" افتراق الأمة وبيان الفرقة الناجية "
" افتراق الأمة وبيان الفرقة الناجية "
كان الناسُ أمة واحدة، ودينهم قائمًا في خلافة أبي بكر وعمر، فلما استشهد قُفْلُ باب الفتنة عمرُ رضى الله عنه وانكسر الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذُبح صبرًا، وتفرقت الكلمةُ، وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين، فظهرت الخوارج وكفَّرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب، وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمجسِّمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنُّة وأهلها إلى بعد المئتين، فظهر المأمون الخليفةُ وكان ذكيًا متكلمًا، له نظر في المعقول، فاستجلب كتب الأوائل، وعرَّب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخبَّ ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها، بل والشبعة، فإنه كان كذلك، آل به الحالُ إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء، فلم يُمهل، وهلك لعامه، وخلَّى بعده شرًا وبلاءً في الدين؛ فإن الأمة ما زالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك (سير أعلام النبلاء).
وعن أبي غالب قال: كنت بدمشق زمن عبد الملك بن مروان فجيء برؤوس الخوارج فنُصبت على أعواد، فجئت لأنظر فيها، فإذا أبو أمامة عندها، فنظرتُ إليها، ثم قال: كلاب النَّار – ثلاث مرات – شر قتلى تحت أديم السماء، ومن قتلوه خير قتلى تحت أديم السماء – قالها ثلاث مرات – ثم استبكى، فقلت: يا أبا أمامة، ما الذي يبكيك؟ قال: كانوا على ديننا، فَذَكر ما هم صائرون إليه، فقلت له: شيء تقوله برأيك أم شيء سمعْته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إني إذًا لجريء – ثلاث مرات – لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة، أو مرتين، أو ثلاثًا، إلى السبع لما حدثتكموه، أما تقرأ هذه الآية في آل عمران " يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ " إلى آخر الآية، ثم قال: «اختلفت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، سبعون في النار، وفرقة في الجنة، واختلفت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، واحدة وسبعين في النار، وفرقة في الجنة» فقال: «تختلف هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة» قال: انعتهم لنا قال: «السواد الأعظم» حسن [رواه اللالكائي (151، 152)].
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقنَّ أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار» قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: «الجماعة» حسن [رواه ابن ماجه: (3992)].
وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل، حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار، إلا ملَّة واحدة» قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي» حسن [رواه الترمذي: (2641)].
والوعيد بالنار لتلك الفرق لا يقتضي الخلود فيها، ومن ثم لا يحكم على جملتهم بالكفر، وإن كان من أقوالهم ما يكون كفرًا؛ فليس يلزم من كون الفعل كفرًا أن يكون فاعله كافرًا، لعدم توفر الشروط وانتفاء الموانع، وفي هذا يقول شيخ الإسلام (7/217): «لكن المقصود هنا أنه لا يُجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه، ولا ببدعةٍ ابتدعها – ولو دعا الناس إليها – كافرًا في الباطن، إلا إذا كان منافقًا، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة، وقتالاً للأمة، وتكفيرًا لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم، لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين، كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع، وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة؛ من كان منهم منافقًا فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقًا بل كان مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرًا في الباطن، وإن أخطأ في التأويل كائنًا ما كان خطؤه، وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرًا ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنُّة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة؛ فليس فيهم من كفَّر كلَّ واحد من الثنتين وسبعين فرقة» اهـ.
وقد بينَّ الحديث أن الفرقة الناجية هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي السَّواد الأعظم – في رواية ثانية – المجتمعون على إمام يحكم بالكتاب والسنُّة، وهي الجماعة – في رواية ثالثة أخرى – والمراد بها جماعة المسلمين المجتمعين على إمام يحكم بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن ثم فليس بين روايات هذا الحديث اختلاف، فروايات الحديث يفسر بعضها بعضًا، والحمد لله رب العالمين.
وروي عن الإمام أحمد أنه ذكر حديث الافتراق، وقال: «إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم»(شرف أصحاب الحديث).
قال القاضي عياض: «إنما أراد أحمد أهل السنُّة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث»(صحيح مسلم بشرح النووي).
وقول أحمد على هذا التفسير يلتقي مع ما سبق بيانه؛ فالحق أن أهل الحديث هم أعلم الناس بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فهذا أحدهم يقول: «بيني وبين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ستر أرفعه وأنظر إليهم» (شرف أصحاب الحديث: (69) والقائل: الأعمش).
قال أبو المظفر الإسفراييني: «وليس في فرق الأمة أكثر متابعة لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثر تبعًا لسنته من هؤلاء، ولهذا سمُّوا أصحاب الحديث، وسموا بأهل السنُّة والجماعة»(التبصير في الدين).
فعلى مريد النجاة أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم الذين هم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام لزم أهل العلم والسنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث، فإن لم يجدهم اعتزل سائر الفرق الهالكة، ولو كان الاعتزال بالعض فلا يعدل عنه، وهذا ما يدل عليه حديث حذيفة: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ اسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشرٍّ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرٌّ: قال: «نعم» فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دَخَنٌ» قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنُّون بغير سنَّتي، ويهدون بغير هدْيي، تعرف منهم وتنكر» فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنَّم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» فقلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا، قال: «نعم. قوم من جِلْدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزمُ جماعة المسلمين وإمامهم» فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك» [أخرجه البخاري (7084)، ومسلم: (1847)].
مختارات