الحذر من غيبة القلوب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين..نبتدئ بالحمد لله إذ جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، أمة يرى المتأمل في شريعتها سمو المقاصد، وتحقيق السعادة للبشرية جمعاء..إن الحرص على توطيد العلاقة بين المسلمين، والحرص على سلامة قلوبهم تجاه بعضهم هو من مقاصد شريعتنا الغراء، وهكذا تجدين القرآن يؤكد على مبدأ الأخوة في الدين، وعظم حقها قال تعالى{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الحجرات.فالأصل أن تكون علاقتنا راسخة ثابتة كالجسد الواحد، وقلوبنا محملة بالمحبة، والتراحم، والألفة، والتعاون فيما بيننا، والبعد كل البعد عما يقدح في هذه الأخوة، ويزعزع ثوابتها قال صلى الله عليه وسلم(مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) البخاري ومسلمألا وإن من أخطر ما يفتك أواصر هذه الأخوة والمحبة بين أبناء الدين الواحد...سوء الظن المهلك الذي يحمله الأخ على أخيه، لينتزع الثقة وتدب الفرقة في جسد الأمة.
الظن عند حافظة الوحيين:أيتها الكريمة أنتِ تحفظين قول ربك جلّ جلاله{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}الحجراتوتحفظين قول نبيك عليه الصلاة والسلام إذ يقول محذراً(إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث..) رواه البخاري ومسلمفهيا بورك فيك...لنقف سوياً عند هذين النصين، ونتأمل حال قلوبنا ونفتش عن سلامة صدورنا من مرض سوء الظن بإخواننا..
ماذا نقصد بسوء الظن؟
هو اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمِلُ الأمرين معاً.وقيل سوء الظن هو: الاتهام بغير دليل أو كما قال البعض: هو غيبة القلب، يُحَدث نفسه عن أخيه بما ليس فيه.
أقسام سوء الظن:قسم العلماء سوء الظن إلى قسمين:
● سوء الظن بالله: وهو أشنع ما يقع في قلبك أن تسئ الظن بربك وخالقك قال تعالى: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } آل عمرانوقال تعالى { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} الفتحومن ذلك أن تظني بأن الله لا ينصر دينه وأن الدين مهزوم أو تظني بأن ذنوبك وصلت لدرجة لا تجدي معها توبة ولا تسعها رحمة فتقعي في اليأس والقنوط، أو تسيء الظن في حكمة ربك وعدله في عطائه ومنعه، فتعتقدي أنكِ مبخوسة الحظ وأنك تستحقين فوق ما أعطاك الله..
● القسم الثاني وهو سوء الظن بغيرك من المسلمين:وهذا لا يجوز، وذلك أن من حكم بِشرّ على غيره بمجرد الظن حمله الشيطان على احتقاره وعدم القيام بحقوقه والتواني في إكرامه وإطالة اللسان في عرضه وكل هذه مهلكات.. وكل من رأيته سيء الظن بالناس طالباً لإظهار معايبهم فاعلمي أن ذلك لخبث باطنه وسوء طويته، فإن المؤمن يطلب المعاذير لسلامة باطنه، والمنافق يطلب العيوب لخبث باطنه.أضرار سوء الظن:
لسوء الظن آثار سيئة وعواقب وخيمة فنذكر شيئاً من مساوئه ليتضح لنا مدى شناعة هذا الخلق السيئ:* إن حامل هذه الصفة هو يحمل صفة من صفات المنافقين إذ قال الله تعالى فيهم{ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} الفتحويقول تعالى{ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا}* يوغر الصدور بين الأخوة ويملؤها غلاً وحقداً.* سوء الظن إذا تمكن من النفس دفعها للتجسس، وتتبع العورات والعثرات.* يجعل صاحبه أسير نفسه ووساوسها، قلق دائماً وذو فكر منشغل.* يُفقد صاحبه الثقة بنفسه وبمن حوله، فيصبح منبوذاً لا صاحب له.* هو آفة تفتك بروابط الأخوة بين المسلمين فتنقض عراها فيصيب الأمة الوهن آنذاك وتصبح لقمة سائغة في متناول أعدائها.
