شرح دعاء " اللهم قني شح نفسي واجعلني من المفلحين"
اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُفْلِحِينَ)([1]).
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾([2]).
المفردات:
الشح: هو البخل مع الحرص، وذلك فيما كان عادة كما قال تعالى([3]): ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾([4]).
الفلاح: الظفر وإدراك البُغْية، وهو ضربان: دنيوي، وأخروي، فالدنيوي: الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا، والأخروي أربعة أشياء...:([5])
أعلاه: الفوز بأعلى الجنات.
تضمن هذا الدعاء الاستعاذة من أشد الخصال المذمومة التي جُبلت عليها أكثر النفوس، وهو الشحّ، وهو البخل مع الحرص، والتعلّق بالمال الذي يمنع من الإنفاق في الواجبات والمستحبات، بل يوصل إلى سفك الدماء، واستحلال المحارم، وإلى الظلم، والفجور، فَيُورِدُ العبدَ ويوصله إلى شر الموارد، والهلكات في الدنيا والآخرة، ولهذا حذَّر المصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا المرض العضال، وبيَّن أنه سبب في هلاك الأمم الغابرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم(...وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ: أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا)([6]).
و في رواية: (...وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)([7]).
فقد جاء عن سفيان الثوري رحمه اللَّه تعالى أنه قال: (كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلاً يقول: (اللَّهم قني شح نفسي) لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: (إني إذا وقيت شُحَّ نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل)، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه. (8)
و قوله: (واجعلني من المفلحين): أي الفائزين في الدنيا، والآخرة، ومن حصل له ذلك، فقد أدرك كل مطلوب، ونُجّي من كل مرهوب. ونختم بكلام جامع للعلامة السعدي – رحمه اللَّه تعالى، قال: (ووقاية شُح النفس لكل ما أمر به العبد، ونهي عنه، فإنه إن كانت نفسه شحيحة، لا تنقاد لما أمرت به، ولا تخرج ما قبلها من النفقات المأمورة بها لم يفلح، بل خسر الدنيا والآخرة، وإن كانت نفسه سمحة مطمئنة منشرحة لشرع اللَّه طالبة لمرضاته؛ فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به، ووصول معرفته إليها، والبصيرة بأنه مُرضي للَّه تعالى، وبذلك تفلح وتنجح، وتفوز كل الفوز)([9]).
وفي ختام هذه الآية من آيات الدعاء نكون قد ختمنا شرح آيات الدعاء في هذا الكتاب الطيب الذي أحسن المؤلف وفقه اللَّه في اختيار أفضل الأدعية القرآنية الجامعة لكل خيرات الدنيا والآخرة.
هذا آخر ما ذكر المؤلف وفّقه اللَّه تعالى من الأدعية القرآنية، ثم بدأ بعد ذلك بالأدعية النبوية.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه اللَّه تعالى جوامع الكلم، كما قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (بُعِثْتُ بِجَوامِعِ الْكَلِمِ)([10])، وقد فسّر ابن مسعود رضى الله عنه بعض معاني ولوازم جوامع الكلم، حيث قال: (عُلِّمَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَجَوَامِعَهُ أَوْ جَوَامِعَ الْخَيْرِ وَفَوَاتِحَهُ).
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فقال لها: (يا عائشة عليك بالجوامع الكوامل)، وفي لفظ: (عليك بجمل الدعاء وجوامعه)([11])، ومعنى جوامع الكلم ما قاله الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه اللَّه: (وبلغني أن جوامع الكلم: أن اللَّه عز وجل يجمع الأمور الكثيرة، التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد، والأمرين، أو نحو ذلك)([12])، (وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام الموجز القليل اللفظ الكثير المعنى)([13]).
فإذا كان الأمر كذلك فينبغي لكل داع أن يعتني بأدعية المصطفى صلى الله عليه وسلم العناية الفائقة، فإن فيها جماع الخير كله وتمامه وشموله، وكل أنواعه، من جليل المقاصد الرفيعة، وأشرف المطالب العالية، من خيري الدنيا والآخرة، وغير ذلك؛ فإن فيها السلامة من الخطأ، والزلل، وذلك أن الدعاء فيه (مناجاة العبد لسيد السادات الذي ليس له مثيل، ولا نظير، ولو تقدم بعض خدم ملوك الدنيا إلى صاحبه، ورئيسه في حاجة لرفعها إليه، أو معونة يطلبها منه، ليتخير له محاسن الكلام، ولتَتَخلَّص إليه بأجود ما يقدر عليه من البيان، ولئن لم يستعمل هذا المذهب في مخاطبته إياه، ولم يسلك هذه الطريقة فيها معه، أوشك أن ينبو سمعه عن كلامه، وألاَّ يحظَى بطائل من حاجته عنده، فما ظنّك برب العزة سبحانه (وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى)، وبمقام عبده الذليل بين يديه، ومن عسى أن يبلغ بجهد بيانه كنه الثناء عليه...)([14]).
قال القاضي عياض رحمه اللَّه: (أذن اللَّه تعالى في دعائه، وعَلَّم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء:
1- العلم بالتوحيد.
2- والعلم باللغة.
والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم (15)
([1]) مقتبس من سورة التغابن، الآية: 16.
([2]) سورة التغابن، الآية: 16.
([3]) مفردات القرآن، ص 446.
([4]) سورة النساء، الآية: 128.
([5]) المفردات، ص 644.
([6]) أخرجه الإمام أحمد، 11/ 26، برقم 6487، والنسائي في الكبرى، 6/ 486، برقم 11519، والحاكم، 1/ 11، والبيهقي في السنن، 10/ 243، وشعب الإيمان له،
13/ 283، والآداب له أيضاً، ص 104، والطيالسي، 4/ 29، والبزار، 2/ 438، والبخاري في الأدب المفرد، ص 171، وابن حبان، 11/ 579، والمعجم الكبير للطبراني، 22/ 204، والأوسط له، 3/ 340، والحميدي، 2/ 490، وعبد بن حميد، 346، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 263، برقم 2217.
([7]) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم 2578.
([8]) تفسير ابن كثير، 4/ 446.
([9]) تفسير ابن سعدي، 7/ 334، 7/ 404.
([10]) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، برقم 2977، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 523، بلفظ: (أُعْطِيتُ).
([11]) أخرجه ابن ماجه، برقم 3846، وأحمد، برقم 25137، وسبق تخريجه في آخر شرح الدعاء رقم 29.
([12]) البخاري، كتاب التعبير، باب المفاتيح في اليد، بعد الحديث رقم 7013.
([13]) فقه الأدعية والأذكار لعبد الرزاق البدر، 2/ 59.
([14]) شأن الدعاء للخطابي، ص 15- 16.
([15]) نقلاً عن الفتوحات الربانية، 1/ 17.
مختارات