" فضول الكلام "
" فضول الكلام "
اللسان هو العضلة التي يعبر بها الإنسان عما بداخله، ولذا فهو من أهم الجوارح التي توصل صاحبها إما إلى النجاة وإما إلى الهلكة، وكم من شخص تكلم بكلام أوبق به حياته، وكم من شخص تكلم بكلام كتب له به الرفعة والسؤدد، فاللسان كما قيل حصان، من صانه نجا وسلم، ومن ركب به كل علو سفل وخاب وخسر وهلك، ولذلك فالواجب على المرء ألا يتكلم بكلام هو يعلم حينها أنه لا فائدة منه، وأن الأولى في حقه حينها السكوت، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت...» [متفق عليه].
واللسان مهلكة غالبا، والشخص إذا تكلم بكلام من الصعب عليه أن يرده، وكما قيل فالإنسان يملك الكلمة ما لم يتكلم بها فإذا تكلم بها ملكته.
والإنسان إذا استشعر أن كلامه مُحصى عليه وأنه قد يهلك بسببه، أقلَّ الكلام ولم يستكثر منه، قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
وعن معاذ بن جبل قال: قلت: يا رسول الله، أنؤاخذ بكل ما نتكلم به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ثكلتك أمك يا معاذ بن جبل، وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم» [أحمد، والطبراني في الكبير].
والمرء قد تكتب له السعادة في الدنيا والآخرة بكلمة، وقد يكتب عليه الشقاء أيضا بكلمة والعياذ بالله تعالى، ولنتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوى بها في جهنم» [البخاري].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» [مالك والترمذي وأحمد]، فبكلمة قد تكتب للمرء النجاة والسعادة، وبكلمة قد يكتب على المرء الشقاء والتعاسة.
وآفات اللسان كثيرة لا تُحصى؛ كالكذب، والسب والشتم واللعن والقذف، وقول الزور، والتطاول في أعراض الناس، والاستهزاء بهم، والتقليل من شأنهم، وقول الباطل وإظهاره، وإخفاء الحق وإقصائه، والتحريش بين الناس، والتحريض، ونقل الكلام بينهم للإيقاع بهم، والغيبة بذكرهم بالسوء ورميهم بالنقيصة، والسعي بينهم بالنميمة، والغش والاحتيال والنفاق... والكثير غير ذلك من آفات اللسان.
ومن أقبح صور الكلام المحرم إطلاق العنان للسان للتكلم في أعراض الناس وتتبع عوراتهم وزلاتهم، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تؤذوا عباد الله، ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم؛ فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» [أحمد].
وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» [أبو داود والبيهقي، والطبراني في الكبير]، والتكلم في أعراض الناس دليل على قلة الإيمان وضعف النفس والعقل، وهو نذير شؤم وهلكة؛ لما يتولد عنه من مشاكل وأحقاد في قلوب الناس.
عن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من قد آمن بلسانه ولم يفض الإيمان على قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رَحلِه» [أبو داود والترمذي وأحمد].
ومن صور الكلام المحرم النهي عن المعروف والأمر بالمنكر، والإعانة على الظلم والعدوان، وإيقاع الناس في الفتن، وإذكاء الخصومات، قال صلى الله عليه وسلم: «من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله» [أبو داود والترمذي].
وقال صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال» [أبو داود والحاكم والبيهقي]؛ وردغة الخبال هي عصارة أهل النار.
وعن ابن عباس مرفوعا قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من أعان باطلا ليدحض بباطله حقا فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم » [الحاكم، والطبراني في الكبير].
ومن صور الكلام الحرام نقل الأخبار والتكلم في كل شيء يسمعه المرء وكأنه وكالة أنباء متنقلة، يروج الأخبار ولا يتأكد من مدى صحتها، ومن كان شأنه ذلك فهو ولا شك واقع في الكذب لا محالة؛ لأن ليس كل ما يقال صحيح وصدق، قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» [مسلم].
وأعلم أخي المسلم أن كثرة الكلام تعني كثرة السقطات والأخطاء، فمن كثر كلامه كثرت أخطاؤه وزلاته، والمرء في حقيقة نفسه كثير الأخطاء والخلل والزلل لو كان يعلم ويعقل، والعاقل من حاسب نفسه وكف عن عيوب الناس، والجاهل من أشغل نفسه بعيوب الناس وترك عيوب نفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية» [مالك والترمذي].
ولنتذكر قوله صلى الله عليه وسلم لما سُئل: أي الناس أفضل؟ فقال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد» [ابن ماجة، والطبراني في الكبير].
ولنتذكر دعاءه صلى الله عليه وسلم: «وأن يكون نطقي ذكرا» أي يكون ذكرك يا رب دوما على لساني، فإن نطقت فأنت أول منطقي ولن أتكلم بشيء تكرهه.
مختارات