" رحلـة الضيـاع "
" رحلـة الضيـاع "
لا شيء أقسى في الدنيا من أن تجد نفسك أمام سؤال كبير قد تعرف إجابته، ولكن الشك يقف حاجزًا بين التصديق والتكذيب... هل والدي يحبني حبًا حقيقيًا؟ أم تراه لا يحبني؟ ولكن كرمه معي، وتدليله لي يؤيد هذا الحب؟! كيف أعرف ذلك؟ كيف أستطيع أن أفرق بين الحقيقة والوهم إن كان وهمًا؟ هل يعقل أن يعرف الأب أن ابنه مدمن مخدرات ويتركه دون نصيحة، أو جدال، أو عقاب؟ هل يعقل أن يتجاهل فعله المشين تاركًا له الحبل على الغارب رغم حبه الكبير له؟ تململ «عبد العزيز» في سريه وهو ممدد تحت قسوة تلك الأسئلة التي تحرق فؤاده، وتحرمه لذيذ النوم وراحة الفكر كلما خلا إلى نفسه وأفاق من وهم السعادة التي يحلق في عالمها.
كانت فرحة والده به كبيرة عندما جاء على عدد من الأخوات، كانت سعادته به لا توصف... أنشأه، ورباه، وعلمه وعوده على التدليل، وتحقيق الطلبات وترك له حرية اختيار كل شيء يخصه تعليمه... أصدقاؤه، تلبية طلباته... كان كرم عبد العزيز المتدفق نتيجة لكرم والده دافعًا؛ لتعرفه على عدد من أصدقاء السوء... الذين وجدوا فيه صديقًا نافعًا.
في إحدى ليالي الجمع، اقترح أحد الأصدقاء أن يخرجوا إلى رحلة بحرية...وافقوا جميعًا، واستعد كل منهم وعلى ضوء القمر الهادئ، وسكون الليل، وأصوات الموسيقى الصاخبة؛ أخرج أحدهم كيسًا كبيرًا من الحشيش، وبدؤوا يتناولونه بالترتيب، وحينما وصل دور عبد العزيز... سألهم ما هذا؟ ألا تعرفه؟ لا... وضج الجمع بالضحك... قال أحدهم: يظهر أنه لم يتذوق السعادة التي نتذوقها نحن... رد ثان قائلاً: يبدو أنك تعيش في عالم آخر غير عالمنا؟ قال ثالث: إنه لا يعرف غير سعادة المال! ما هذا الكلام الذي ترجمونني به من أجل هذه القطعة... فرد أحدهم: اسمها حشيشة السعادة يا جاهل، وعلت الأصوات بالضحك، خذ... مد يده وتناولها... شعر براحة وإحساس غريب ينتابه، ومضى الليل، وهم يعيشون في عالم من الأحلام والسعادة الوهمية.
في عطلة الصيف قال لوالده: أبي أريد أن أقضي إجازة الصيف في أمريكا، ولماذا أمريكا؟ الجميع يتحدثون عن جمالها وروعة مدنها. ودون أن يفكر قال له مبتسمًا... سيكون لك ما تريد يا عبد العزيز، ومتى تريد أن تسافر؟ بعد أسبوع إذا وافقت... وهل يكفيك شهرٌ؟ ربما وربما أكثر.
كان والده يشعر بالفخر؛ لأن ابنه أصبح رجلاً يعتمد عليه، ويستطيع أن يسافر وحده، ولكن محبته الزائدة أنسته أن يسأل ابنه عن رفقاء سفره... وعن أخلاقهم، وأهلهم.
في أمريكا المدينة الكبيرة الصاخبة... رأى الحرية المطلقة، ومظاهر اللهو الصارخة، والسهرات الحمراء المختلفة... كان الشيطان يصور له كأنه ولد من جديد، وأن عيشته السابقة لم تحسب من عمره، وأنه لم يعش كما يريد... على الرغم من أنه كان يتذوق أنواعًا من الحياة المترفة الرغيدة.
في إحدى البارات تناول الهيروين... والمراجوانا والأفيون... كان يدفع مبالغ كبيرة ثمنًا لعذابه وضياعه... دون أن يعلم أنه يشتري الموت لنفسه، أصدقاء السوء علموه كيف يحب اللهو، وقادوه إلى طريق الشر.
