" تهاون الناس في صلاة الفجر "
" تهاون الناس في صلاة الفجر "
أعتقد أنَّه لا يُخالفني أحدٌ في أنَّ حضورَ صلاة الفجر جماعةً أو أداءَها في وقتها أقلُّ من غيره من الفروض؛ فمن يرى المصلِّين في صلاة المغرب أو العشاء، ويراهم في صلاة الفجر، يدركْ مدى التَّهاون في صلاة الفجر، وكم نسبة المتهاونين فيها.
إنّ مؤدَّي صلاة الفجر لا يبلغون ربعمؤدَّي صلاةِ المغرب مثلاً فلمَ ذلك؟!
أليستا في الفرضية سواءٌ؟ أليستا في الأجر سواءٌ؟! بل قد خُصَّت صلاةُ الفجر بشرف شهود الله لها، وبأنها صلاةٌ مشهودة، ومن صلَّاها جماعةً فكأنما صلى الليلَ كلَّه، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشرفُ شهود صلاة الفجر أخبر عنه – سبحانه - بنصَّ الآية؛ حيث قال: " وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا " [الإسراء: 78]، قال المفسرون: قرآنُ الفجر: صلاةُ الصبح؛ وسمَّيت بذلك لكثرة ما يُقرأ فيها من القرآن، ومشهودًا أي تشهده ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار (ت فسير الشوكاني).
إنَّ هذا التفريطَ مدعاةٌ لغضب الربَّ سبحانه؛ فإنه ينزلُ إلى السماء الدُّنيا في ثُلث الليل الأخير حتى يُصَلَّى الفجرُ؛ فكيف لا يغضبُ اللهُ تعالى وهو يرى من عباده الزُّهدَ في لقائه وإيثار النَّوم والرَّاحة على القيام لمناجاته وسؤاله، وهو المتفضلُ ذو الجلال والإكرام.
أين نحنُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غُفر له ما تَقَدَّمَ من ذنبه وما تأخَّرَ وكان يقومُ حتى تتفطَّرَ قدماه، فيُقالُ له فيقولُ: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا».
روى المغيرةُ بنُ شعبةَ رضي الله عنه قال: «قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى تفطَّرت قدماه فقيل له: أمَا قد غُفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (متفق عليه).
قال الغزاليُّ - رحمه اللهُ: «يَظْهَرُ من معناه أنَّ ذلك كنايةٌ عن زيادة الرُّتْبة؛ فإنَّ الشُّكْرَ سببُ المزيد؛ قال تعالى: " لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " [إبراهيم: 7]» (إ حياء علوم الدين ).
يظهرُ من هذا الحديث مدى حرص المصطفىصلى الله عليه وسلم على عبادة ربِّه، ومع هذا فلم تزل تتنزَّلُ عليه الآياتُ التي هي أشدُّ على صدره من وقع الجبال: " إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا " [المزمل: 5].
اللهُ أكبرُ !! كيف نتصوَّرُ تَلَقِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: " وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا " [الإسراء: 73-75].
كيف نتصوَّر تَلَقِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: " وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " [الزمر: 65].
كيف نتصورُ تلقيه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " [المائدة: 67].
بل كيف نتصورُ تلقيه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " [الأنفال: 67، 68].
اللهُ أكبرُ؛ كيف يتحمَّلُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تَلَقِّي هذه الآية؟! إنه الصبرُ.. إنه الصلاةُ.. إنه الإيمانُ العظيمُ الرَّاسخُ.. إنَّه الاجتهادُ والمجاهدةُ لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، وليقامَ شرعُ الله في الأرض.. إنه كمالُ المحبَّة.. وكفى.
كمالُ المحبَّة الذي يجعله صلى الله عليه وسلم يقومُ الليلَ وثلثيه ونصفَه وثُلثَه، يرتِّلُ القرآنَ ترتيلاً باكيًا خاشعًا خائفًا على أُمَّته؛ إنَّ هذا الوقوفَ بين يدي الله في هدأة العيون وظُلَم اللَّيالي والسُّكون، لهو أكبرُ دليل على محبَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم لربِّه تعالى، مع أنَّه غَفَر له ما تقدَّم من ذَنْبه وما تَأَخَّرَ؛ إنَّها لذَّةُ المناجاة للحبيب التي لا يعرفُها إلا مَنْ ذاقها.
إنّ هذه الوقفةَ والمناجاةَ تُحَقِّقُ لَذَّةً في القلب أثناءَها وبعدَها، ونورًا في الوجه على الرَّغم من السَّهر؛ حيث يَشْعُرُ العبدُ بالغبطة والسَّعادة، وسرُّ ذلك رضا الله - سبحانه وتعالى ؛ حيث يَضْحَكُ ويَعْجَبُ لمن يَتْرك فراشَه الوثيرَ وزوجتَه الحسناءَ؛ رغبةً فيما عند الله وطَلَبًا لمرضاته.
وكيف لا يرضى وهو الذي يقولُ " مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا * لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا " [النساء: 147]
«إن شكرتم»!! تأملي أختي وتأمل أخي هذه الكلمة، وتأملْ قوله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» شكورًا بماذا؟ بالقيام بالعبادة والعمل؛ لا باللسان والقلب فقط؛ فهل نحنُ نشكرُ اللهَ على نعمه التي لا تُحصى بالقيام ولو ساعةً أو ربعَ ساعة؟!
كثيرٌ منا يردِّدُ الشُّكْرَ بقلبه وعلى لسانه فإذا ذُكِّرَ بالشكر بالعمل قال: اللهُ يهدينا ويعفو عنا.
نعم.. الدعاءُ بالهداية والعفو مطلوبٌ.. ولكن هل بذلنا أسبابَ الهداية والعفو.. وهل نريد أن نبذلها؟!
إن كُنّا نريد أن نبذلها حقًّا فلنتعاون على بيان أسباب القيام، ونتعاون كذلك على العمل بها، ونسأل المولى الغنيَّ الكريمَ أن يُعَلِّمَنا ما ينفعنا وينفعنا بما علَّمَنا، ولا يكون همُّنا نيلَ العلم لمماراة السُّفهاء والرِّياء والسُّمعة.
مختارات