" ضيعني زوجي فضاع أولادي "
" ضيعني زوجي فضاع أولادي "
في أحيان كثيرة تكون الحقيقة مرة مرارة العلقم... قاسية قسوة الصخر... سوداء حالكة كسواد الليل البهيم... ورغم حقيقتها تكون أحيانًا أقرب إلى الخيال منها إلى الواقعية، وفي هذا العصر المتطور الذي تحولت فيه كثيرٌ من الأحلام إلى حقائق مرئية وملموسة... لم يقتصر التطور في المفيد، بل تسرب إلى السيئ، واستطاع الشيطان أن يعمل على تدمير أسر بكاملها والعياذ بالله. وأنا من هذه الأسر وإليكم قصتي بل مأساتي.
كنت ككل فتاة في الدنيا لها أحلامها الخضراء المورقة وأمانيها البيضاء الكثيرة، وآمالها العراض... أحلم بالشهادة، ثم بالزوج الحبيب، والحياة الهانئة الكريمة، والأولاد والبيت الجميل... لم تكن أحلامي كغيري من الفتيات اللاتي يطمحن إلى الزواج من زوج غني، أو ذي منصب كبير... يسافرن في كل عام مرة على الأقل أو مرتين للسياحة...كانت أقصى أماني حصولي على الشهادة الثانوية العامة لأعمل بها، واتخذ من العمل سلاحًا، وزوج يعرف كيف يحبني ويسعدني، وأولاد يملؤون حياتي بالبهجة والسعادة، ويكونون لي سندًا عند المشيب.
حصلت على الكفاءة المتوسطة، وكانت فرحتي بها لا توصف فهي تعني لي منتصف الطريق... وبينما أنا أعانق باقي أحلامي، وأحلق في سماء خيالي بعد حصولي على الثانوية العامة، إذا بفارس الأحلام يطرق بابي... ووجدت نفسي أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الموافقة على الزواج من هذا الطارق، أو البقاء في بيت فقد مصدر الحنان والحبّ والعطف المتدفق... وانتظار قادمة جديدة زرع التفكير فيها الرعب في نفسي والقلق الدائم من مستقبل أسود ينتظرني... فحكايات زوجة الأب بأنواعها المختلفة القاسية لم تترك مجالاً في فكري لطرق القلق، وكأن زوجة الأب عدو لدود، أو جرثومة معدية تسبب الفتك والدمار... رغم طيبة بعضهن... كان عبد الله وهذا اسمه يحمل الصفات التي كنت أتمناها في زوج المستقبل... وشاءت إرادة الله تعالى أن يتم زواجي منه... ويشل نصف حلمي الأول، سارت حياتي مع عبد الله في البداية كأسعد ما تكون الحياة الزوجية، كان يحبني كثيرًا، ويدللني أكثر يحاول إرضائي بكل الوسائل، وحين يغضب علي ويشتمني رغمًا عنه أجده بعد ساعات قلائل قد جاء معتذرًا عما بدر منه وفي وسط هذا كله نسيت فكرة إكمال تعليمي. ولم يمض عام على زواجنا حتى رزقت منه بابني البكر خالد كانت فرحتنا به فوق الوصف خصوصًا في السنة الأولى من عمره، وما إن بلغ عامه الثاني حتى بدأت السُّحب القاتمة تحط رحالها في بيتنا، كان عبد الله يقول لي: إن طريقة تربيتك لابنك خطأ! وأنا أقول له: إن تربيتي لابني ليست خطأ، ورأيك ليس في محله. ويدور النقاش الحاد بيننا فيخرج غاضبًا تاركًا لي البيت. ومرت الأيام بنا تارة حلوة مشرقة، وتارة مرة كئيبة. ورزقت بولدين ومع دخولهما حياتي دخلت مشاكل كثيرة، وكثرت مسؤولياتي تجاههم وتجاه والدهم الذي أصبح كثير الغضب، عصبي المزاج، يضيق لأتفه الأسباب، حاولت بكل ما أستطيع أن أجعله يعود لطبيعته الأولى، ولكن عبثًا كنت أحاول... وفي غمضة عين من المعاناة التي كنت أرضخ تحت وطأتها، وجدت نفسي وأطفالي الثلاثة في حكم المشردين، عندما أرسل لي بالسكين التي فصلتني عنه وفصلته عن أولاده، وحالت بينهم وبين الحياة السعيدة المستقرة وبين المستقبل المضيء، وحكمت عليهم بأن يعيشوا أيتامًا ووالدهم حي يرزق، تلقيت هذه الطعنة بأسى وحسرة شديدتين، وقد شعرت بالضياع مع أولادي وأنا أرى نفسي في غابة الحياة الموحشة. كانت دموعي هي المنشفة الوحيدة التي تخفف آلامي وتطفئ لوعة قلبي، وحرقة نفسي... بعد تفكير طويل مضن أدركت أنني بحاجة إلى الوظيفة التي أرجو أن يجعلها الله سببًا في تأمين مستقبل أطفالي... لحظة ذاك احترقت أسفًا وندمًا؛ لأني لم أكمل تعليمي... وضيعت حلمين بدلاً من حلم واحد.
