" القصة الثانية : التضحية الكبرى "
" القصة الثانية: التضحية الكبرى "
تدهورت صحتها في تلك المنطقة البعيدة، فقرر الأبناء إحضارها إلى المدينة التي يسكنونها، حيث أعمالهم وبيوتهم، تدخل المستشفى وتتحسن قليلًا، وتُشَمِّر ابنتها الوحيدة عن ساعديها، وتفرغ نفسها تمامًا لرعاية والدتها، تساعدها على تناول طعامها وشرابها، ولا تنسى موعد دوائها، وتقرأ عندها بعض الكتب النافعة، تدخل السرور على نفسها ببعض الأخبار المحيطة، وتفتح معها أحيانا صفحات الماضي، وتذكرها بالمواقف الطريفة التي مرت بهما.
يحضر الأبناء يوميا للزيارة، وقد انحصر دورهم في التلفظ ببعض عبارات المجاملة المجردة:
- كيف حالكم؟!
- هل تحتاجون شيئًا؟!
- نحن في الخدمة.
وهكذا كل يوم، ومن ثم ينطلق كل منهم إلى عالمه الخاص، إلى عمله وبيته، وزوجته، وأولاده.
يمر اليوم تلو الآخر، وزوج الابنة ينتظر عودتها إلى بيتها وأولادها العشرة، فقد أعياه التعب من تحمل مسئولتهم؛ وهو يشعر بالمرارة لتنصل إخوة زوجته من مسئوليتهم، وتهربهم من العناية بوالدتهم سواء في المستشفى أو البيت.
تحسنت حالة الأم، وجاء دور الأبناء لاحتضانها في بيوتهم في أواخر أيامها، وتهيئة الجو المريح لها، ولكنهم لاذوا بالصمت، وكانوا في قرارة أنفسهم سعداء لطيبة شقيقتهم، وتفانيها في خدمة والدتهم، ففي برها تغطية لعقوقهم، وفي تحملها للمسئولية فتحت المجال أمامهم واسعًا للتهرب بصمت، فهم أمام المجتمع أولاد بارون يبذلون الغالي والنفيس، ولكن الواقع المرير الذي تعيشه الأم، يقرُّ بحياتها المأساوية، وينطق بالحقيقة الصامتة، ويعلن بصمت وجل خسارة أبنائها، وحرمانهم من أجر البر.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، فقيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» [أخرجه مسلم].
يتغافل زوج الابنة إخوة زوجته، ويحضر إلى المستشفى، يناقش زوجته في الوضع، ويذكرها بمسئوليتها تجاه بيته وأولاده، ويذكرها بمسئولية إخوتها تجاه والدتهم، فترفض طلبه في مفاتحة إخوتها في الأمر، ولكنه يصر على طلبه، ويهددها إن لم تذعن لطلبه، تجهش بالبكاء بضعف ظاهر، وتدرك الأم الوضع الذي وقعت فيه ابنتها، وتجهش الأخرى بالبكاء، لقد اعتادت على قرب ابنتها في هذه الفترة الحرجة، وتعرف جيدًا أنه ليس في أولادها من هو بار بها مثل ابنتها.
تمر الأيام، ويحضر زوج الابنة إلى المستشفى في الوقت الذي يتوقع فيه اجتماع إخوة زوجته عند والدتهم، يلمح ببعض الجمل والكلمات، ويصرح ببعض ما آل إليه حال بيته وأطفاله في ظل غياب زوجته، ويبين ضرورة عودتها إلى بيتها، وأن الوالدة إنما هي مسئولتهم فقط، وشيئًا فشيئًا بدأ الكلام بوضوح، وبدأت السحب تنقشع عن واقع هذه المأساة، وقد فهم الأبناء هذه اللحظة المغزى من كلامه، واستوعبت عقولهم المطلوب، ولكن الهوى والشيطان كانا لهم بالمرصاد لكل إجراء صحيح.
تعالت الأصوات معارضة لكل كلمة تفوه بها، وكانت الحجة بأن الأم قد اعتادت على قربها، ولا تريد سواها لخدمتها، متناسين أن الأم لم تجد سواها لخدمتها بصدق وإخلاص، عندها هب الزوج منتفضًا من مكانه، وقد اتهمهم بالتهرب من مسئولية قد فرضها الله عليهم، وإلقائها كاملة على أختهم التي لا حول لها ولا قوة.
تعالت الأصوات، وتبادلوا الاتهامات، والأم وابنتها تجهشان بالبكاء، وصار للغرفة جلبة شديدة، فهذا يتهم، وهذا يدافع، وهذا يرد، والنتيجة أنه ليس من حل أمامهم إلا استمرار شقيقتهم في مراعاة الوالدة مهما تكن النتائج، فقد رفضوا مبدأ أخذها إلى بيوتهم، ولم تعجبهم فكرة استئجار سكن خاص بها مع وضع من يخدمها، كما رفضوا فكرة التناوب على خدمتها بحجة ارتباطهم بأعمالهم ووظائفهم.
أدرك الزوج أن الأبواب قد أوصدت كلها في وجهه، وأنه ما من حل مناسب معهم، وأنهم يرفضون أيضا مبدأ التعاون في خدمة والدتهم، فسأل زوجته عن قرارها أمامهم، وجعل الحل كاملًا بيدها، نظرت إلى إخوتها وعيونهم تنطق بالعقوق، فنطق لسانها بالبر وقالت: إن لم يتهيأ لوالدتي من يخدمها بصدق وإخلاص فلن أفرط في ذلك، ولن أدعها نهباً للحسرة والألم في هذه الفترة.
يخرج الزوج غاضبًا، ويبتسم الإخوة وهم يستشعرون نشوة الانتصار، وكانت نتيجة انتصارهم المصطنع بعد أيام، ورقة طلاق شقيقتهم وصلتها في المستشفى، استلمتها على مرأى ومسمع من والدتها، والتي زادت آلامها آلامًا جديدة.
مختارات