" اليتيمـان "
" اليتيمـان "
أحس «ماجد» أنه لم يفهم شيئًا مما يقرأ وإن عينيه لتبصران الحروف وتريان الكلمات ولكن عقله لا يُدرك معناها إنه لا يفكر في الدرس وفيما يقرأ، إنما يفكر في هذه القاسية القلب زوجة أبيه، وما جرت عليه من نكد وحزن وآلام، وما سببت له من مصائب ونكبات، وكيف نغصت عليه وعلى أخته المسكينة حياتهما وجعلتها جحيمًا مستعرًا، لقد ماتت أمه الحنون منذ فترة فقرر أبوه الزواج بتلك المرأة؛ لتقوم على رعاية «ماجد»... وأخته الصغيرة والعناية بشؤونهما، والسهر على راحتهما، نظر «ماجد» في التقويم فإذا بينه وبين الامتحان أسبوع واحد فقط ولا بد له من القراءة والاستعداد للامتحان جيدًا، ولكن كيف يقرأ؟ وكيف يستعد؟ وأنى له الهدوء والاستقرار النفسي في هذا البيت، وهذه المرأة قاسية القلب تطارده، وتؤذيه، ولا تدعه يستريح لحظة قط، وعندما تكف عن أذيته وتشفي غيظها منه، تلتفت إلى المسكينة الصغيرة وتصب عليها ويلاتها، وتصفها بأقبح الأوصاف، وتسمعها أبشع الكلمات، وهنا يخاطب «ماجد» نفسه: هل يمكن أن أرسب في أول سنة من سنين المراحل الثانوية، وقد كنت في المرحلة الابتدائية والمتوسطة المتفوق على سائر طلاب الفصل والأول عليهم، وبينما هو يفكر إذ به يسمع صوت العاصفة، وإن العاصفة لتمر بالحقل مرة في الشهر فتكسر الأغصان، وتقصف الفروع، ثم تجيء الأمطار فتروي الأرض، ثم تطلع الشمس، وإن عاصفة هذه البيت تهب كل ساعة فتكسر قلبه وقلب أخته الصغيرة ذات السنوات الست.
لقد سمع «ماجد» سبَّها وشتمها لأخته الصغيرة، وقرع أذنه صوت يدها – شلت يدها – وهي تقع على وجه أخته الطفلة البريئة صاحبة القلب الذي يئن، ولكن من يسمع أنين القلوب، فلم يستطع «ماجد» القعود في غرفته، ولم يكن يستطيع أن يقوم لحمايتها ودفع الظلم عنها خوفًا من أبيه. هذا الرجل الذي حالف امرأته الجديدة وعاونها – دون شعور منه – على حرب هذه الطفلة المسكينة وتجريعها غصص الحياة وآلامها قبل أن تدري ما الحياة، ووقف «ماجد» ينظر من شباك غرفته، فرأى أخته مستندة إلى الجدار تبكي منكسرة حزينة. وكانت مصفرة الوجه بالية الثوب، وإلى جانبها أختها الصغرى من أبيها طافحة الوجه صحة، بارقة العينين، مزهوة بثيابها الغالية. وشعر «ماجد» بقلبه يثب إلى عينيه، ويسيل دموعًا، أخذ «ماجد» يخاطب نفسه ما ذنب هذه الطفلة حتى تُسام هذا العذاب؟ أما كانت ذات يوم فرحة أبيها وزينة حياته؟ أما كانت عزيزة عليه؟ فمالها الآن صارت ذليلة بغيضة لا تسمع في هذا البيت إلا السب والانتهار، أما التدليل فلأختها من أبيها كأنما هي البنت المتفردة، أفاق «ماجد» من شروده مع الأيام وتقبلها على صوت خالته – زوجة أبيه – وهي تنادي أخته الحزينة، ويلك تعالي يا خنزيرة، لقد كان هذا هو اسمها عندها «الخنزيرة» لم تكن تناديها إلا به، فإذا جاء أبوها فهي البنت، تعالي يا بنت، روحي يا بنت، أما أختها الصغيرة فهي الحبيبة فهي تناديها أين أنت يا حبيبتي، تعالي يا عيوني، وعاد صوت تلك الزوجة القاسية يزمجر في الدار، وهي تخاطب أخت ماجد الحزينة قائلة: ألا تسمعين أختك تبكي؟ انظري الذي تريده فهاتيه لها؟ ألا تجاوبين؟ هل أنت خرساء؟ قولي: تكلمي ماذا تريدين، فأجابت المسكينة بصوت خائف: إنها تريد الشوكولاته ! فصاحت فيها زوجة الأب، ولماذا بقيت واقفة مثل الدبة؟ اذهبي فأعطيها ما تريد... اذهبي ! فوقفت المسكينة حائرة، ولم تدر كيف تبين لها أن القطعة الباقية هي لها، لقد اشترى أبوها البارحة قطعة من الشوكولاتة، وأعطاه لابنته الصغيرة بنت الزوجة الثانية فأكلته، والمسكينة تنظر إلهيا فرمت إليها بقطعة منها، كما يرمي الإنسان باللقمة للهرة التي تحدق فيها وهو يأكل، وأخذت المسكينة القطعة فرحةً بها ولم تجرؤ أن تأكلها على الرغم من اشتهائها إياها، فخبأتها، وجعلت تذهب إليها كل ساعة فتراها وتطمئن عليها، وغلبتها شهوتها مرة فقضمت منها قضمة بطرف أسنانها، فرأتها أختها المدللة فبكت طالبة الشوكولاتة، صاحت زوجة الأب في الطفلة المسكينة الويل لك يا ملعونة، أين الشوكولاتة؟ فسكتت أخت ماجد ولم تتكلم، ولكن الصغيرة المدللة قالت: هناك يا ماما عندها، لقد أخذتها مني، واستاقت المرأة ابنتها وابنة زوجها كما يساق المتهم إلى التحقيق، فلما ضبطت المسكينة متلبسة بالجرم المشهود، ورأت زوجة أبيها الشوكولاتة معها حل بها البلاء العظيم ! أخذت زوجة أبيها تصيح في وجه المسكينة قائلة: يا سارقة... يا سارقة هكذا علمتك أمك تسرقين ما ليس لك؟ وكان ماجد يحتمل كل شيء، إلا الإساءة إلى ذكرى أمه، فلما سمعها تذكرها لم يتمالك نفسه أن صاح بها قائلاً: أنا لا أسمح لك أن تتكلمي عن أمي هكذا، فتشمرت له واستعدت، وكانت تتعمد إذلاله وإيذاءه دائمًا، فكان يتحمل صامتًا صامدًا لا يبدو عليه أنه يحفلها أو يأبه لها، فكان ذلك يغيظها وتتمنى أن تجد سبيلاً إلى شفاء غيظها منه، وها هي ذي قد وجدت الفرصة.
فصاحت فيه قائلة: لا تسمح لي! أرجوك يا سعادة «البك» اسمح لي، ألا يكفي أن أتعب وأنصب؛ لأقدم لك طعامك وأقوم على خدمتك، وأنت لا تنفع لشيء إلا الكتابة في هذا الدفتر الأسود، ولكن ليس بعجيب أنت ابن أمك.
فقال لها ماجد: قلت لك: كفي عن ذكر أمي، وإلا أسكتك واقترب منها، فصرخت زوجة الأب القاسية وولولت وأسمعت الجيران، وأخذت تردد تريد أن تضربني يا ماجد؟... آه يا خائن، يا منكر الجميل، يا ناس يا عالم، ألحقوني، أدركوني، أنقذوني، وجمعت الجيران، وتسلل ماجد إلى غرفته أو الزاوية الصغيرة التي سموها غرفة وخصصوها له، لتتخلص سيدة الدار زوجة أبيه من رؤيته دائمًا في وجهها.
