الصفة السادسة من صفات المؤمنين رعاية الأمانة
إن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين للفردوس: أنهم راعون لأمانتهم، قال الله -تعالى-: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ثم قال: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
وقال -تعالى- في سورة سأل: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ثم قال:أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ
وما تضمنه هاتان الآيتان الكريمتان من حفظ الأمانات والعهود جاء مبينًا في آيات كثيرة كقوله -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.
وكقوله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وقوله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
وقوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ.
ولقد مدح الله الذين هم راعون لأماناتهم، والراعي هو القائم على الشيء بحفظ وإصلاح، وفي الحديث: كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.
والأمانة تشمل كل ما استودعك الله أمره وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ جوارحك عن كل ما لا يرضي الله.
وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الناس، والأمانات تعم أيضًا جميع الواجبات على الإنسان سواء كان واجبًا عليه ابتداء، وهو ما يتساوى فيه الناس من حقوق الله -تعالى- على عباده كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، أو كان واجبًا لسبب من الأسباب من حقوق الله -تعالى- كالكفارات والنذور.
وتشمل الأمانات أيضا: حقوق العباد بعضهم لبعض، وهذا لا يتساوى فيه الناس، بل إنما يجب لسبب من الأسباب كالديون والودائع والعواري، ويدخل في ذلك الولايات كالإمامة والإمارة والوزارة والرئاسة والإدارة ورعاية الأسرة والوظائف وتأدية الودائع إلى أصحابها، وغير ذلك مما يؤتمن عليه الإنسان من غير اطلاع بيّنه على ذلك، كل ذلك داخل في الأمانة التي أمرنا الله عز وجل بأدائها في قوله -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.
وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك.
وفي سماع الحسن من سمرة كلام لأهل العلم، وبهذا يتبين أن الأمانة عامة تشمل جميع الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد، وأنها ليست خاصة بالودائع كما قد يتوهمه بعض الناس، وإنما الودائع من الأمانات التي وجبت بسبب من الأسباب لا بأصل الشرع.
والفرائض التي وجبت بأصل الشرع أمانة عامة على كل شخص في الجملة. وهذه هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملها وأشفقن منها، كما قال -تعالى-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ.
وهذا العرض للأمانة على السماوات والأرض والجبال عرض تخيير لا إلزام، ولو ألزمهن الله -عز وجل- لم يمتنعن من حملها؛ إذ الجمادات كلها خاضعة لله -عز وجل- مطيعة له، مسبّحة له، ساجدة له، كما قال -تعالى-: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ.
وقال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
وقال في الحجارة: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ الآية.
ولا تنافي بين تفسيرنا للأمانة بالتكليف، وبين ما روي عن بعض السلف في تفسير الأمانة ببعض الواجبات كما روي عن بعضهم أنه قال: الأمانة الغسل من الجنابة.
وقال بعضهم: الأمانة ثلاثة: الصلاة والصوم، والاغتسال من الجنابة، وقال بعضهم: الأمانة هي الفرائض، وقال آخرون: هي الطاعة، وقال بعضهم: الأمانة: الدين والفرائض والحدود.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: الأمانة أداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين، والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله الودائع.
وقال مجاهد الأمانة: الفرائض وحدود الدين.
وقال أبو العالية ما أمروا به ونهوا عنه.
وقال زيد بن أسلم هو الصوم، والغسل من الجنابة، وما يخفى من الشرائع.
وقال بعضهم: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهود.
وهذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أُثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه إلا من وفقه الله.
فالأمانة تعم جميع وظائف الدين، فتتناول الصلاة والزكاة وسائر العبادات، وهي عامة في جميع الناس، فتتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال وردّ الظلامات، والعدل في الحكومات، وتتناول مَن دونهم من الناس في حفظ الودائع، والتحرز في الشهادات، والحكم في نازلة من النوازل، وغير ذلك.
