" الستون لماذا ؟! "
" الستون لماذا؟! "
لقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم الستين بالذكر كما سيأتي، لذلك حق على من قاربها، أو بلغها، أو جاوزها، أن يتأمل في هذه الآثار الواردة فيها.
ولقد فطن سلفنا الصالح إلى أمر الستين فأولوها عناية زائدة خاصة بها، واستقبلوها خير استقبال، فهذا البخاري – رحمه الله - قد تكلم في صحيحه عن الستين عاما فقال: باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله تعالى: " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ " [فاطر: 37]، النذير يعني الشيب، ثم أورد بسنده حديثا عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة».
قال النووي: قال العلماء: معناه لم يترك له عذراً إذ أمهله هذه المدة، يقال: أعذر الرجل إذا بلغ الغاية في العذر (رياض الصالحين ).
قال ابن منظور: وفي الحديث: «لقد أعذر الله إلى من بلغ من العمر ستين سنة» أي: لم يبق فيه موضعا للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدة ولم يعتذر، يقال: أعذر الرجل إذا بلغ أقصى الغاية في العذر، وفي حديث المقداد: لقد أعذر الله إليك، أي: عذرك وجعلك موضع العذر(لسان العرب).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين» وزاد عند ابن ماجة: «وأقل أمتي أبناء السبعين سنة»(حسنه الألباني في صحيح الجامع ).
والمعترك أي: موضع القتال، أو موضع الحرب، أو موضع العراك والمعاركة (لسان العرب )، فكأن هذا السن ميدان حرب يكثر فيها الموت.
وبوب النووي في رياض الصالحين: باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر، قال الله تعالى: " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ "، قال ابن عباس – رضي الله عنهما – والمحققون: معناه أو لم نعمركم ستين سنة (رياض الصالحين ).
قال الصديقي في شرح هذا الباب: (باب الحث) أي الحض، (على الازدياد) افتعال من الزيادة (من الخير) أي الطاعات والبر الموصلة إلى مرضاة الله – عز وجل -، (في أواخر العمر) لأنه أوان الختام، وبحسنه تحصل ثمرات الطاعات وبركات الحسنات.
إلى أن قال: " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ " هو استفهام توبيخ وتقرير، " مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ " ما موصولة، أي: المدة التي يتذكر فيها المتذكر، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة، أي تعميراً أو زمناً يتذكر فيه من تذكر " وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ " (دليل الفالحين ).
وذلك لأن (من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، أي بسط عذره على مواضع التملق به وطلب العذر إليه كما يقال لمن فعل ما نهي عنه ما حملك على هذا؟ فيقول: خدعني فلان وغرني كذا ورجوت كذا وخفت كذا) (فيض القدير للمناوي ).
قال الخطابي: أعذر إليه أي بلغ به أقصى العذر، ومنه قولهم: قد أعذر من أنذر، أقام عذر نفسه في تقديم نذارته، والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر، لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى (تفسير القرطبي ).
(والإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم، كم قال الشاعر:
إذا بلغ الفتى ستين عاماً فقد ذهب المسرة والفتاء
لما كان هذا العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده ويزيح به عنهم العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» رواه الترمذي وابن ماجة (تفسير ابن كثير والحديث صحيح، في صحيح الجامع ).
قال ابن بطال: إنما كانت الستون حدًّا لهذا لأنها قريبة من المعترك، وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار لطفا من الله بعباده، حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية، وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل، وأصرحُ من ذلك ما أخرج الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة – رضي الله عنهم – رفعه: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك».
وقال بعض الحكماء الأسنان أربعة: سن الطفولة، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، وهي آخر الأسنان وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبالُ على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة، وقد استنبط منه بعض الشافعية أن من استكمل ستين فلم يحج مع القدرة فإنه يكون مصراً، ويأثم إن مات قبل أن يحج بخلاف ما دون ذلك (فتح الباري ).
ومن لم يكن في هذه السن على حال يرضاه الله تعالى – وقد دنا أجله ولم يبق إلا القليل – أو على أقل الأحوال يعزم عزما جازماً صادقا على التوبة والإنابة، فبالله متى ستكون هذه التوبة؟!
إن الغالب أن المرء في هذه السن تضعف قواه، وتقل عزيمته، فحق عليه أن يستسلم لمولاه، ويستعتب بين يديه، فإنه الغفور الودود.
قال القرطبي: جعل الستين غاية الإعذار لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله، وترقب المنية ولقاء الله، ففيه إعذار بعد إعذار (القرطبي).
وإذا بلغ ستين سنة وهو عمر التذكر والتوفيق الذي قال الله تعالى فيه: " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ " حببت إليه الإنابة أي الرجوع إليه لكونه مظنة انتهاء العمر غالباً (فيض القدير).
هذا وإن (في بلوغ العمر أربعين سنة استكمال الشباب واستجماع القوة وهو عمر تام ولا يزال بعده في نقصان وإدبار.. فإذا بلغ ستين سنة، وهو عمر التذكر والتوقف، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نودي أبناءُ الستين: " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ " » فإذا عمُر ستين سنة فقد جاء أوان التذكر، لأن الأربعين منتهى استتمام القوة، فإذا جاوز إلى ستين فقد أتى عليه عشرون سنة في النقصان وهو نصف الأربعين الذي هو منتهى القوة فقد افتقد من نفسه نصف القوة فلذلك صار حجة عليه فأوجب له حرمة بأن رزقه الإنابة إليه فيما يحب وهو التذكر، فإنه إذا تذكر رزقه الإنابة إليه في الطاعات، ولم يخذله حتى يصير عمره وبالاً وحجة عليه) (نوادر الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم للحكيم الترمذي ).
وبتصفح سريع لكثير من الإصدارات والمواقع الرسمية وشبه الرسمية، على شبكة الانترنت لأنظمة الخدمة المدنية وبعض المواقع العسكرية للدول العربية وغير العربية، فإن الغالب أن يحال الموظف للتقاعد عن الستين، والمرأة أقل أحياناً، ويمدد للبعض باستثناءات خاصة (انظر نظام التقاعد المدني والمذكرة الإيضاحية ).
مختارات