خلق الإنسان - الجزء الثانى
إن الرب جل وعلا لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا، إلا ويؤتيه ما هو أفضل منه وأنفع له، وليس ذلك لغير المؤمن.
فإنه سبحانه يمنعه الحظ الأدنى، ولا يرضى له به، ليعطيه الحظ الأعلى.
ولكن العبد لجهله بربه، وجهله بكرمه، وجهله بحكمته ولطفه، وجهله بمصالح نفسه، لا يعرف التفاوت بين ما منع منه، وبين ما ذخر له، بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاً فانياً، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان علياً باقياً.
ولو تأمل العبد وفكر لعلم أن فضل الله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها، أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك، فما منعه إلا ليعطيه، ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب للقدوم عليه، ويسلك الطريق الموصلة إليه.
وقد ركب الله سبحانه في الإنسان قوتين: هما الشهوة والغضب.
وهاتان القوتان بمنزلة صفاته الذاتية لا ينفك عنهما، وبهما وقعت المحنة والابتلاء، وبهما ينال العبد منازل الأبرار، أو ينحط تحت أقدام الأشرار في أسفل سافلين.
فمن شهوته مصروفة إلى ما أعد الله له في دار النعيم.. وغضبه حمية لله ولكتابه ولرسوله ولدينه، فهذا في الدرجات العلى، والنعيم المقيم.
ومن كانت شهوته مصروفة في هواه وأمانيه العاجلة.. وغضبه مقصور على حظه.. ولو انتهكت محارم الله وحدوده وشرائعه.. وهو ملحوظ بعين الاحترام والتقدير ونفوذ الكلمة.. فهذا في أسفل سافلين.
ولن يجمع الله بين الصنفين في دار واحدة.
فالأول: صعد بشهوته وغضبه إلى أعلى عليين، فهو في الجنة.
والثاني: هبط بهما إلى أسفل سافلين، فهو في النار.
فسبحان من خلق هذا الإنسان من تراب، وجعل نسله من ماء مهين، ووكل بخلقه من هذا الماء ملائكة تنفذ أمره فيه.
فهذه النطفة بمجرد استقرارها في الرحم، تتولاها ملائكة بأمر الله، فتنقسم إلى خلايا يلهمها الله ماذا تفعل؟، وماذا تريد؟.
وكل خلية من هذه الخلايا مكلفة بأمر الله ببناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة، عمارة الجسم الإنساني العجيب:
فتنطلق مجموعة منها لتنشئ بأمر الله الهيكل العظمي.. وأخرى تبني الجهاز الهضمي.. وأخرى تبني الجهاز العصبي.. وأخرى تبني الجهاز الدموي.. وأخرى تبني الجهاز التناسلي.. وأخرى تبني الجهاز التنفسي.. إلى آخر بقية الأركان في العمارة الإنسانية.
وهذه العمارة دقيقة الصنع، عجيبة التركيب، متنوعة الوظائف، وكل خلية مأمورة أن تقوم بنوع معين من العمل في الركن المخصص لها من العمارة.
يأمرها الملك فتنطلق بأمر الله وهي تعرف طريقها، وتعرف إلى أين هي ذاهبة، وما هو مطلوب منها، ولا تخطئ واحدة منها..؟
فالخلايا المكلفة أن تصنع العين تعرف أين مكانها، وتعرف أن العين ينبغي أن تكون في الوجه، ولا يجوز أن تكون في البطن أو الظهر أو القدم، مع أنه يمكن أن تنمو في أي مكان.
فمن ترى قال لها إن هذا الجهاز يحتاج إلى عين، في هذا المكان دون سواه.
إنه العلي الأعلى، الذي خلقها وهداها إلى طريقها في المتاهة التي لا هادي فيها إلا الله وحده.
وكما أودع الله في الأرض ودائعً، وبالجهد عليها تظهر هذه الودائع، وتنفع الناس كالماء والحديد وسائر المعادن.
كذلك وضع الله في الآدمي ودائعَ، فإذا اجتهدنا عليها بالمنهج الصحيح ظهرت هذه الودائع، وخدمت الدين، وإلا نجتهد عليها يضيع هذا الاستعداد بين شهوات البهائم، أو غضب السباع، أو كيد الشياطين.
فكل جوارح الإنسان خلقت للعبادة، وخدمة الدين، والقيام بالدين.
فالعين عندها استعداد النظر.. والأذن عندها استعداد السمع.. والقلب عنده استعداد الإيمان.. والعقل عنده استعداد الفكر. واللسان عنده استعداد الكلام.. واليد عندها استعداد البطش بالأعداء.. والرجل عندها استعداد المشي والكر والفر، وهكذا بقية الجوارح.