اتكلت على الله سبحانه وتعالى، وسلمت أمري وأمر أولادي إليه... وأكرمني الله بوجود وظيفة ساعدتني على توفير متطلبات الحياة لهم... ورغبة في تأمين حياة كريمة لهم، ومستوى معقول من المعيشة... عاد لي حلمي الأول في إكمال دراستي... وساعدني الله ووفقني فدرست حتى حصلت على الثانوية، ثم الشهادة الجامعية فتحسن مركزي الوظيفي والمالي... ابني البكر بعد فترة من الزمن حصل على الشهادة الجامعية، ثم الوظيفة فالزواج... كانت سعادتي لا توصف وأنا أرى أن حصادي أثمر... ومضت الحياة بي وأنا أكافح كي أقدم لولدي الصغيرين ما قدمت للكبير... فأكون بذلك قد أكملت رسالتي ودوري كأم وأب ومسؤولة... وأنا في قمة الشعور بالأمان والاستقرار النفسي... أحسست ببوادر عاصفة مدمرة توشك على المرور من بيتي... شعرت بالخوف يعصرني، وتحولت الراحة إلى قلق وتفكير دائم...حينما سمعت عن غول المخدرات الذي بدأ يغزو أجساد الشباب، ويحيل ربيعهم إلى خريف دائم... سعيد ابني المتوسط أدمن المخدرات... هالني هذا الأمر وأنا أتلقاه، وكأنني أتلقى خبر وفاته... واشتد خوفي على الابن الأصغر الذي ذهب ليعيش مع جده منذ شهور قليلة. الدموع كانت سلوتي الوحيدة، والأمل في الله كان النور الذي يضيء حياتي رغم سوادها... تفككت أسرتي، وتفرق أولادي... الكبير انشغل بحياته الجديدة، ولم أعد أراه إلا كل فترة طويلة، عدم سؤاله عليّ وعلى إخوته كان يزيدني خوفًا، ويعذبني، ويشعرني بالضياع التام... الأوسط أصبح من رائدي السجون لا يكاد يخرج أو يفيق حتى يعود وهو محطم... الأصغر لم يجد الاهتمام والرعاية الكافية في بيت جده، فأصبح يجد في الشوارع ما يفقده في البيت... أصدقاء السوء استغلوا طفولته البريئة... وصغر سنه... وأعطوه ذات يوم سيجارة ليدخنها ويستمتع... كان عُمَر آنذاك في الثالثة عشرة من عمره... كان يدخن في غفلة من جده ومني حين يأتي لزيارتي... لم تمض سنوات ثلاث حتى جره أصدقاء السوء إلى تناول الحشيش، ثم الهيروين... حتى أدمنه... بكيت كثيرًا وأنا أرى أحلامي، لولا أن تداركتهم رحمة الله... عالجت الصغير في مستشفى الأمل وشُفي... وعولج الأوسط وخرج من السجن بعد معاناة مريرة من الآلام. حمدت الله كثيرًا وسجدت له وأنا مدركة أن ما يصيب الإنسان منا ما هو إلا قدر مكتوب... وما علينا إلا الصبر والشكر والحمد له في كل الحالات.
هذه قصتي أسوقها لكم لتأخذوا العبرة منها، وتحافظوا على أولادكم، وتعرفوا أي نوع من الأصدقاء يصادقون (مأساة نورة) وفي هذه القصة أيضًا تبكيت وذم لهذا الوالد الذي ترك مسؤوليته تجاه أبنائه، وتخلى عنهم في وقت هم أمس الحاجة إليه، فكان سببًا مباشرًا في ضياعهم وانحرافهم.
مختارات