" التشميرة الرابعة والعشرون "
" التشميرة الرابعة والعشرون "
لهف وترقب في ذلك الجمع الكبير من المدرسين..
أين تم تعيينك؟! وفي أي قرية؟! وأين تقع؟! وكم تبعد؟!
اجتمع زملاء الدراسة وحديثو التخرج أمام لوحة الإعلانات.. والسؤال على كل لسان.. أين تم تعيينك؟! في أقصى الشمال !! في قرية نائية.. لا يوجد فيها خدمات.. ولا هاتف.. كيف أذهب؟!
قال الآخر: تم تعييني في أقصى الشرق.. كيف أترك أهلي.. بل كيف أفارق مدينتي؟!
من يطبخ لي.. ومن يكنس لي؟! بل من يغسل ثيابي؟!
ضحكة سبقت أحدهم وهو يقول: تم تعيينى في أعال الجبال، وقيل لي: إنها مناطق نائية، ذات طرق متعرجة، وارتفاعات شاهقة..أتبع ذلك بتعليق ساخر.. سأشتري دابة لتنقلني من المنزل إلى المدرسة.
بعد كل سؤال.. ترتفع الأصوات وتتداخل الضحكات.. يعقبه إظهار للتسخط والتذمر وعدم الرضا..
لله در أبي عبد الله.. حمل هم الدعوة..تاه فكره وأطرق في سكوت.. وقال بحرقة: لقد تم تعييني في الرياض ! أتته الأصوات مستبشرة..مرحى لك.. حظك طيب !!
ولكن من حمل هم الأمة بين جنبيه.. ونفض غبار العجز والكسل والراحة..
توجه من الغد بخطاب يطلب فيه تعيينه في قرية (.....) على بعد أكثر من مائة وعشرين ميلاً..
وقال وهو يحدث زوجته.. ويوضح لها الأمر.. هناك أرض خصبة للدعوة.
وهناك الفطرة السليمة النقية.. ولكن يا زوجتي الجهل ضارب بأطنابه..
وبدأ يعدد لها المزايا..أوقات الفراغ نستفيد منها في حفظ القرآن ومراجعته.. وقراءة أمهات الكتب..
هناك لن نضيع ساعة أو اثنتين كل يوم عند إشارات المرور..
وافقت الزوجة المؤمنة.. بل وتحمست للأمر.. ولكن العقبة الأولى ظهرت منذ وصولهم إلى تلك القرية.. لم يجد مدرسة لزوجته في القرية لتدرس فيها..
قال صاحب الهمة والعزيمة.. من وهبه الله صبرًا واحتسابًا في سبيل الدعوة..
أذهب بك للقرية المجاورة على بعد ثلاثين ميلاً..كل منا يكون داعيًا إلى الله في قريته..لله در أبي عبد الله ولله در أم عبد الله.
لا تراخي ولا كسل ولا عجز ولا ضعف.. بل همة عالية.. ومثابرة ومجاهدة..
تربية إسلامية في المدرسة.. ونشاط في المنزل والمسجد.. حلقات لتحفيظ القرآن.. توزيع للأشرطة والكتب.. مسابقات وجوائز..بل إن أم عبد الله جعلت درسًا لكبيرات السن تعلمهن ما يلزم من الدين معرفته بالضرورة.. بل رددت على مسامعهن قصار السور عشرات المرات حتى حفظنها..
لم يمنعها الحمل والإرهاق من زيارة الجيران وقراءة الفتاوى النسائية عليهن.
أما أبو عبد الله فجعل للكبار درسًا لحفظ القرآن بعد صلاتي العصر والفجر.. ودرسًا للناشئة بعد العصر.. أما بعد المغرب فدرس عام.. لم ينس رحلات الحج والعمرة.. وإمامة المسجد..
حيوية ونشاط ومسارعة للخير في كل مكان.. بل امتد نشاطه من محاضرات وزيارات.. إلى قرى مجاورة..
مضت ثلاث سنوات..وأبو عبد الله يسخر منا حينما نستحثه للقدوم إلى المدينة..
قال: كم نضيع من أعمارنا عند إشارات المرور.. وأخفى عن الجميع نتائج دعوته وثمار صبره..
أضاء بنشاطه سماء الغفلة.. وأنار علمه قلوب أهل القرية.
تخرج على يديه الكثير.. وتربى على يديه الكثير..
أما أم عبد الله فقد أخرجت جيلاً يحمل هم الإسلام.. وأمهات يحفظن نصيبًا من القرآن..
ثلاث سنوات زال الجهل وانقشعت الغشاوة..
وكل سنة عند لوحة الإعلانات.
تسمع الصوت الضعيف.. وترى من همه راحته ونومه.. وأكله وشربه..
ترى أصحاب الضعف والخور..
وتسمع أصواتهم كل يوم أين تم تعيينك؟!
يا شباب الإسلام
هل من مشمر؟!
من كتاب صوت ينادي.
مختارات