فأين الذي استفاد منها حسب أمر الله؟.
وقد خلق الله اللسان، وجعل فيه استعداد الكلام، حيث يحدث الصوت من هواء ساذج، يخرج من الصدر حتى يصل إلى الحلق واللسان، والشفتين والأسنان، فيحدث منه الكلام والصوت.
نظمه ونثره.. وخطبه ومواعظه.. لينه وخشنه.. والضحك والبكاء.. والترغيب والترهيب.. والسؤال والجواب.. والإنذار والتبشير، والنداء والدعاء.. والحمد والذم.. والتسبيح والاستغفار.. وغير ذلك مما لا يمكن حصره من أنواع الكلام الذي ينطق به اللسان بإذن الله.
فسبحان القدير الذي أخرج كل ذلك من هواء ساذج يخرج من الصدر، ولا يدرى ما يراد به، ولا أين ينتهي، ولا أين مستقره، فهو بحر من الهواء يقلبه الله إلى بحر من الكلمات والجمل التي تحمل المعاني.
وأعجب من هذا اختلاف الألسنة واللغات والأصوات.
فيجتمع خلق من الناس من بلاد شتى، وكل يتكلم بلغته، ولا يدري كل منهم ما يقول الآخر، مع أن الهواء واحد، واللسان واحد، والحلق واحد، والأضراس واحدة، والشفتان واحدة، إن في ذلك لآية.
فمثل اللسان مثل الأرض تسقى بماء واحد، وتخرج نباتات مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والأحجام، من الأشجار والأزهار والحبوب والثمار، مع أن التراب واحد، والماء واحد: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4].
وعجيبة أخرى في خلق هذا الإنسان:
إنها عملية تحويل الغذاء في الجسم إلى دم، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم.
إنها عملية عجيبة فائقة العجب، وهي بقدرة الله وتدبيره تتم في الجسم في كل ثانية، كما تتم عملية الاحتراق، كما تتم عملية التنفس.
وفي كل لحظة تتم في جسم الإنسان عمليات هدم وبناء مستمرة، لا تكف حتى تفارق الروح الجسد.
ولا يملك الإنسان أمام هذه المخلوقات العظيمة، وهذه العمليات العجيبة، إلا أن تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الكون والإنسان.
والله سبحانه خلق الإنسان، وزوده بآلات العلم والمعرفة، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب.
فأي نعمة فوق هذه النعم؟: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78].
وأول الشكر وأعظمه، الإيمان بالله الواحد الأحد، وعبادته وطاعته، والدعوة إليه، والإحسان إلى خلقه.
ألا ما أعظم فضل الله على الإنسان في خلقه.. وحسن صورته الخلقية.. وحسن صورته الشعورية.. فالإنسان أكمل الأحياء في الأرض من ناحية تكوينه الجثماني، كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري.. واستعداده الروحي.
ومن ثم وكلت إليه الخلافة في الأرض، وأقيم خليفة في هذا الملك العريض، إلى يوم الدين.
إن الله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان من نطفة، وجعله يمر بمراحل:
المرحلة الأولى: في بطن الأم، ومدتها تسعة أشهر، والحكمة من وجوده هذه المدة شيئان: تكميل الأعضاء الداخلية والخارجية.
المرحلة الثانية: في بطن الدنيا، ومدتها من يوم الولادة إلى الموت، والحكمة من وجوده في الدنيا شيئان: تكميل الإيمان، والأعمال الصالحة.
المرحلة الثالثة: في القبر، ومدتها من الموت إلى قيام الساعة، والحكمة من وجوده في القبر انتظار قيام الساعة، وهو في هذه الفترة إما في عذاب، وإما في نعيم، حسب عمله، سواء دفن أو لم يدفن.
المرحلة الرابعة: في دار القرار، في الجنة أو النار، ومدتها من دخول الجنة أو النار، إلى أبد الآباد، والحكمة من وصوله إلى هذه الدار، بلوغ كمال النعيم، والتمتع برؤية ربه إن كان مؤمناً، والخلود في الجنة، أما الكافر فيصل إلى كمال العذاب جزاء على عمله في الدنيا، ويخلد في النار.
والله حكيم عليم، خلق الإنسان ضعيفاً، ومع ضعفه فعلمه قليل، فمهما علم من العلم فلن يعرف كل شيء.
