رحلة مع الأنبياء
لم يكن يعلم محمد صلى الله عليه وسلم.. وجبريل يغطّه في غار حراء قائلاً له: اقرأ.. أقرأ.. أنه يعيش أقدس لحظة في تاريخ البشريّة جمعاء، لحظة تتغيّر معها ملامح القيم، وشكل الحضارة، وحتى ألوان المشاعر..
***
لما دعا نوح _ عليه السلام _ ربه: " أني مغلوب فانتصر " لم يخطر بباله أن الله سيغرق البشريّة لأجله.. أن الله سيغمر الكون كلّه بالمياه لأجل دعوته تلك، أن سكان العالم سيفنون عن بكرة أبيهم عداه هو ومن معه في السفينة !
***
عندما كان موسى _ عليه السلام _ يمشي في تلك الليلة متجهاً إلى النار ليأخذ منها شهاباً قبساً.. لم يدر بخلده وهو يسمع أنفاسه المتعبة جراء المسير أنه سيسمع بعد دقائق يسيرة صوت الله رب العالمين !!
***
عندما اجتمع المتوحّشون لاغتيال عيسى _ عليه السلام _ ظن أن الله إن أنقذه فسيكون بما قد عهده من أفعال الرب سبحانه كأن يكون ذلك بخسف يواري أعداءه تحت الأرض.. أما أن يرفعه الله فوق السماء.. فهذا ما لم يكن ليتوهّمه..
***
لما أمسك إخوة يوسف _ عليه السلام _ به " وألقوه في غيابة الجب " انصرفوا إلى دنياهم باطمئنان وحبور، ولو التفتت قلوبهم إلى الخلف، حيث بئر الخديعة ؛ لرأت أن التاريخ عاكف على كتابة أشنع جريمة تمارس ضد الأخوةّ.. وأخطر حادثة ترتكب في حق البراءة..
***
عندما " غلّقت الأبواب " وأحكمت رتاجها لم تتوقع أن القرآن سيحفظ للإنسانيّة حركة إدارة المفتاح في الباب.. ولحظة اضطرام الشهوة.. وصورة قد القميص.. ظنّت أن الفضيحة قد تأتي من خلف الباب، فإذا بها تأتي من فوق السماء !
***
لأجل إيمان ويقين وتسليم إبراهيم _ عليه السلام _ يأمر الله تعالى الأشياء فتغيّر خصائصها: النار لا تحرق، والسكين لا تقطع: الإيمان أقوى صفعة توجّه لماديّة الحياة الزائفة.
***
عندما كان إسماعيل _ عليه السلام _ متلولاً للجبين.. ينظر لآخر لحظات عمره تسير ببطء.. كانت أبواب السماء في تلك اللحظة تنفتح بمعجزة تخصه.. تخص قلبه المؤمن المسلّم !
***
ليخرج الله يوسف _ عليه السلام _ من السجن لم يرسل صاعقة تخلع باب السجن.. لم يأمر جدران السجن فتتصدّع..فقط أرسل رؤيا تتسلل عبر نسمات الليل الهادئ إلى خيال الملك وهو نائم
***
عندما تظن أنّك لا تملك أي دليل على براءتك، وأنّ قضيّتك قد تكون خاسرة في مواجهة طوفان الافتراء والظلم.. انظر إلى السماء.. عندها يأمر الله الجريمة نفسها أن تشهد لصالحك: قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه
***
بلغ الجوع بموسى الطفل مبلغه، وصار صوت صراخه يملأ أرجاء القصر.. ولكن المراضع محرّمة عليه، فلا يجوز لقطرة حليب من صدورهن أن تثعب في فمه: بات الكل مشغولاً به..آسيا (زوجة فرعون) والمراضع والحرس.. كل تلك التعقيدات يقدرها الله لأجل قلب امرأة خلف النهر مشتاقة لولدها !
***
صامت _ مريم عليها السلام _ عن الكلام.. وهي تواجه أخنع التهم، وأشد النظرات إحراقاً.. لم تكن تعلم كيف ستُثبت براءتها، وكيف ستدفع سهام الريبة عن نفسها: في تلك اللحظة المحرقة يأمر الملك سبحانه لسان الرضيع عيسى _عليه السلام _ أن ينطق ببراءتها..
***
التأمت الظلمات على يونس _ عليه السلام _.. وأحاطت به الهموم.. واجتمعت عليه الأحزان: فلما قال: " سبحان الله ".. تشققت تلك الظلمات، وتبددت تلك الهموم، وتبعثرت تلك الأحزان.. وخرج يونس يمشي في الشمس ليبدأ مع قومه قصّة أكثر إشراقاً..
***
يقف محمد صلى الله عليه وسلم في الليل.. وتواجهه كلمات الكفر اللاذعة، وقهقهات السخرية ا لموجعة.. فيغار الله على خليله.. فلا يلهمه حجة ما، ولا يوحي إليه آية محكمة: بل يشق القمر جزلتين لأجله
***
مستلقٍ على فراشه.. تعصف به أحزان فقد العم والزوجة.. يا لها من أنفاس حرّى تلك التي تنبعث من صدرٍ فَقَدَ أحبّ أصفيائه وأصدقَ أوليائه.. وبينما هو كذلك لا يدري كيف سترقأ تلك الأدمع إذ بالرب سبحانه وهو ينظر لتلك الدموع يأمر جبريل عليه السلام أن يجيء به في رحلة خاصة على البراق ؛ فيسليه الأنبياء، ويخفف عنه الملائكة، بل ويقرّبه الرب ويحبوه.. كل ذلك لأجل دمعات سالت على خدّه
***
في الحقيقة لم تنته الرحلة بعد، وإنما ابتدأت..
مختارات