" يموت المرء على ما عاش عليه "
" يموت المرء على ما عاش عليه "
سوء الخاتمة - وما أدراك ما سوء الخاتمة - عنوان الخسار.. والضياع الكبير.. وسوء العاقبة في النار من ابتلي بها فقد ابتلي بعظيم.. ليس بعد بلائها بلاء.. فهي الشقاء وباب الشقاء.
وهي معجِّلة ولا بدَّ لمن أسرف في الحياة على نفسه.. وباع دينه بدنياه وأعرض عن ذكر الله.. متبعًا شهواته وهواه.
ولم تزل وقائع الأيام وأحداثها تؤكِّد أن سوءَ الخاتمة هي عقوبة معجَّلة لمن عصى الله ورسوله في الدنيا، كما أن حسن الخاتمة هي بشارة معجلة للمؤمنين؛ فعلى فراش الموت تظهر حقائق الأعمال، ويتميز الصالح من الطالح والمؤمن من المنافق والعاصي من الطائع؛ فحينئذ تتلاشى المظاهر والصور.. وتتجلَّى النَّوايا الدفينة؛ فتظهر على نطق اللسان وعلى شكل الوجه.. وبشارة النفس أو قلقها !
ولا يمكن للمرء وقتها أن يصبر أو يجلد أو يتحدى أو يصمد.. وإنما الثبات يومها من الله وحده.. قال تعالى: " يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ " [إبراهيم: 27].
يقول ابن القيم الجوزية - رحمه الله: «فسبحان الله!! كم شاهد الناس من هذا عبرًا، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم».
فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان، وعقل لسانه عن ذكره، وجوارحه عن طاعته، فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد عليه جميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته؛ فإن ذلك آخر العمل؛ فأقوى ما يقوم عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة؛ فمن ترى يسلم من ذلك؟! فهناك " يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ "، فكيف يوفَّق بحسن الخاتمة من قلبه بعيد من الله تعالى، غافل عنه، متعبِّد لهواه، أسير لشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معرضة عن طاعته مشتغلة بمعصيته - أن يوفَّق للخاتمة الحسنة؟!
وذكر - رحمه الله - جملة من وقائع سوء الخاتمة عند الاحتضار فقال: قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء ويقول: تاتنا تنتنا، حتى قضى.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فقال: ما ينفعني ما تقول، ولم أدع معصية إلا ركبتها. ثم قضى ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك فقال: وما يغني عني، وما أعرف أني صليت لله صلاة. ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك فقال: هو كافر بما تقول، وقضى وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه " لا إله إلا الله " وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، وهذا مشتر جيد، هذا كذا، حتى قضى ! (الجواب الكافي).
وسوء الخاتمة أخطر العقوبات المعجلة على الإطلاق؛ لأنها عقوبة تقتضي الخذلان في الدنيا والآخرة ! فهي غبن في الدنيا؛ لأن المعاقب بها كشف ستره ومخبوءه، وظهر عليه علامة سوء عمله، ولربما كان مستورًا في أحواله، وهي أيضًا غبن في الآخرة؛ لأن العبد يُبعث على ما مات عليه !
وفي حديث أبي هريرة الطويل عند ابن ماجه مرفوعًا: يقال للرجل الصالح في قبره بعد أن يُعرج بروحه إلى السماء ويسأل: «انظر إلى ما وقاك الله تعالى منه، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر في زهرتها، وما فيها، فيقال: هذا مقعدك، ويقال له، على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله» أما الرجل السوء فيقال له: «انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة إلى النار، فينظر إليه يحطم بعضها بعضاً، فيقال: هذا مقعدُك؛ على الشَّكِّ كنت، وعليه متَّ، وعليه تبعث إن شاء الله» (جزء من حديث طويل عند ابن ماجه وهو في صحيح الجامع ).
فيا هذا سترحل عن قريب إلى قوم كلامهم السكوت
وكما أن سوء الخاتمة هي عقوبة معجَّلة لمن ضيَّع أمر الله جل وعلا وغفل عنه وسها، فإن حسنَ الخاتمة بشارة معجَّلة لمن أطاع الله - جل وعلا، واتَّبَعَ سبيلَ الحقِّ والهدى.
ومن أخبارها ما رواه المغيرة بن حكيم، قال: حدثيني يا فاطمة بنت عبد الملك. قالت: كنتُ أسمع عمرَ بن عبد العزيز يقول في مرضه الذي مات فيه: «اللهم أخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار» فلما كان اليوم الذي قبض فيه خرجت فجلست في بيت آخر بيني وبينه باب، وهو في قبة له، فسمعته يقول: " تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " ثم هدأ، فجعلت لا أسمع له حسًّا ولا كلامًا، فقلت للوصيف الذي يخدمه: انظر أمير المؤمنين، فلما دخل عليه صاح فوثبتُ فدخلت عليه فإذا هو ميت، وقد استقبل القبلة، وأغمض نفسه، ووضع إحدى يديه على عينيه، والأخرى على فيه رضي الله عنه» (الحدائق لابن الجوزي).
مختارات