داء هجر تلاوة القرآن
● قلب الهاجر خراب!
قال رسول الله ﷺ: «إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب» (سنن الترمذي [2913]).
رأى النبي ﷺ ببصيرة قلبه قلوب العباد على حقيقتها، فمنهم البيت الخرب ولو كان جميل الظاهر فاخر الثياب، ومنهم البيت الفاخر العامر ولو كان أسود الوجه خلِق الثياب!
نبينا رأى هاجر القرآن على حقيقته: بيت خرب، ولو كان وسيم الخلقة مُهابا بين الناس، فما شكلك اليوم في عيني نبيك؟! وهو الذي يرى -ببصيرة قلبه- ما لا نراه.
والبيت الخرب هو قلب مريض، ولا يُعالج مرضه إلا بالقرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]
{من} ها هنا لبيان الجنس، لا للتبعيض، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين. فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى.
إنه شفاء للنفوس من الأمراض القلبية كالحسد والطمع والهوى ونزغات الشيطان والانحراف عن طريق الحق.
وشفاء من الوسوسة والقلق والحيرة والاضطراب، لأنه يصل القلب بالله، فيسكن ويطمئن.
وشفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء الجماعات، وتذهب بسلامتها وأمنها وطمأنينتها. فتعيش الجماعة في ظل نظامه الاجتماعي وعدالته الشاملة في سلامة وأمن وطمأنينة. ومن ثم هو رحمة للمؤمنين.
وشفاء من الأدواء والآلام الجسدية التي ورد تعيينها في الأخبار الصحيحة في قراءة آيات معينة للاستشفاء من أدواء موصوفة في (صحيح البخاري) و(جامع الترمذي).
لكن ما الفارق بين الشفاء والرحمة؟
الرحمة أن لا يبتلي الله الإنسان بمرض، إنها الوقاية، أما الشفاء فهو أن يزيل الحق أي مرض أصاب الإنسان. وهذا هو البرء بعد العلاج.
إذن ففي القرآن شفاء ورحمة، أي وقاية وعلاج. والذي يلتزم بمنهج القرآن لا تصيبه الداءات الاجتماعية والنفسية أبداً، والذي تغفل نفسه وتشرد منه يصاب بالداء الاجتماعي والنفسي، فإن عاد إلى منهج القرآن فهو يُشفى من أي داء، فهو طِبّ علاجيّ وطبّ وقائيّ في آنٍ واحد.
● أصغر البيوت بيتك!
قال عبد الله بن مسعود: " إن أصغر البيوت بيت ليس فيه من كتاب الله شيء، فاقرؤوا القرآن فإنّكم تؤجرون عليه، بكلِّ حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول الم، ولكني أقول ألف، ولام، وميم ".
ضيق البيوت ليس بضيق مساحتها بل بضيق صدور سكانها وسوء أخلاقهم، وسعة البيوت بسعة صدور سكانها وحسن أخلاقهم، فهاجر القرآن في ضيق صدر وشدة ليس لها إلا دواء الوحي: القرآن.
● إنما يتزلزل الفؤاد من هجر الكتاب!
قال تعالى: {كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ} [الفرقان من الآية:32]:
فمن لم يحْتَمِ بحصن القرآن تزلزل في الشدائد، ولم يثبت على الحق عند المحن، وأنت على الخيار!
هاجر القرآن يضطرب عند الشدائد، وهل الدنيا غير شدائد يعتريها بعض أوقات رخاء!
أما حامل القرآن فيتمتع بحصانة قوية، ومناعة شديدة ضد أي شدة، فيتحمل ما لا يتحمل غيره، ويصمد لعواصف الأهوال وألوان المُحال.
ومن طبيعة طريق الحق أن يتعرض فيه الفؤاد لهزات من اللّدَد والخصومة والمغريات والشبهات والعناد والشعور بالغربة، لذا أنزل الله القرآن مفرَّقا لا جملة واحدة ليُثَبِّت فؤاد نبيه؛ فإنَّ تَعَب الفؤاد يحصل من معاناة الناس؛ فيكون الاتصال بالوحي هو الكفيل وحده بنفي هذه المتاعب، لأن صلة العبد بالسماء مفتاح راحة الفؤاد.