ويدخل في ذلك حفظ الجوارح عن المحرمات، فالأُذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، والفرج أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، والعلم أمانة، والعقل أمانة، والولد أمانة، والولاة مؤتمنون ومسئولون، فولي الأمر ورئيس الدولة مؤتمن ومسئول، والأمير مؤتمن ومسئول، والوزير مؤتمن ومسئول، والموظف مؤتمن ومسئول، والمدرس مؤتمن ومسئول، والطالب مؤتمن ومسئول، والرجل في بيته مؤتمن ومسئول، والمرأة في بيت زوجها مؤتمنة ومسئولة، والخادم في مال سيده مؤتمن ومسئول، كما في الحديث الصحيح: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.
ومن عنده وديعة فهو مأمور بحفظها وردها إلى أهلها، وكل واحد مأمور بأداء الأمانة، قال الله -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.
وقال ابن عباس لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة، وفي الحديث: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك.
ومن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لتؤدنّ الحقوق إلى أهلها حتى يقتصّ للشاة الجمّاء من القرناء.
وعن عبد الله بن مسعود قال: إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة يؤتى بالرجل يوم القيامة، وإن كان قد قتل في سبيل الله، فيقال: أدّ أمانتك، فيقول: فأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا؟ فتُمثّل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقه، قال: فتنزل عن عاتقه، فيهوي على أثرها أبد الآبدين ".
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وأعطى الزكاة من ماله طيّب النفس بها - وكان يقول - وأيم الله، لا يفعل ذلك إلا مؤمن، وأدّى الأمانة، قالوا: يا أبا الدرداء وما أداء الأمانة؟ قال -رضي الله عنه-: الغسل من الجنابة، فإن الله -تعالى- لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره.
وقد ورد أن الأمانة ترفع حتى لا يكاد يوجد أحد يؤدي الأمانة، ففي الصحيحين، عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثين قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة.
ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك تراه منتبرا، وليس فيه شيء، قال: ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله - قال: فيصيح الناس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن من بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل: ما أجلده وأظرفه وأعقله، وما في قلبه حبة خردل من إيمان، ولقد أتى عليّ زمان، وما أُبالي أبكم بايعت إن كان مسلمًا ليردنّه عليّ دينه، وإن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنّه عليّ ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا.
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها- أو قال - يكفر كل شيء إلا الأمانة: يؤتى بصاحب الأمانة، فيقال له: أدّ أمانتك، فيقول: أنّى يا رب، وقد ذهبت الدنيا، فيقال له: أدّ أمانتك، فيقول: أنّى يا رب، وقد ذهبت الدنيا، فيقول: اذهبوا به إلى أمّه الهاوية، فيذهب به إلى الهاوية، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها، فيجدها هنالك كهيئتها فيحملها فيضعها على عاتقه، فيصعد بها إلى شفير جهنم، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلّت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين.
قال: والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الوضوء، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع.
وقد بيّن الله -تعالى- في كتابه أنه إنما حمَّل بني آدم الأمانة، وهي التكاليف ليعذب المنافقين منهم والمنافقات وهم الذين يظهرون الإيمان خوفًا من أهله، ويبطنون الكفر متابعة لأهله، وليعذب المشركين والمشركات وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله، وليرحم المؤمنين يمن الخلق الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته، فقال -تعالى-: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
ومن الأمانة: حفظ الجوارح عما حرم الله -تعالى- فمثلًا الأذن أمانة يجب عليك أن تسمع بها ما ينفعك، وما أمرك الله به كالقرآن الكريم والأحاديث النبوية، وما فيه صلاح للإسلام والمسلمين والمباحات الدنيوية، ولا يجوز أن تسمع بها ما يضر بدنك من اللغو والسب والغيبة والنميمة، وما فيه إفساد ذات البين.
وكذلك العين أمانة فيجب عليك -أيها المسلم- أن تبصر بها ما أباحه الله لك، وما فيه نفع لك في العاجل والآجل. ويحرم عليك أن تنظر بها إلى النساء الأجنبيات والمصورات الخليعات، وما حرم الله النظر إليه.
