" القصة الرابعة : ملحمة بر في زمن العقوق "
" القصة الرابعة: ملحمة بر في زمن العقوق "
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه عيسى عليه السلام: " قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا " [مريم: 30-32].
فهذا نبي الله يتحدث عما أوصاه الله به من أعمال صالحة منها بر الأم التي خصها أيضًا رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بكثير من الأحاديث حيث أوصى الأبناء ببرها وبين فضلها.
في هذه القصة تتضح الصورة جلية أمام بعض أفراد مجتمعنا المسلم، الذين يتخذون من أوامر الله عز وجل ووصايا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم دستورًا يسيرون وفق بنوده في حياتهم، وقد حرصوا كل الحرص على البر اتباعًا لأوامر الله سبحانه وتعالى، وسيرًا على وصايا رسولنا الكريم.
عندما اقتربت إجازة الصيف وازدادت حرارة الجو، أخذت كثير من الأسر تعد العدة للرحيل، للسياحة في أرض الله الواسعة، للذهاب إلى أماكن جديدة، وكان الحماس على أشده بين الأطفال، كل منهم يريد أن يذهب ويرى، ومن ثم يروي مشاهداته الجميلة لرفاقه، وللنساء نصيب وافر من هذا الحماس، فكسر حدة الروتين مطلب مهم للبعض، ونفض غبار متاعب عام دراسي ضروري لكثير منهم.
كان الجميع يعد العدة للسفر، وكان بعضهم يضع صغاره مع الخادمات عند الأهل، لكي تتسنى لهم الحركة بحرية، وليتنقلوا بسهولة كما يحلو لهم، فلابد -من وجهة نظرهم- أن تكون جوانب مثل هذه الرحلات متكاملة، لكي يكتمل عقد المتعة والمرح.
أفواج من المسافرين يغادرون قراهم ومدنهم، إلى الجنوب، إلى الشرقية، إلى منطقة الحجاز، إلى الأهل في مدنهم وبلادهم الأصلية، وهناك من تكون في انطلاقته كسر للحدود، فيغادر برفقة الأهل أو الأصدقاء، إلى دول العالم أجمع بحسنها وقبيحها.
في صباح ذلك اليوم، استيقظت الجدة مبكرة، وشعرت بحركة غير عادية، فأصوات الأطفال تتعالى بمرح واضح، وابنها وزوجته في جدال، فتحت باب حجرتها وخرجت إلى بهو المنزل، هدأ الوضع قليلًا ولاذ ابنها بالصمت، اقتربت من الجميع، وألقت عليهم بالتحية، رحب بها ابنها كعادته بحرارة، ولكن الزوجة هذا اليوم كانت على غير عادتها، كان يبدو عليها الامتعاض، أشاح الابن بوجهه عن زوجته، واستقبل والدته ببشاشة.
جلس مع والدته، وبدأت خيوط جدالهم تتفكك على مسامع الأم، أخبرها بأنهم مقدمون على رحلة في هذا الصيف، وسألها عن اقتراحاتها لتحديد وجهتهم، فما كان منها إلا أن أشارت إلى زوجته، وطلبت منها تحديد المكان، وقالت لابنها:
- أثقلت عليك يا بني طيلة هذه السنوات بسفري معكم، وأنا كما تعلم الآن متعبة وضعيفة الصحة، ولا يناسبني السفر إلى أي مكان.
- لا عليك يا أمي، فأنا في خدمتك، ولن أخطو خطوة واحدة دونك.
تصعد الزوجة إلى حجرتها في عصبية زائدة، فتفهم الأم سلوكها، وتعرف بأنها تشعر بأنها عبء عليهم في أسفارهم، وترغب بالخلاص منها ولو هذه المرة.
تحاول الأم جاهدة مع ابنها ليعدل عن رأيه، ويتركها هذه المرة عهدة أي قريب لهم، فسفرتهم وإن طالت لن تتعدى الشهر على كل حال، فيرفض هذه الفكرة، ويربط رحلتهم بموافقتها لهم، أو يبقى الجميع في البيت.
تستسلم الزوجة لما فُرض عليها، وتبدأ الاستعدادات للذهاب إلى منطقة الجنوب، والأم في المقدمة، والابن يراعيها أكثر مما يراعي صغاره، يسير بها عندما تريده، ويتوقف عندما تشعر بالتعب، ويتفقد حاجتها كل ساعة، ويلبي طلباتها، وينتبه لمواضع راحتها، وما هي إلا ساعات ويحط الجميع رحالهم في مكان مناسب في تلك المنطقة.
مرت الأيام بسرعة في المنطقة الجنوبية، وكانت الرحلة جميلة وموفقة، وكان الابن يسير بأمه على عربة خاصة، يدفعها بيديه أينما تريد، وعندما تصعب الحركة لوعورة الأماكن كان يحملها بين يديه، وفي المساء يهيئ لها جوًّا مريحًا للنوم، ومنذ الصباح تكون شغله الشاغل إلى المساء من كل يوم، وبعد مرور شهر كامل تعود الأسرة إلى البيت، وقد شعر الجميع من خلال هذه الرحلة الجميلة بسعادة غامرة.
في فصل الصيف من كل عام، كانت تتكرر هذه الرحلة الجميلة، ولكن باختلاف الأماكن فقط، وبقيت الأم هي أساس هذه الرحلات، والابن يكرس وقته وجهده من أجل راحتها، وبعد سنوات تعبت الأم، وأصبح السفر يجهدها، ولا يتناسب مع صحتها مطلقًا، فاعتذرت من ابنها بلباقة، وطلبت منه أن يأخذ زوجته وأبناءه في رحلتهم السنوية، فوافقها الرأي ولكن باختلاف بسيط، فابنه البكر قد كبر، وصار أهلًا للمسئولية، فقرر أن تستمر أسرته في رحلتها المعتادة، ولكن برعاية ابنه، أما هو فقد آثر البقاء إلى جانب والدته، ومراعاتها، وتفقد شئونها.
وبالفعل استعد الجميع للسفر، وبقي في بيته لخدمة أمه، والحديث معها، والترويج عنها، لتزجية ساعات النهار الطويلة، وكانت الأم من سعادتها ببر ابنها لها، لا تملك إلا أن ترفع يديها في كل لحظة، والدعاء له بالتوفيق والسعادة في الدنيا والآخرة.
مختارات