والإنسان مع ضعفه وقلة علمه عجول، ومع عجلته كان أكثر شيء جدلاً، ومع جداله كان خصيماً، وقتوراً وهلوعاً.
وفوق ذلك كان ظلوماً جهولاً، وفوق ذلك كان مختالاً فخوراً، وفوق ذلك كان كفوراً: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)} [الزخرف: 15].
إن أعطى لم يشكر.. وإن ابتلي لم يصبر.. وإن أساء لم يستغفر: «يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ» أخرجه مسلم
فالإنسان بحاجة إلى الوحي، وبحاجة إلى الدين، وبحاجة إلى قدوة حسنة، ولذلك بعث الله إليه خيار الناس وهم الأنبياء، ليقتدي بهم.
فمن اتبعهم وسار على هديهم أفلح ونجا في الدنيا والآخرة.
ومن خالفهم وسار على هواه ضل وخسر في الدنيا والآخرة.
فسبحان العليم الحكيم، السميع البصير، الذي خلق الإنسان ورعاه ورباه، وهو جنين في بطن أمه، وجعله في موضع صغير، لا يد تناله، ولا بصر يدركه.
وسبحان من أجرى له الدم من الأم، يتغذى به كما يتغذى النبات بالماء، فينمو تدريجياً حتى يصير بشراً سوياً.
وسبحان من قلب ذلك الدم بعد الولادة لبناً خالصاً.
حتى إذا كمل خلقك، وقوي بدنك على مباشرة الهواء، واستعد بصرك لملاقاة الضياء، وصلبت عظامك على مباشرة الأيدي، هاج الطلق بأمك بأمر العزيز الحكيم، وجاءت الأوامر بخروجك.
فخرجت من الظلمات إلى النور.. ومن دار الأمن إلى عالم الابتلاء.. فبينما الرحم مبتهجٌ بحملك.. صار يعج إلى ربك من ثقلك.
فسبحان الذي فتح لك بابه حتى ولجت.. ثم ضمه عليك وحفظك فيه حتى كملت.. ثم فتح لك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر.. لم يخنقك ضيقه.. ولم تحبسك صعوبة طريقه.
وسبحان من صرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن أمك إلى خزانتين معلقتين على صدرها، تحمل غذاءك على صدرها، كما حملتك في بطنها، وساقه إلى تلك الخزانتين أعظم سوق وألطفه، فهي بئر مملوءة بالحليب، تشرب منها كلما ظمئت وجعت لبناً خالصاً سائغاً.
فتبارك الكريم الرحيم الذي خلقه وصفاه، وأطاب طعمه، وحسن لونه، وأحكم طبخه، ليس بالحار المؤذي، ولا البارد القارس، ولا المر ولا المالح، ولا الكريه الطعم والرائحة، بل هو أحسن ما يكون.
وجعله في أعلى مكان ليناسب حالك، فإذا اشتهيت اللبن در لك الثدي بإذن ربه، ولسهولة وصوله إليك جعل الله في رأس الثدي حلمة هي بمقدار صغر فمك، فلا يضيق عنها، ولا يتعب بالتقامها: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6].
ثم نقب سبحانه في رأس الحلمة نقباً صغيراً يناسب حالك، لم يوسعه فتختنق باللبن، ولم يضيقه فتمصه بكلفة.
فسبحان من عطف قلب الأم على مولودها، ووضع فيه الحنان العجيب، والرحمة الباهرة، تسهر من أجلك، وتؤثرك بكل شيء، وهي منقادة مسرورة.
حتى إذا قوي بدنك، واتسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى طعام يشتد به عظمك، ويقوى عليه لحمك، أنبت في فيك آلة القطع والطحن من الأسنان والأضراس.
فسبحان الذي حبسها وقت الرضاع رحمةً بأمك، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمةً بك ولطفاً بك.
وكلما ازددت قوة وحاجة إلى الأسنان في أكل الطعام زيد لك في تلك الأسنان، حتى تنتهي إلى النواجذ، فتطيق نهش اللحم، وقطع الخبز، ثم إذا ازددت قوة، زيد لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحين التي هي آخر الأضراس.
ومن رحمته سبحانه بالإنسان أن أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فإنه على ضعفه لا يحتمل العقل والفهم والمعرفة، وإنما يعطي ذلك تدريجياً كما ينمو تدريجياً رحمةً من ربه العزيز الرحيم.
فلا يزال يتزايد فيه العقل والمعرفة شيئاً فشيئاً، حتى يألف الأشياء ويتمرن عليها، ويستقبلها بحسن التصرف فيها، وحسن التدبير لها.
