" الحديقة الرابعة : حديقــة الرحمــة "
" الحديقة الرابعة: حديقــة الرحمــة "
إنها حديقةٌ يفوح شذاها فُلًّا ووردًا، وتميس أغصانها طربًا لمقدم أصحاب القلوب الرحيمة؛ القلوب التي تَرَبَّت على الخضوع بين يدي الرحيم، فلانت لخلقه، ورأفت بعباده؛ طلبًا لرحمة ربِّهم ورأفته بحالهم.
رحماء؛ هكذا أرادنا الخالق عز وجل؛ من معين التعاطف نتزوج، ومن معين التراحم نستقي، " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا " [الفتح: 29].
هذا نبيُّ الرحمة صلى الله عليه وسلم يناول صبيًّا تقعقع روحه في صدره تريد الخروج من جسده الصغير، فهلَّت دمعات مباركات من عين النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: «هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده؛ وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» [متفق عليه].
لتعلم يا رعاك الله أنَّ الرحمةَ سبيلٌ إلى الجنة أجمل به من سبيل! كيف لا يكون كذلك وقد أدخل الله رجلاً الجنة بسبب رحمة ملأت جوانحه؟! على ماذا؟ لندع الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يروي لنا فصول القصة بأوجز عبارة وأَدَقِّها؛ يقول عليه الصلاة والسلام: «بينا رجلٌ يمشي فاشتدَّ عليه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يَلْهَثُ يأكل الثَّرَى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي. فملأ خُفَّه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر» [متفق عليه] ويا لتعاسة الفَظّ الغليظ؛ الإنسان عنده غير مرحوم ولو ببشاشة يرسمها على مُحَيَّاه؛ فكيف بحيوان أبكم أصم بئست الحال حاله؟! لست أنا ولا أنت قد حكمنا على هذا الجنس من الناس بالشقاوة؛ بل رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم قد حكم عليه بذلك فقال: «لا تنزع الرحمة إلا من شقيٍّ» [رواه أحمد والترمذي وإسناده حسن].
وهل بعد النار – أيها المسلمون – شقاوة؟! هذه امرأة تستوجب النار وبئس القرار؛ حينما انتكست فطرة الرحمة في قلبها المظلم بالجبروت؛ يحدِّثنا عن مصيرها حبيبُنا صلى الله عليه وسلم فيقول: «عُذِّبَت امرأةٌ في هِرَّةٍ سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» [رواه البخاري] هل جربت – يا أخي – كيف ستغمرك الرحمة مرة في زيارة مريض أَرَّقَ الألمُ عينيه، وأسهر الوجع ليله؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة» [أي ثمر مخروف ومجتنى من الجنة] [رواه الترمذي وقال حديث حسن].
أخي الحبيب: مُدّ يد الكفالة ليتيم فَقَدَ حنانَ الأُبُوَّة ورضع بؤس فقدها، ليكون لك في معروفك هذا نصيب من قول الحبيب صلى الله عليه وسلم : «وأنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئًا»[رواه البخاري] كن صدرًا ودودًا على أرملة فرّق الموت بينها وبين حبيبها، فكسر الفراق قلبها، وأثقلت الحاجة إلى الناس كاهلها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار» [رواه البخاري].
اخفض – أيُّها الحبيب – جناح الرحمة لضعيف أضناه الأسى، وفَرَّقَ جمعَه الضَّنَى؛ فإن الله يقول: " فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ " [الضحى: 9، 10].
ظلل بخيام الرَّحمات على زوجتك وبناتك ونسائك؛ فإنهن مهما بلغن في علم ومال يظللن في حاجتك وعطفك، وتذكَّر يا باذِرَ المعروف أن حصادَه مباركٌ وجناه طيبٌ؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار» [رواه مسلم].
وعليك بصلة الأرحام؛ فإنها مُشْتَقَّةٌ من الرحمة، ولسوف تذوق حلاوة ثمرها في الدنيا قبل الآخرة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّه أن يبسط عليه رزقه أو ينسأ في أثره فليصل رحمه» [رواه مسلم].
وتذكر – يا من أغناك الله من فضله – أن خادمَك ما أتى إلا لحاجة ماسَّةٍ أَلَمَّت به، وسوء عيش أرقَّ ذريته؛ فلا تقس عليه، وتجاوز عن أخطائه؛ يقول أنس - رضي الله عنه: «خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي " أفّ " ولا " لم صنعت " ولا " ألا صنعت». [رواه البخاري].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمًا له قط، ولا امرأة له قط، ولا ضرب بيده إلا أن يجاهد في سبيل الله» [رواه أحمد وهو صحيح].
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن خادمي يسيء ويظلم، أفأضربه؟ قال: «تعفو عنه كل يوم سبعين مرة»[رواه أحمد والترمذي وهو صحيح].
فواعجبًا كيف نطلب المطر وقد قصَّرنا كثيرًا في حق ضعفائنا، وقد نسينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» [رواه البخاري].
إن إعانةَ الضعيف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، اتباعه مثوبة، والدوام عليه شرف وكرامة؛ فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخلَّف في المسير، فيزجي الضعيف [أي: يسوقه برفق] ويُردف ويدعو له [رواه أبو داود بإسناد حسن] وما زال في الأمة مجاهدون اشتغلوا بالفقراء والمحتاجين، يحنون على ضعيفهم، ويكسون عاريهم، ويكفلون يتيمهم، ويقومون على أرملتهم.
هذه قصة اشتهرت بين الناس؛ لكنني أجد في ذكرها سلوة، وفي سردها عبرة؛ رجل يرى في منامه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه ويقول له: اذهب إلى فلان بن فلان في مكان كذا، وبَشِّرْه بالجنة. فاستيقظ الرجل، وحاول أن يستذكر شخص هذا الرجل الذي سماه له الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه، فلم يتذكر شخصًا يعرفه بهذا الاسم، فذهب إلى أحد المعبرين للرؤى، فقال له: أخبر صاحب الرؤيا بها، فأخذ يسأل ويسأل، حتى عرف قريته التي يسكنها، فذهب إليها، وسأل عن الرجل، فدلّ عليه، ثم التقاه فقال له: إني عندي لك بشرى، ولكن لا أخبرك بها حتى تخبرني بأعمالك الصالحة، فقال الرجل: ليس عندي ما يزيد على غيري من المسلمين، قال: إذًا لا أخبرك، وألحّ عليه بذلك طلبًا لمعرفة معروفه الذي يصنعه، فقال له: يا هذا، إني أعمل وأنفق على أهلي، ولما توفي جارٌ لي وله زوجة وذرية، صرت أقسم راتبي الشهري بين بيتي وبيت جاري، قال صاحب الرؤيا: هذه التي بلغت بك، اعلم أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي، وإنه يبشرك بالجنة.
مختارات