" القصة الثالثة : بر بعد العقوق "
" القصة الثالثة: بر بعد العقوق "
توفى زوجها، فورثت مبلغًا من المال، حرصت عليه أشد الحرص، لبناء منزل خاص بها، تستغني من خلاله عن أبنائها وبناتها، وتم لها ذلك بفضل من الله تعالى، وسكنت بيتها وحيدة فريدة، ولكنها كانت سعيدة لأنها ليست بحاجة إلى أحد.
كان لديها اهتمام كبير بكتاب الله، وكانت تتردد على دار التحفيظ وحلقات الذكر القريبة منها، بصحبة جاراتها المحيطات بها، وكانت فرحتها تفوق الوصف كلما اجتازت سورة بإتقان، وفي المنزل كانت تراجع حفظها من خلال آلة التسجيل.
مرت السنون سريعة، وبدأ الإعياء يدب في جسدها النحيل، وبدأت تتردد على المستشفيات، وكانت تأخذ كثيرًا من الأدوية، وتتعرض بين الحين والآخر لأزمات صحية صعبة، وكان أبناؤها وبناتها يزورونها دائمًا من داخل مدينتها وخارجها.
في ذلك اليوم، ازدادت حالتها سوءًا، فزارها ابنها البكر، ونقلها للمستشفى على الفور، وبقيت هناك مدة طويلة، كانت تهذي، وتتخيل أشياء لا وجود لها، فأدرك عند ذلك بأن والدته قد كبرت، وأن ذاكرتها قد ضعفت، ولم يشفع لها ذلك لديه، فلم يفكر بأن يأخذها إلى بيته ويعتني بها، بل تهادى إلى عقله فكرة شيطانية، فقد رأى الفرصة سانحة له للاستفادة من والدته على حين غرة من إخوته، وصار يخطط منذ هذه اللحظة لتنفيذ ما وصل إليه تفكيره.
في عصر اليوم التالي خرج من منزله، وأخذ جولة على المكاتب العقارية، ووضع مواصفات بيت الوالدة لديهم، بيت كبير وجميل، وكل دور يصل للإيجار على حدة، باستثناء الملحق الذي يعد وحدة متكاملة للسكن، فلن يؤجره لأنه بحاجة إليه ليلقى بوالدته فيه بعد خروجها، فهي في نظره لا تدري عن شيء الآن، ولن يضرها ما سيفعل بها.
خرجت من المستشفى، وانتقلت إلى ملحق بيتها، وقد ضج منزلها الكبير بصيحات أطفال المستأجرين، لم تدرك الوضع، ولم تعترض بالطبع، ونظراتها الحزينة تستجدي عطف خادمتها القاسية، وابنها يعد الآلاف التي حصل عليها، وهو مغتبط بذلك، ومسرور للغنيمة التي حصل عليها وحده، فأين هو وما فعل من أسامة بن زيد بن حارثة الذي بلغ به كرمه وبره بأمه ما رواه عنه محمد بن سيرين حيث قال: بلغت النخلة في عهد عثمان بن عفان ألف درهم، قال: فعمد أسامة إلى نخلة فعرقها فأخرج جمارها فأطعمه أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها.
في منقطة بعيدة جدًّا، تصل أخبار الأم إلى مسامع ابنها الثاني، ويعلم بما فعل أخوه، فيستشيط غضبًا لفعلته، لم تكن غضبته من أجل البيت أو المال، بل كان الغضب كل الغضب لكرامة الأم التي أريقت على التراب، ولعزتها التي أهينت بعد هذا العمر.
حزم أمتعته، ركب سيارة كبيرة ومريحة، فقد قرر بأن يعيد لوالدته اعتبارها، ويأخذها إلى بيته معززة مكرمة، لم يدر بخلده أن يناقش أخاه في فعلته، وقد توقع أن شقيقه بدوره لن يناقشه فما قرره بصدد والدته، فحملها بكل رفق بمساعدة خادمتها، ووضعها في سيارته، وانطلق بها في رحلة طويلة، إلى المدينة التي يعمل بها.
حال وصوله، بدأ في إجراءات جديدة في منزله، وأعد لوالدته مكانًا مريحًا، ومناسبًا لظروفها الصحية، أخذ أطفاله الفرح، وغمرت السعادة قلب زوجته، وهي ترى بر زوجها بأمه استبدل الخادمة الأولى، وأحضر بدلًا منها أخرى، واستقدم ممرضة خاصة بها، وصار يشرف بنفسه على علاجها ليل نهار، ويتابع طعامها وشرابها، وقد أخذ عهدًا على نفسه بأن والدته لن تتعرض لما تعرضت له مسبقًا من إهانة وذل ما دام على قيد الحياة.
مختارات