وكذلك اللسان أمانة، فالواجب استعماله في قراءة القرآن والأحاديث الشريفة، وقراءة الكتب النافعة والدراسة والتدريس، وما أوجبه الله من الأذكار والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، وحمد الله وشكره، والإصلاح بين الناس، والوعظ والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستعماله في المباحات كالتحدث مع الأهل والضيف والجار والقريب والوالد، والبيع والشراء، وقد يكون ذلك واجبًا.
ويحرم استعمال اللسان في الغيبة والنميمة والسب والشتم، والسخرية بالمسلمين وإفساد ذات البين، والوقوع في أعراض المسلمين وعيبهم وتنقصّهم وازدرائهم واحتقارهم، فمن فعل ذلك فقد خان أمانة اللسان، والله -عز وجل- نهى عن الخيانة في قوله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وفي الحديث: إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب.
وجماع الخير في كف اللسان وصونه كما في حديث معاذ في اللسان: وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخيرهم، إلا حصائد ألسنتهم.
وفي الحديث: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان أخرجه مسلم في صحيحه.
وقال -تعالى-: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا.
وكذلك البطن أمانة فيجب أن لا يدخل فيه إلا ما أباحه الله، فمن أدخل في بطنه شيئًا مما حرم الله عليه، فقد خان أمانة البطن، وقد كان السلف الصالح يحافظون على أمانة البطن، ويتورعون من أكل المتشابه والحرام.
فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- كان له غلام، فإذا أتى إليه بطعام سأله عنه قبل أن يأكله، وذات يوم أتى إليه بطعام فأكل منه لقمة أو لقمتين قبل أن يسأله، نسي من شدة حاجته إلى الطعام، ثم سأله عنه فقال: كنت تكهنت لرجل في الجاهلية، ما أحسن الكهانة، فأعطاني إلا إني خدعته، فأعطاني أجره لذلك الطعام، فأدخل أبو بكر إصبعه في حلقه فقاء ما في بطنه، وقال: كدت والله أن تهلكني، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: كل جسد نبت على السحت فالنار أولى به.
وفي الحديث: أن أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع منكم ألا يدخل في بطنه إلا طيبا فليفعل.
وخيانة الأمانة في البطن لها آثار سيئة، ومن آثارها: عدم قبول الدعاء، كما في قصة الرجل الذي يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك، لما قال سعد يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مجاب الدعوة قال: يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة.
ومن آثارها: عدم قبول الأعمال، كما في حديث: من خرج حاجًا بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرز، ونادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور.
وكذلك اليد فهي أمانة فيجب أداء الأمانة فيها، وذلك باستعمالها في طاعة الله، والبطش بها فيما أذن الله فيه، والتناول بها لما أباحه الله، فمن استعمل يده في المحرمات، وتناول بها، وبطش بها متجاوزًا ما حده الله ورسوله، فقد خان أمانة اليد.
وكذلك الرجل أمانة، وأداء الأمانة فيها استعمالها في المأذون فيه كالمشي بها إلى الصلوات ومجالس الذكر والعلم والتعليم، وما أباحه الله كالبيع والشراء، أو حثّ الشرع عليه كصلة الأرحام والأقارب والجيران، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن استعمل رجله في المحرمات بأن مشى بها إلى مواطن الرّيب فقد خان أمانة الرجل، وسوف تشهد عليه هذه الجوارح يوم القيامة بما عمل.
قال الله -تعالى-: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
وفي الحديث: أتدرون من المفلس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: المفلس من أمتي من يأتي بصلاة وزكاة وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار.
وكذلك الفرج أمانة، وأداء الأمانة فيه استعمال هذه الجارحة فيما أباحه الشرع من الزواج والتسري، فمن تجاوز ذلك إلى الزنا، أو اللواط، أو استعمال العادة السرية، فقد خان أمانة الفرج، وهو من المعتدين كما قال -تعالى-: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ.
