" الربا - المسألة – الدَّين بنية التَّلف "
" الربا - المسألة – الدَّين بنية التَّلف "
من الذنوب التي يُعَجِّل الله - جل وعلا - عقوباتها في الدنيا: الربا وسؤال الناس للاستكثار، وأخذ الدَّين بنية إتلافه لا بنية الوفاء !
وهذه المعاصي جميعها من أبواب الفقر وأسبابه؛ فهي كلُّها تؤول بصاحبها إلى القلة والفاقة ولوازمها من الذُّلِّ والمسكنة والضَّيَاع؛ وذلك لأن العقوبةَ من جنس العمل؛ فكما أنَّ آكلَ الرِّبا إنما أعمل الربا في بيعه وتجارته ليستكثر من المال، فكذلك جزاه اللهُ بالقلَّة والفقر! وكما أن الذي يسأل الناس أموالهم وقد أغناه الله ليستكثر من المال، فكذلك جزاه الله بأن فتح عليه بابًا من أبواب الفقر، وأحوجه بعدما أغناه ! وكما أن من أخذ الدَّيْنَ ليتلفه إنما أخذه احتيالاً على صاحبه، فكذلك جزاه الله من جنس فعله فأتلفه وأتلف ماله، وشواهد ذلك في الكتاب والسنة، ومنها:
1- الرِّبا: فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحدٌ أَكْثَرَ من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع).
ففي هذا الحديث دليلٌ واضح على أنَّ المكثرَ من الرِّبا يؤول أمرُه إلى القلة؛ وهي الجزاء النقيض لما كان يطمح إليه من الزيادة والاستكثار بالطرق التي لم يشرعها الله، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ظهر الزِّنا والرِّبا في قرية، فقد أَحَلُّوا بأنفسهم عذابَ الله» (رواه الحاكم والطبراني في الكبير، وهو في صحيح الجامع).
وقال الله - جل وعلا: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ " [البقرة: 278، 279].
يقول الإمام ابن قيِّم الجوزيَّة: «في ضمن هذا الوعيد: أنَّ المرابي محاربٌ لله ولرسوله، قد آذنه الله بحربه، ولم يجيء هذا الوعيد من كبيرة سوى الربا، وقطع الطريق على الناس: هذا بقهره لهم، وتسلطه عليهم، وهذا بامتناعه في تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها، فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله، وآذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله» (التفسير القيم) وكيف لا يكون الربا إثمًا معجِّل العقوبة وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعامل به؛ فعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن اللهُ آكلَ الرِّبا، وموكلَه، وشاهديه، وكاتبه، هم فيه سواء» (مختصر مسلم صحيح الجامع).
المسألة: وهي أيضًا من الذنوب التي يورث الله بها القلة في المال والشين، والعلامة في الوجه؛ ودليل ذلك ما رواه عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث والذي نفس محمد بيده، إن كنت لحالفًا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا رفعه الله بها، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» (رواه الإمام أحمد).
يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى: «والمسألة في الأصل حرام؛ وإنما أبيحت للحاجة والضرورة؛ لأنها ظلمٌ في حقِّ الربوبية وظلم في حق المسؤول وظلم في حق السائل».
أما الأول: فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله لغير الله؛ وذلك نوع عبودية؛ فوضع المسألة في غير موضعها، وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله، واستغنى بسؤال الناس عن مسألة الرب؛ وذلك كله يهضم من حق التوحيد، ويطفئ نوره ويضعف قوته.
وأما ظلمه للمسؤول: فلأنه سأله ما ليس عنده، فأوجب له بسؤاله عليه حقًّا لم يكن له عليه، وعرَّضَه لمشقَّة البذل، أو لوم المنع؛ فإن أعطاه أعطاه على كراهة، وإن منعه منعه على استحياء وإغماض.
أما ظلمه لنفسه: فإنه أراق ماء وجهه، وذل لغير خالقه، وأنزل نفسه أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرف نفسه، وعزة تعفُّفه، وراحة قناعته بما قسم له استغناءه عن الناس بسوء الهم؛ وهذا عين ظلمه لنفسه (مدارج السالكين).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر» (رواه مسلم).
الدين بنية التَّلف: وجزاؤه المعجَّل في الدنيا هو التَّلف؛ فمن أخذ أموال الناس يريد إتلافها جزاه الله بأن أتلف نفسه، وأفقده رشده، وجلب عليه الشرور والمضار؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» (رواه البخاري) فكيف يطلب عاقل الكثرة بما سيؤول به إلى النَّقص والفاقة والتلف !
قال أبو حازم: «إن كان يُغنيك ما يكفيك فأدنى عيشك يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شيء يغنيك».
مختارات