● ما أشد وحشة قلبٍ هجَر أعظم أنيس، فأسعَد قلب إبليس!
قضية العالم اليوم هي السعادة.. والبحث عن كنز السعادة.
وأمراض الاكتئاب والتردد على الأطباء النفسيين تتزايد يوما بعد يوم، وتحتل مكانا لا بأس به بين أمراض كل أسرة.
وهاجر القرآن.. يبحث عن السكينة والطمأنينة في غير القرآن، ولن يصل إلى شيء.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه من الآية:124]
وكلُّ مَنْ شعر بالهم والغم عليه أن يسأل نفسه عن السبب، فقد يجد نفسه بعيدا عن الله، مُعرِضا عن ذكره، وبعضُهم يتداوى بأسباب مرضه، فإن أحَسَّ بالهموم تداوى بالسموم! فيستعين بالمخدِّرات والمحرَّمات والغرق في الشهوات، وهجر الصلوات، والأغاني والمسلسلات، ولسان حاله: " داوِني بالتي كانت هي الداء! "
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه من الآية:124]
والمَحْ في قوله {ضَنكًا} التنكير مع التنوين للتعميم كما يقول أهل اللغة، مما يعني معيشة ضنكا في كل جانبٍ من جوانب الحياة، ضنكا اقتصاديا، وضنكا اجتماعيا، وضنكا مهنيا، وضنكا في علاقاته بمن حوله، فيمرُّ بكل صور الضنك التي يحس بها المكروبون على اختلاف مصائبهم.
ولاحظ كذلك أن كلمة {ضَنكًا} لا تكاد تُقرَأ إلا بصعوبة، فالضاد حرفٌ ثقيل، ثم النون بين الضاد والكاف، فمعيشة هذا الإنسان صعبة كما أن نطق هذه الكلمة صعب.
وهذا لأن الجزاء هنا من جنس العمل:
من أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن أعرض الله عنه، فلن تكون عيشته إلا ضنكا، ولو ملك (المليارات)!
الأموال ترفِّه عن الجسد، أما القلب فلا تريحه الشيكات، ولا فاخر القصور والفيلات..
بحسب منظمة الصحة العالمية؛ فإنه بحلول سنة 2030 للميلاد، سيكون الاكتئاب ثاني أكبر سبب في العالم للأمراض المزمنة.
ولأن قلب العبد هو أغلى ما يملِكه، كان مفتاحه غاليا؛ لا يُصنَع في الأرض بل في السماء {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ } [الرعد من الآية:28]
و {ضَنكًا}: ليست على نطاق الفرد فحسب، بل وعلى نطاق الأمة بأسرها، فالأمة كلها ستعاني الضنك الشديد إذا ابتعدت عن القرآن، وواقع اليوم يشهد.
قال القاسم بن عبد الرحمن:
" قلتُ لبعض النُسّاك:
" ما ها هنا أحد نستأنس به؟! "
فمدَّ يده إلى المصحف، ووضعه على حِجْرِه، وقال: " هذا! "
● ضعف قراءتك من آثار خطيئتك!
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: " لو طَهُرت قلوبكم؛ ما شبعتم من كلام الله عز وجل ".
قد يكون هجر القرآن نتيجة وأثرا لفعلٍ سابقٍ منك، مما يعني أنه نهاية وليست بداية!
كيف؟
وهذا وعيد الله الذي توعَّد به من أعرض عن ذكره.
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف من الآية:36]
واحدة بواحدة.. أعرَض عن ذِكر الرحمن، {فسلَّطَ الله عليه الشيطان فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف من الآية:36] أي: رفيقٌ وصاحب، وما يفعل به الشيطان؟!
هل يدله على خير؟!