وكذلك العلم أمانة، وأداء الأمانة فيه العمل به، ودعوة الناس إليه، والصبر على الأذى الذي يحصل بسبب الدعوة إليه، فمن فعل ذلك فقد أدّى الأمانة في علمه، وكان من الرابحين، ومن لم يعمل بعلمه ولم يدع الناس إليه ويصبر على أذاهم فيه، فقد خان الأمانة في علمه، وكان من الخاسرين، كما بين الله ذلك في كتابه في سورة كريمة من قصار السور فقال سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.
بين الله -تعالى- في هذه السورة الكريمة أن كل إنسان خاسر إلا من علم وعمل ودعا وصبر، فالعلم في قوله -تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا والعمل في قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ والدعوة إليه في قوله: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ والصبر على الأذى في قوله: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.
ولذلك يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم، فالواجب على العالم أن يتقي الله ويؤدي الأمانة في علمه، وذلك بالعمل به وتعليم الناس ودعوتهم وإرشادهم والصبر على أذاهم والتحمل لذلك، ومن لم يعمل بعلمه ولم يُرشد ويُعلّم ويدع إليه ويصبر على ذلك فقد خان أمانة الله في علمه وتشبّه، باليهود -عليهم لعنة الله- حيث لم يعملوا بعلمهم، وقد أمر الله في كل ركعة من ركعات الصلاة أن نسأل الله أن يجنبنا طريقهم: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
ومن الأمانة التي تجب رعايتها: الولد، فإذا رزقك الله ولدًا ذكرًا، أو أنثى فيجب عليك رعاية هذه الأمانة، وذلك بشكر الله المنعم، وتربية الأولاد تربية إسلامية صحيحة، وذلك بتعليمهم القرآن الكريم، والفقه الشرعي، والعقائد الصحيحة السليمة، وغرس الأخلاق الفاضلة في نفوسهم لحديث: ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن.
وكذا تمرينهم وتدريبهم على فعل الخير، واصطحابهم إلى المساجد ومجالس الذكر، والأخذ بأيديهم عن المزالق الرديئة في معتقداتهم وأخلاقهم وعاداتهم وتصوراتهم وأفكارهم وتأديبهم، ووعظهم عند ارتكاب شيء من ذلك، وإبعادهم عن جلساء السوء كما في حديث: مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه رائحة طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة.
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تأديبهم فقال: مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع.
وكذلك الأهل أمانة وأداء الأمانة في ذلك تعليم الأهل، وتربيتهم ورعايتهم، والقيام بحقوقهم، والأخذ بأيديهم عما يضرهم، وذلك بأن يعلم الرجل زوجته وابنته، أو أخته، أو من تحت يده أحكام الطهارة والحيض والنفاس، وأحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج، ويعوّدهم على الأخلاق الفاضلة، ويمنعهم من السقوط في مهاوي الرذيلة كالخروج في الشوارع والتجول فيها بدون تحجّب واحتشام للنساء، فمن فعل ذلك، فقد أدى الأمانة، وامتثل أمر الله في قوله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ وقوله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا.
ومن أرخى لزوجته أو أخته أو بنته العنان، وترك لها الحبل على الغارب فتركا تخرج متى شاءت على أي هيئة شاءت، وترتدي أيّ لبسة شاءت، وتبرز إلى الشوارع في أيّ زي شاءت سواء وافقت تعاليم الإسلام أو خالفته، من فعل ذلك فقد خان الأمانة، وسوف يوقف بين يدي الله، ويسأل عن خيانته وغدره، وينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان.
وكذلك العقل أمانة وأداء الأمانة فيه استعماله في طاعة الله ورسوله بالتفكير في العلوم النافعة، وفيما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين من إرشاد الجاهل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبعد عن الإضرار بالمسلمين والإساءة إليهم وتدبير الحيل، والمكائد ضد المسلمين فمن فعل ذلك فقد أدى أمانة عقله، ومن استعمل عقله في المكر والخديعة، والإضرار بالمسلمين والإساءة إليهم في الخفاء أو في الظاهر، من فعل ذلك فقد خان أمانة العقل، ويخشى عليه أن يكون في عداد المنافقين الذين ظاهرهم مع المؤمنين وباطنهم مع الكفار والمشركين ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب ذئاب.