عندما نفدت نقوده... أرسل يطلب مبلغًا كبيرًا من المال...كانت طلباته أوامر... في نفس الوقت الذي وصلته فيه البرقية رفع والده سماعة الهاتف، وقال لمدير صندوقه المالي: عليك يا محمود أن تصرف لابني أي مبلغ يطلبه... وكان المبلغ الذي صرفه له في بداية الأمر مائة ألف ريال، صعق المدير لأمر صاحب المال... وحينما علم والده أنه يدمن المخدرات، لم يحدثه في الأمر أو يحذره، بل تركه على حريته، وكأن ما يفعله ليس فعلاً يجلب الدمار والضياع له – ولله في خلقه شؤون – مما شجعه على المضي في غيه ولهوه.
كان كل شهر يصرف مائة ألف ريال... حينما عاد من سفره بدأت صحته تتدهور لعدم حصوله على المخدرات... فقد كان رجال الأمن يلاحقون مروجي المخدرات بشكل مستمر ويضيقون عليهم الخناق...حتى وقعوا في أيدي الشرطة ظل عبد العزيز في حالة شديدة من الاكتئاب والضيق حتى حمل له أحد المروجين بعض الهيروين خفية... وكانت فرحة عبد العزيز به لا توصف، وكأنه نجا من حالة غرق... ولكنه لم يشعر بالراحة التي اعتادها عند أخذه، وحينما شكا تلك المشكلة للمروج، قال له: ما نوع الهيروين الذي تأخذه؟ وحين عرف نوعه، قال له: إنه هيروين مغشوش، وكل ما يُباع هنا مغشوش، زادت حالته سوءًا، نصحه بإعطائه عقار الهلوسة وهو ما يسمى عند فئة المدمنين أسيد السعادة كان يؤخذ بدلاً من الهيروين الخام.
تعود عليه كان هذا النوع خطيرًا يجعل صاحبه يفقد عقله أو يقدم على الانتحار كان يضحك بهسترية، وبدون سبب، وأحيانًا كان يبكي ذات يوم خرج إلى الشارع عاريًا كان منظرًا بشعًا يبعث على التقزز والخوف معًا اجتمع عليه الجيران والتف حوله المارة بعضهم يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وآخرون راحوا يرشقونه بالحجارة لعله يفيق آخرون قالوا: لا بد من إبلاغ الشرطة لأخذه قال أحدهم: اتصلوا بالإسعاف... آخر لا سآخذه بسيارتي إلى المستشفى... يبدو أنه غير طبيعي، في المستشفى خضع عبد العزيز للتحاليل والأشعة وفي حالة يقظته سأله الطبيب: ما الذي كنت تأخذه حتى حدث لك ما حدث؟ قال بأسى لقد أدمنت الهيروين الخام... ولكني لم أجد مثله هنا، فوصف لي أحدهم «الأسيد» لم تطل فترة وجوده في المستشفى.
ذات ليلة غافل الممرضة وهرب تحت ستر الظلام، وعاد من جديد إلى إدمان الهيروين المغشوش بعد أن عجز عن إيجاد هيروين خام... كان يتناول كل يوم كيٍسا كاملاً حتى إنه سبب له هبوطًا في القلب، وأصيب باكتئاب وضيق تنفس... نقله أصدقاؤه إلى المستشفى، ومكث فترة وبعد خروجه عاد من جديد إلى تناول الأسيد، فتدهورت صحته وأصيب بنكسة، وأدخل على إثرها المستشفى للمرة الثالثة، وعانى من العذاب ما لا يوصف... ولكنه هذه المرة لم يفكر في الهرب بقدر ما فكر في العلاج، ووجد أنه الطريق الوحيد الذي سيوصله إلى طريق الشفاء... ويخلصه من عذابه الذي لا يحتمل... بعد أن قضى أيامًا وليالي طويلة باكيًا نادمًا مستغفرًا ربه لما بدر منه آسفًا على ضعفه وانسياقه وراء ملذاته، معاتبًا والده الذي ترك له الحبل على الغارب ( مأساة نورة وآخرين ص(123-129)).
مختارات