" الستون عند العلماء وأهل الفضل "
" الستون عند العلماء وأهل الفضل "
تكلم الأخيار عن سن الستين، ووعظوا وذكروا، وخصوها – قولاً وعملاً – بما ينبغي لها، فمما يذكر عن عيسى بن مريم – عليهما السلام – أنه مر بمشيخة فقال: معاشر الشيوخ أما علمتم أن الزرع إذا أبيض ويبس واشتد فقد دنا حصاده؟ قالوا: بلى، قال: فاستعدوا فقد دنا حصادكم (حلية الأولياء).
ولقد ذكر عن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – أنه قال في مرض موته: إن مرض عضو مني فما أحصى صحتي، وما عوفيت منه أطول، أنا اليوم ابن ستين سنة، فرحم الله عبداً دعا لي بالعافية (حلية الأولياء).
وهذا (توبة بن الصمة وكان بالرقة، وكان محاسبا ًلنفسه فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال: يا ويلتي، ألقي المليك بواحد وعشرين ألف وخمسمائة ذنب، كيف وفي كل يوم ذنب؟! ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لك ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى.
فهكذا ينبغي للمرء أن يحاسب نفسه على الأنفاس وعلى معصية بالقلب والجوارح في كل ساعة، ولو رمى العبد بكل معصية حجرًا في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي والملكان يحفظان عليه ذلك " أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ " (إحياء علوم الدين، صفة الصفوة ).
قال إسماعيل بن عبيد الله: قال لي عمر بن عبد العزيز: يا إسماعيل كم أتت عليك من سنة؟ قلت: ستون سنة وشهور، قال: يا إسماعيل إياك والمزاح (حلية الأولياء).
قال الشاعر: والشيبُ يقطعُ من ذي اللهو شهوتَه ويُذْهب المزْحَ ممَّن كان مزَّاحاً
ألا وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان يمازح أصحابه، ولعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله يرمي إلى أن من بلغ هذه السن فعليه أن لا يستكثر من المزاح، بحيث يكون غالباً عليه، بل الأكمل له في هذا السن المتقدم الوقار والحلم، وغلبةُ الجد والخشوع وكثرة الذكر والاستغفار.
وصدق الشاعر:ألا إن سفاه الشيخ لا حلم بعده
وهذا المسيب بن نجبة بعد مقتل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يتقدم بعض أصحابه بالكلام فيقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم: أما بعد، فإنا قد ابتلينا بطول العمر والتعرض لأنواع الفتن، فنرغب إلى ربنا ألا يجعلنا ممن يقول له غداً " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ " فإن أمير المؤمنين–رضي الله عنه – قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة (تاريخ الطبري).
أما أبو الشعثاء جابر بن زيد الذي قال عنه قتادة: بأنه أعلم أهل الأرض في زمانه، فإنه أتى أصحابه ذات يوم في مصلاهم وعليه نعلان خلقان فقال: مضى من عمري ستون سنة، نعلاي هاتان أحب إلي مما مضى منه إلا أن يكون خيراً قدمته (البداية والنهاية، حلية الأولياء ).
وعن الهيثم بن عدي قال: سمعت خويل بن محمد الأزدي وكان عباداً يقول: كأن خويلاً قد وقف للحساب فقيل له: يا خويل قد عمرناك ستين سنة فما صنعت فيها؟ فجمع نوم الليل مع قائلة النهار فإذا قطعة من عمري نوم، وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في الأكل، وجمعت ساعات وضوئي فإذا قطعة من عمري ذهبت فيه، ثم نظرت في صلاتي فإذا صلاة منقوصة وصوم مخرق، فما هو إلا عفو الله أو الهلكة (صفة الصفوة ).
يقول القرطبي رحمه الله: إن الله تعالى خلق العبد حيا عالماً وبذلك كماله، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة إذا الكمال للأول الخالق سبحانه، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل، ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية، عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم (تفسير القرطبي).
يروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: إن الله يحب ابن عشرين إذا كان شبه ابن الثمانين، ويبغض ابن الستين إذا كان شبه ابن عشرين (الفردوس بمأثور الخطاب).
قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتى عليك ؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال له الفضيل: أتعرف تفسيره؟ قال الرجل: فسره لنا يا أبا علي، قال: فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي ؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقى أُخِذت بما مضى وما بقي (حلية الأولياء).
مختارات