وخص سبحانه الذكر بأن جمل وجهه باللحية، وقاراً وهيبةً له، وجمالاً وزينة، وفصلاً له عن سن الصبا، وفرقاً بينه وبين الإناث.
وبقيت الأنثى على حالها، لما خلقت له من استمتاع الذكر بها، فبقي وجهها على حاله ونضارته، ليكون أهيج للرجل على الشهوة، وأكمل للذة الاستمتاع.
فالماء واحد.. والوعاء واحد.. واللقاح واحد.. والنتاج مختلف.
فسبحان الذي أعطى الذكر الذكورية، والأنثى الأنوثية: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} [الشورى: 49، 50].
وجعل سبحانه المعدة خزانة يستقر فيها الغذاء، فتطبخه كالطباخ، وتسلمه لمن ينتفع به، فالإنسان يطبخ الطعام في الخارج، حتى يظن أنه قد كمل، وطباخه من الداخل يعاني من نضجه وطبخه ما لا تهتدي إليه، ولا تقدر عليه.
فهو يوقد عليه نيراناً تذيب الحصى، وتذيب ما لا تذيبه النار، وهي في ألطف موضع منك، لا تحرقك ولا تلتهب عليك، وهي أشد حرارة من النار.
وجعل سبحانه في بدنك المنافذ والأبواب، لإدخال ما ينفعك، وإخراج ما يضرك.. فهل من عاقل..؟ وهل من ذاكر..؟ وهل من شاكر..؟
فسبحان الخلاق العليم الذي خلق لك الحواس، وجعلها في الرأس كالمصابيح فوق المنارة لتتمكن بها من مطالعة الأشياء.
وجعل سبحانه الحواس خمساً في مقابل المحسوسات الخمس، كي لا يبقى شيء من المحسوسات لا يناله بحاسة:
فجعل البصر في مقابلة المبصرات.. وجعل السمع في مقابلة الأصوات، وجعل الشم في مقابلة الروائح.. وجعل الذوق في مقابلة المذوقات.. وجعل اللمس في مقابلة الملموسات.. فأي محسوس بقي بلا حاسة؟.
وأعينت هذه الحواس بمخلوقات أخر لتكمل بها منفعتها:
فأعينت حاسة البصر بالضياء والنور.. وأعينت حاسة السمع بالهواء الذي ينقل الأصوات.. وأعينت حاسة الشم بالنسيم اللطيف.. وأعينت حاسة الذوق بالريق المتحلل في الفم.. وأعينت حاسة اللمس خاصة بقوة جعلها الله فيها تدرك بها الملموسات، ولم تحتج إلى شيء من خارج.
فسبحان من أخرج الكلام من هواء ساذج في باطن الإنسان، وأخرج من الحروف والكلمات والجمل أنواع الكلام:
من أمر ونهي.. ونظم ونثر.. ومضحك ومبك.. ومسل ومحزن.. وما يولد الخوف.. وما يولد الأمن.. ومنه ما يسقم الصحيح.. ومنه ما يبرئ السقيم.. ومنه ما يزيل النعم.. ومنه ما يحل النقم.. ومنه ما يستدفع به البلاء.. ومنه ما يجلب النعماء.. ومنه ما يؤلف القلوب.. ومنه ما يفرق القلوب.. ومنه ما يضل.. ومنه ما يهدي.. ومنه العالي.. ومنه السافل.. ومنه الحسن.. ومنه القبيح.
فسبحان من أخرج هذا كله من هواء ساذج يخرج من الصدر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} [الشعراء: 8، 9].
وسبحان من أخرج من هواء واحد ما لا يحصيه إلا الله من الحروف والكلمات، والأصوات والأنغام، وأخرج بماء واحد ما لا يحصيه إلا الله من النباتات والأشجار، والأزهار والثمار.. وأخرج بلسان واحد ما لا يحصيه إلا الله من اللغات واللهجات.
فالحلق يمر به هواء واحد، والأرض تسقى بماء واحد، والمواليد من هذ وهذا مختلفة لا يحصي أنواعها إلا الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
وما أعظم نعمة الله في الحفظ والنسيان، والذي خص به نوع الإنسان، وما أعظم ما فيهما من الحكم، وما للعبد فيهما من المصالح.
فإنه لولا القوة الحافظة التي خص الله بها الإنسان لدخل عليه الخلل في أموره كلها، ولم يعرف ما له وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى، ولا ما سمع وما رأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذكر من أحسن إليه، ولا من أساء إليه، ولا من نفعه فيقرب منه، ولا من ضره فينأى عنه، ولا يعرف علماً ولو درسه مراراً، ولا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة ولو سلكه مراراً، ولا ينتفع بتجربة، ولا يعرف من عامله.