لماذا نقع في سوء الظن؟
هناك عدة أسباب تؤدي بالواحد منا أن يسلك هذا السبيل الخطير ومن ذلك:
1- ضعف الإيمان في القلب، إذ يكون مستسلماً لما يلقيه الشيطان في نفسه من أوهام وتصورات بهدف القطيعة بين المسلمين.
2- التواجد في بيئة يكثر فيها الشك والظنون السيئة.
3- خبث النفس وفسادها تجعله ينظر للناس بنفس المنظار.
4- امتلاء النفس بالعجب والكبر مما يدفعه لتزكية نفسه واتهام غيره قال أحد الصالحين " ويلكم عبيد السوء ترون القذى في أعين غيركم ولا ترون الجذع في أعينكم "
5- عدم وزن الأمور بميزانها الصحيح وتعميم خطأ شخص ما على كل من حوله.
هل أستطيع التخلص من هذه الآفة؟
نعم أختي المباركة..سأذكر لك عدة أمور من خلالها بإذن الله تعالجين ما يقع في نفسكِ من إساءة الظن:
1- أليست القلوب بيد الرحمن؟؟ إذاً توجهي بصدق إلى ربك جل في علاه وانطرحي على أعتابه وسليه أن يرزقكِ قلباً سليماً ونفساً مطمئنة.
2- استعرضي خطر هذا المرض وأضراره..وكيف أن ربك نهاكِ عنه وحذرك منه.3- حاوري نفسكِ وحدثيها ملياً وضعيها مكان الشخص الذي أسأتِ الظن فيه، هل ترين أن هذا الفعل يصدر منك؟؟ فسيدفعك هذا لإحسان الظن به وتأملي قول الله عز وجل في حادثة الأفك { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} وهذا هو الأصل في تعاملنا مع أخواننا.
4- أغلقي على الشيطان كل مدخل، وابدئي بتذكر محاسن من أسأتِ الظن فيه، وما يحمله من صفات الخير والصلاح، فإن هذا يغيظ الشيطان.5- تجنبي الدخول في النيات والحكم عليها، فإنه لا يعلم مكنون الفؤاد إلا الله عز وجل.
6- قبل أن تصدري الحكم على من أسأت الظن به، التمسي له العذر تلو العذر، فلربما كان حقيقة عمله بعيداً كل البعد عما ظهر لك وبدا وتأملي هذا الموقف لنبيك عليه الصلاة والسلام إذ جاءت إليه جاءت صفية رضي الله عنها وهو معتكف في المسجد فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت لتنصرف، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يوصلها، فمر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله وانصرفا مسرعين فناداهما، فقال لهما: على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي. فقالا: وهل نظن بك إلا خيرا يا رسول الله؟ قال(إن الشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدم، وخشيت أن يقذف في قلوبكما شرا)
7- لا تقدمي سوء الظن مادام أن هناك مساحة للإحسان وحمل الأمور على الخير وتلمس الأعذار وهكذا كان دأب سلفك الصالح رضي الله عنهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً ".
8- تذكري أن لحسن الظن حلاوة ولذة، فلا تستبدليها بمرارة الأسى وسوء الظن بمن حولك.
ثمرات حسن الظن:* به تنعم النفس بالسكينة والطمأنينة والسلامة من دوافع القلق والريبة.* استقرار النفس يدفعها إلى مزيد من التقدم والنجاح.* يزيد من ثقتك بنفسك وبمن حولك.* تجدين إندفاعاً نحو أخياتك وصويحباتك فتنعمين بإخوة صادقة.* وهو بذلك يقوي الروابط الأخوية ويزيدها فينعكس بذلك على قوة الأمة وتماسكها..
ختاماً:ما أجمل أن ننقي صدورنا من شوائب البغضاء والتنافر.. لننعم أولاً بطاعة الله عز وجل، ثم بالسعادة التي ارتضاها لنا ربنا تبارك وتقدس من خلال هذه التعاليم السمحة والتي تعجز والله قوانين البشر جمعاء أن تأتي بعشر معشارها.
مختارات