهى الخلود في الجنة، وحصلت الشبهة من قول العدو وإقسامه بأشدِّ إيمانه أنه ناصحٌ لهما، فاجتمعت الشبهة والشهوة (إغاثة اللهفان).
وبهذه الطريقة يصنع عدوُّ الله سلاح الأماني والتغرير بالمسلم؛ فيغرِّر بشرب الخمر لأجل نسيان الهموم، ويُغرِّر بالتدخين والمخدرات لتخفيف الانزعاج والقلق، ويُغرِّر بالربا لأجل الربح السريع، ويُغرِّر بالتبرُّج لأجل الزواج، ويُغرِّر بالغشِّ لأجل كسب المال.. وما من معصيةٍ إلاَّ وتجده يوجد لها من الشُبه ما يناسب شهوات أصحابها، كلٌّ بحسبه.
وإبليس إذا أحسَّ من المسلم إصرارًا على طاعة الله جلَّ وعلا ولم ينفع فيه التغرير والتضليل نهج عدو الله مدخل «التسويف»، فتجده يُسوِّف للتائب توبته، وللقائم قومته، ويظلُّ يصوِّر له الأعذار ويُزيِّنها له حتى إذا استقرَّ في قلب الطائع تسويفها أنساه الشيطان إيَّاها وفوَّت عليه الظفر بثوابها.
يقول ابن الجوزي:
وكم من عازمٍ على الجِدِّ سوَّفه الشيطان وجعله يقول «سوف»، وكم من ساعٍ إلى فضيلة ثبَّطه، فلربما عزم الفقيه على إعادة درسه، فقال «استرح ساعة».. وما زال الشيطان يُحبِّب الكسل ويُسوِّف العمل (تلبيس إبليس).
مختارات