وفي المساء عاد الأب إلى البيت وكان على عادته عابسًا لا يبتسم في وجوه أولاده، لئلا يتجرؤوا عليه فتسوء تربيتهم، وتفسد أخلاقهم، ولم يكن كذلك قبل زواجه من هذه القاسية، ولكنه استنَّ لنفسه هذه السنة من يوم حضرت هذه الأفعى إلى الدار، وصبت سمها في جسمه، ووضعت في ذهنه أن «ماجدًا وأخته المسكينة مدللان فاسدان، لا يصلحهما إلا الشدة والقسوة».
دخل الأب المنزل فاستقبلته استقبال المحبة الجميلة، والمشوقة المخلصة، ولكنها وضعت في وجهها لونًا من الألم البريء، فبدت معه كأنها المظلومة المسكينة، لم لحقته إلى غرفة النوم تساعده على إبدال ثيابه، وهناك روت له قصة مكذوبة، فملأت صدره غضبًا على أولاده، فخرج وهو لا يبصر ما أمامه، ودعا بالبنت المسكينة فجاءت تمشي مشية من يساق إلى الموت، ووقفت أمامه كأنها الحمل المهزول بين يدي النمر، فقعد الأب على كرسي عال، كأنه كرسي المحكمة، وأوقفها أمامه، كالمتهم الذي قدمت كل الأدلة على إجرامه، وأفهمها قبح السرقة، وعنفها، وزجرها، وهو ينظر إلى ولده ماجد نظرة الافتراس متوعده منذرًا بالشر، ولم يسع ماجد السكوت وهو يسمع اتهام أخته بالسرقة، وهي بريئة منها.
فأقبل على أبيه يريد أن يشرح له الأمر ويوضح له الموقف، فتعجل بذلك الشر على نفسه؟ وهنا انفجر البركان وزُلزلت الدار زلزالها، وأرعد فيها صوت الأب الغاضب الهائج قائلاً: أتريد أن تضرب خالتك يا قليل الحياء، يا معدوم التربية، لقد حسبتك رجلاً إنني سأكسر يدك التي تريد أن تضرب بها خالتك، فقال ماجد: والله يا والدي هذا الكلام غير صحيح، فقال الأب: يا وقح أما بقي عندك أدب؟ أتُكذَّبُ خالتك؟ فقال ماجد: أنا لا أكذبها، ولكنها تقول أشياء ليست صحيحة...عند ذلك وثب الوحش من كرسيه، وانحط بكل قوته وقسوته على ابنه، وأخذ يكيل له الضربات، ويركله ويصفعه، كالمجنون، ولم يكتف بذلك، بل أخذ دفتره الأسود الذي كتب فيه كل دروسه ومزقه تمزيقًا، ثم تركه هو وأخته المسكينة بلا عشاء عقوبة لهما.
جثم ماجد مكانه ينظر إلى قطع الدفتر الذي أفنى فيه لياليه وعاف لأجله طعامه ومنامه، والذي وضع فيه نور عينيه، وربيع عمره، وبنى عليه أمله ومستقبله، ثم قام المسكين يجمع قطعه كما تجمع الأم أشلاء ولدها الذي طوَّحت به قنبلة هائلة، فإذا هي تالفة لا سبيل إلى جمعها، ولن تعود دفترًا يقرأ فيه إلا إذا عادت هذه الأشياء بشرًا سويًا يتكلم ويمشي، فأيقن أنه قد رسب في الامتحان، وقد أضاع سنته الدراسية، وكَبُر عليه الأمر، ولم تعد أعاصبه تحتمل هذا الظلم، ويكرُّ الفيلم ويرى أمه مريضة فلا يهتم بمرضها، ويحسبه مرضًا عارضًا، ثم يرى مشهدًا آخر، الدار والاضطراب ظاهر فيه، والحزن باد على وجوه أهله ويسمع البكاء والنحيب، ويجدهم يبتعدون به، ويخفون النبأ عنه، ولكنه يفهم أن أمه قد ماتت... ماتت، انتبه ماجد من ذكرياته على صوت قهقهة تلك المرأة