كلا والله.. بل يمسِك برقبته ويقوده لمقتله، ويكمل خطته: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف من الآية:37]
لن يهديك إلى الله، بل يضلك عن طريق الله، ثم يحدث الأخطر: يقلب الموازين عندك، فالحق باطل والباطل حق، وهذا أشد العقوبات الربانية، أن ترى النجاة في هلاكك، والهداية في ضلالك! {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف من الآية:37]
قال الإمام ابن كثير في بيان حال هاجر القرآن:
" في الدنيا فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، ضيِّق حرِج لضلاله، وإن تنعَّم ظاهره، ولبِس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبه يتردد، فهذا من ضنك المعيشة ".
● العذاب المتصل المتصاعد!
قال تعالى: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن من الآية:17]
يعاقب بعذاب متصاعد ينتقل من سيِّء إلى أسوأ، فتتضاعف هذه الآلام بمرور الزمن، وهذا مصيره المشؤوم، عذاب يتصاعد في الدنيا لكن لا ينتهي بالموت، بل يتزايد في القبر، ثم يتزايد أكثر في جهنم، وفى التعبير بقوله تعالى: {يَسْلُكْهُ} إشارة إلى اتصال هذا العذاب وعدم انقطاعه، وأنه فى اتصاله وتعدده أشبه بحبات العُقْد، ينتظمها سلك واحد، فالمعرض عن ذكر ربه فى دائرة مغلقة من العذاب المتزايد، يظل يدور فيها، دون أن يستطيع الإفلات منها، أو الخروج عنها، مع تدرُّجه فى هذا العذاب، وانتقاله من سيءٍ لما هو أسوأ، ومن شاق إلى أشقّ.
وفي مقابل الإعراض عن كلام الله يأتي الإقبال اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي، وقضاء الساعات على الصفحات، والأُنْس بالخلق الذي احتل في القلب مكان الأُنْس بالخالق، وهنا يسقط التعلل بعذر ضيق الأوقات لتبرير عدم الانتظام في التلاوة؛ حيث يقضي صاحبنا أضعاف هذا الوقت متصفِّحا حسابه على الفيسبوك وتويتر، ولو كان مالك بن دينار بيننا اليوم لوجَّه إلينا الكلام محذِّرا ومندِّدا:
" من لم يأنس بحديث اللَّه عن حديث المخلوقين فقد قَلَّ علمه، وعمي قلبه، وضيَّع عمره. "
● شكوى الرسول الكريم لرب العالمين
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]
قال الإمام الشنقيطي:
" وهذه شكوى عظيمة، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال ".
فكيف يكون حال من هجر القرآن مع رسول الله ﷺ يوم القيامة؟
وإذا به يتجه مع المسلمين -وكله شوق وحنين- لرؤية النبي الأمين ﷺ ليشرب من يده شربة لا يظمأ بعدها أبدا، فإذا بالملائكة تطرده عن الحوض، فيقول النبي ﷺ: «أمتي أمتي»، فتقول الملائكة: " إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك "، فيدعو عليهم رسول الله قائلا: «سُحْقا سُحْقا» (صحيح البخاري [6583]).
● غياب السكينة:
في الحديث الصحيح أن رجلاً من الصحابة كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرس، فتغَشَّته سحابة، وجعل فرسه ينفر منها، فلما ذُكِر ذلك للنبي ﷺ قال: «تلك السكينة تنزَّلَت للقرآن» (صحيح مسلم [795]).
والسكينة هي وعد الله لكل من اجتمع على تلاوة كتابه كما في الحديث: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة،...» (صحيح مسلم [2699]).
والسكينة اليوم هي الكنز مفقود، والقلق هو المرض المعهود، فقلوب الأكثرين مرتعبة من المستقبل، وتخاف من عدوها، وتخاف على رزقها، وتخاف على أولادها، حتى كاد الناس يصرخون: " قد أُحيط بنا! "
وما تفشى هذا القلق كالوباء إلا بغياب سكينة القرآن.
مختارات