ومن أعجب النعم عليه نعمة النسيان، فإنه لولا النسيان لما سلا أبداً، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزى عن مصيبة، ولا ارتفع عنه حزن، ولا بطل له حقد، ولا استمتع بشيء من الدنيا مع تذكر الآفات، ولا نام من تذكر المصائب والبليات.
فما أعظم نعمة الله على العبد في الحفظ والنسيان مع تضادهما: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53].
والله على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يفعل ما يشاء بقدرته وهو الصمد:
خلق آدم بلا أب ولا أم.. وخلق زوجه من أب بلا أم.. وخلق عيسى من أم بلا أب.. وخلقنا من أب وأم.
فخلق آدم من تراب، وخلق زوجه من أحد أضلاعه، وخلق عيسى من نفخة جبريل في درع مريم، وخلق البشر من اجتماع ماء الرجل والمرأة.
فسبحان من خلق من هذا الماء بشراً سوياً يقوم ويقعد.. ويأكل ويشرب.. ويفرح ويغضب.. ويصلي ويتعبد.. ويعدل ويظلم.. ويتكلم ويسكت.. ويرحم ويبطش.
وسبحان من جعل من نسله الذكر والأنثى.. والأسود والأبيض.. والطويل والقصير.. والمؤمن والكافر.. والعاقل والمجنون.. والعرب والعجم.
وسبحان من هيأه للإيمان والكفر.. والطاعات والمعاصي.. والخير والشر.. والإحسان والإساءة.. والهدى والضلالة.
وسبحان من ملأ الأرض من نسله.
فهذا يولد.. وهذا يموت.. حتى يأكلوا أرزاقهم.. ويستكملوا آجالهم.. والله يوالي عليهم نعمه.. ويرسل إليهم رسله.. وهم يعملون بما يسر الله لهم.. ويغدون ويروحون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فما أعظم خلق هذه النفوس، وما أعجب ما فيها من الآيات والعبر والشواهد والحكم، وما أدلها على قدرة بارئها وفاطرها: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20، 21].
وهذا الإنسان مركب من ستة أشياء وهي:
بدنه الجثماني.. ونفسه الشهوانية.. ونفسه الغضبية.. ونفسه الشيطانية.. وروحه الملكية.. وجوهره العقلي.
والذي يملك السمع والأبصار هو الله، فهو خالقها وحده، وهو الذي يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها، ويعافيها أو يمرضها، ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره.
وفي تركيب العين وأعصابها، وكيفية إدراكها للمرئيات.
وفي تركيب الأذن وأجزائها، وطريقة إدراكها للذبذبات.
في ذلك كله عجائب تذهل العقول، وتدير الرؤوس.
إن كثيراً من الناس يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم، كأنهم لا يبصرون ولا يدركون: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} [يونس: 92].
والذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، هو الله وحده.
ألا ما أعظم الرب الخالق سبحانه، وما أعظم قدرته، وما أتقن صنعه.
إن وقفة واحدة أمام الحبة والنواة، تخرج منهما النبتة والنخلة.
أو أمام البيضة والبويضة، يخرج منهما الفرخ والإنسان.
إن ذلك لكافٍ لاستغراق حياة الإنسان في التأمل والارتعاش، إجلالاً لعظمة الله وكمال قدرته، وسعة علمه، وجميل صنعه.
فسبحان العليم القدير.
أين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟.. وأين كان يكمن العود؟.
وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق والثمار؟.
وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء، والساق والعراجين؟.
وأين كان يكمن الطعم والنكهة، واللون والرائحة؟.
وأين كان يكمن البلح والتمر، والرطب والبسر؟.
وأين في البيضة كان الفرخ؟.
وأين كانت تكمن تلك العظام واللحوم، والزغب والريش؟.
وأين كان يكمن في البويضة ذلك الكائن البشري العجيب؟.
وأين كان يكمن لحمه وعظامه، عروقه وأعصابه، وسمعه وبصره، ورأسه وأطرافه، وأفكاره وأعماله، وكلامه وحركاته؟
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)} [لقمان: 11].
وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار، إلى دم حي في الجسم الحي.. وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق.. لأعجوبة يتسع العجب منها.. كلما زاد العلم بها.. وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار.
إن هذه الكائنات الحية لا تكون إلا من إله حي، يهب الحياة لكل حي: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر: 65].
مختارات