القاسية مع ضحكات أبيه، وأنصت ماجد فإذا هو يسمع بكاء خافتًا حزينًا مستمرًا إنه بكاء أخته المسكينة قد باتت بلا عشاء، ولعلها بلا غداء أيضًا، فهذه المجرمة تشغلها طول النهار في خدمتها وخدمة بنتها، وتحجب عنها الطعام ولا تعطيها إلا كسرة من الخبز، وإلى الجانب الآخر تطعم ابنتها أشهى الأطعمة، فإذا جاء الأب في المساء، ارتدت أمامه قناع الرحمة والحنان، وشكت إليه مرض ابنته وضعفها، وتقول له: مسكينة هذه البنت، إنها لا تتغذى انظر إلى جسمها اذهب بها إلى طبيب؟ ولكن ماذا سيفعل معها الطبيب، إن ابنتك عنيدة، أقدم لها الطعام فلا تأكل، وعنادها سيقضي على صحتها، فيناديها أبوها ويقول لها: لماذا يا بنت هذا العناد؟ كلي وإلا كسرت رأسك؟ فتقدم لتأكل، فترى المرأة الخبيثة تنظر إليها من وراء ظهر أبيها نظرة الوعيد، وترى وجهها قد انقلب حتى صار كوجه الضبع فتخاف، وتتراجع، وترتد، ولا تأكل، فتقول المرأة لزوجها: ألم أقل لك، إنها عنيدة تحتاج إلى تربية، فيهز الأب رأسه، ويكتفي من تربيتها بضربها على وجهها، وشد أذنها وطردها من الغرفة، ويكون ذلك عشاها كل يوم، تذكر ماجد أخته فقام إليها فرفعها وضمها إلى صدره، وقال لها: مالك يا حبيبتي؟ لماذا تبكين؟ اسكتي يا حبيبتي؟ فتقول له: إني جائعة يا أخي، جوعانة يا أختي، ولكن من أين آتيك بالطعام؟ وقام ماجد يفتش في البيت، وكانت دائمًا زوجة أبيه تحكم غلقها على الطعام، ولكنه وجد بقايا العشاء على المائدة، فحمله ماجد إلى أخته المسكينة فأكلتها، وفرحت بها، وهنا عادت ذكريات الماضي تتدفق عليه، وعادت صورة أمه الحبيبة أمام عينيه، وسمعها تناديه وتهتف به؟ ونسي ماجد دفتره الممزق ومستقبله الضائع وحياته المرة، وطفق يُصغي إلى نداء الماضي في أذنيه إلى صوت أمه الحبيبة، فقال لأخته الصغيرة: قومي يا حبيبتي: ألا تسمعين صوت أمك تعالي نروح عند ماما، ارتجفت البنت المسكينة؛ لأنها لم تكن تعرف لها أمًا إلا هذه المرأة المجرمة، وخافت منها وأبت أن تذهب إليها، لقد كان من جناية هذه المرأة أنها شوهت في نفس الطفلة الصغيرة أجمل صورة عرفها الإنسان صورة الأم، فأخذ ماجد يقول لأخته ويكرر: تعالي نروح عند ماما الحلوة أمك الجميلة، إنها في الجنة ألا تسمعين صوتها، وحمل ماجد أخته بين يديه، وفتح الباب ومضى بها في اتجاه الصوت الذي يرن في أذنيه.
وفي اليوم التالي، قرأ الناس في الجرائد أن رجال المقابر وجدوا في المقبرة طفلة هزيلة في السادسة من عمرها، وولدًا في الرابعة عشرة قد حملا إلى المستشفى؛ لأن البنت مشرفة على الموت، قد نال منها الجوع والبرد والفزع، ولا يمكن أن تنجو إلا بأعجوبة من أعاجيب القدر. أما الغلام فهو يهذي في حُمَّاه يذكر الامتحان، والدفتر الأسود، وأمه التي تناديه، والمرأة التي تشبه الأفعى؟(قصص من الحياة: الشيخ علي الطنطاوي ص(9-20) باختصار).
مختارات