ومن الأمانة التي تجب رعايتها: ما ائتمن الله عليه بعض عباده من ولاية، أو إمارة، أو وزارة، أو تدريس، أو دراسة، أو وديعة، أو خدمة في مال، أو رعاية من امرأة لأطفال، كل ذلك من الأمانة التي تجب رعايتها، وأداؤها لأهلها، كما أمر الله -عز وجل- بذلك.
فإمام المسلمين وولي الأمر العام يجب عليه أن ينصح لرعيته بإيصال حقوقهم إليهم، والحكم بينهم بكتاب الله وسنة رسوله، ونشر العدل والأمن والرخاء بينهم، والضرب على أيدي العابثين والمفسدين والسفهاء بيد من حديد، وحجز الظالم ومنعه من الظلم، ونصر المظلوم والانتصاف له ممن ظلمه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ويجب على الرعية مقابل ذلك الموالاة له، والسمع والطاعة، وعدم شقِّ عصا الطاعة وعدم الخروج عليه، والنصح له، والتعاون معه على البر والتقوى، والدعاء له بالتوفيق والهداية والصلاح والنصر والتأييد، وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " وذكر منهم إمام عادل ".
وفي الحديث: ما من والٍ يلي رعيته فيموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة أخرجه مسلم
والقاضي يجب عليه أن يعدل بين الخصوم في لحظه ولفظه ومجلسه، ودخولهما عليه، وأن يحكم بما علم أنه الحق بعد معرفته أو يحكم على جهل، فإن فعل ذلك فقد خان الأمانة، وهو في النار، كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضي في الجنة؛ فقاضي عرف الحق واتبعه فهو في الجنة، وقاضي عرف الحق وعدل عنه فهو في النار، وقاضي حكم على جهل فهو في النار أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
وفي الحديث: لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل أتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها.
والأمير يجب عليه أن يقوم بإمارته، وينصح لمن ولاه الله ويعدل بينهم، وينتصر للمظلوم، ويأخذ على أيدي السفهاء، فإن فعل ذلك فقد أدى الأمانة.
والوزير يجب عليه أن يقوم بأعمال وزارته في حدود المسئولية الملقاة على عاتقه بأمانة، ونصح وصدق وإخلاص.
والموظف يجب عليه أن يؤدي عمله بإتقان وإخلاص، وأن يحافظ على وقت الدوام، وأن لا ينقص من أوله ولا من آخره، وأن لا يترك المراجعين على أحرّ من الجمر لتأخّره، أو لإهماله وعدم مبالاته، فإن هذا من الأمانة التي يجب رعايتها.
والمدرس يجب عليه أن يخلص في تدريسه، وأن ينصح لطلبته، وأن يوجّههم ويربيهم التربية الإسلامية، وأن لا يلقي الدروس جافة، خالية من التوجيه والإرشاد.
وأن يكون قدوة لطلبته، فإن هذا من الأمانة.
والطالب يجب عليه أن يجتهد في دروسه، وأن ينتبه لما يقلبه المعلم، وأن لا يحاول الغش في الامتحان، وأن يتأدب بآداب طالب العلم من احترامه معلمه وزملائه، فإن هذا من الأمانة، فمن لم يفعل ذلك فقد خان الأمانة.
والمرأة راعية في بيت زوجها، ومؤتمنة على نفسها وعلى أولادها، فيجب عليها أن تحفظ نفسها عن الحرام، وأن تحفظ مال زوجها، وأن ترعى أطفالها، وتربيتهم تربية حسنة، وتجنبهم ما يضرهم، فإن هذا من الأمانة.
والخادم مؤتمن في مال سيده في حفظه وعدم تبذيره، فإن هذا من الأمانة والتفريط فيه من الخيانة، ومن هنا نعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوتي جوامع الكلم حينما قال: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.
مختارات