الإنسان ليس ربّاً !!
إذا لم يأكل الإنسان جاع ، وإذا لم يشرب عطش ، وإذا لم ينم أصيب بالجنون ، وإذا لم يتنفس مات !
يحتاج كما هائلا من الأشياء حتى يعيش ، يحتاج لعينيه حتى يرى الطعام ، ولكفّه حتى يتناوله ، ولفمه حتى يأكله ، وللعافية حتى يستفيد مما يأكل !
تفكرت طويلا في النوم ، إنه حالة موت صغرى ، يفقد الإنسان فيها إحساسه بما حوله ، بل يفقد فيها إحساسه بنفسه ، فيختفي عن الوجود لمدّة ساعات ، يصبح فيها بلا عقل ، تصعد على خشبة مسرح خيالاته أوهاما ، وخرافات يسميها بالأحلام ، فيصدق كل ما يراه ، يرى أنه يطير ! فيصدق ذلك ، يرى أنه قد مات ، فيصدق ذلك ، يرى أنه قد أصبح ثريا ، فيصدق ذلك ، وبينما هو يبذر بأمواله الطائلة ، إذ به يستيقظ ؛ ليكتشف أنه كان يحلم ! كان بلا عقل ، ما أحوج الإنسان الضعيف إلى تلك الفترات التي يفقد فيها عقله ، إلى النوم ! يحتاج إلى شيء من الجنون ، لينعم بعقله في فترات يقظته ! إن من تفاهة الدنيا عند الله أن يجعل الإنسان فيها يحتاج حاجة ماسّة إلى فقدان عقله ، الذي يعتبر الميزة الوحيدة بينه وبين بقية المخلوقات ! فقط ليعلم هذا المتغطرس أنه يحتاج كل شيء ، حتى الجنون يحتاج إليه بجرعات متفاوتة ، يصل متوسطها إلى ثمان ساعات يوميا ، طيلة أيام حياته العاقلة جدا ! فمن مات وهو في الستين من عمره ، يكون قد قضى عشرين سنة منها وهو بلا عقل نهائيا ، في عالم أسود مظلم ، لا تظهر فيه إلا الأحلام الكاذبة ، والأوهام المجنونة .
وهنا يظهر لنا سؤال وجيه : كيف سيدير الإنسان الخارق الكون في تلك الساعات التي يكون فيها بلا عقل ؟ هل نعبد ذلك الذي يفقد إحساسه بنفسه ثمان ساعات يوميا ، أم ذلك الذي " لا تأخذه سنة ولا نوم " ؟
يحتاج الإنسان إلى الماء ، إلى المطر ، فينزل الله الماء له " والله أنزل لكم من السماء ماء " فلما ينهمر على رأسه بغزاره ، يحتاج إلى شيء يظله ويكنّه عن الماء ، فيلجأ إلى جبل ما يتكنن تحته "وجعل لكم من الجبال أكنانا" ، فهو يحتاج إلى الماء الذي أنزله الله ، وإلى الجبل الذي خلقه الله .. فهو يتقلب من حاجة إلى حاجة ، فكيف سيستجيب ويحقق حاجات الناس ، وهو يحتاج إلى كل شيء ، في كل لحظة ؟
أحدهم يشل شللا كاملا ، ويلزم المستشفى فترة من الزمن ، يقلبه الأطباء ، وتؤكله الممرضات ، يجلس عنده ذات يوم أحد الأخصائيين ، فيشعر برحمة ورأفه بهذا المسكين ، فيقول له : اطلبني أي شيء أفعله لك ، يريد أن يخدمه أي خدمة حتى يدخل السرور إلى قلب هذا البائس ، فيقول بصوت ضعيف : حك لي وجهي ! مسكين ! يحتاج أن يحك أحدهم وجهه له " ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم ضرا ولا نفعا "
إن من تفاهة الدنيا أن جعل الله الإنسان فيها يشعر بنغز ما في جلده ، لا يذهبه إلا أن يحك مكان النغز بشراسة في بعض المرات ، ليعلم أنه بحاجة ماسة إلى ظفر ما في أصابعه ، ليشعر براحة في حياته ! حتى الظفر الحقير يحتاجه الرجل الخارق ، ليرتاح في نومه ويقظته .
النجار يحتاج إلى الخباز ليأكل ، والخباز يحتاج إلى البناء ليسكن ، والبناء يحتاج إلى البزاز ليلبس ، والبزاز يحتاج إلى النجار ليغلق عليه بابه ، والأمير يحتاج إلى هؤلاء كلّهم ، فمن هو الغني الحميد إذن ؟
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول لصحابته في إحدى المغازي : من يكلؤنا الليلة ؟ يعني يحرسنا ويوقظنا لصلاة الفجر ، فيتصدى لذلك بلالا ، فتغلبه عينه فينام ، فلا يستيقظون إلا وقد طلعت الشمس ! حتى النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى من يوقظه من نومه !
أحد الصالحين يسأل خليفة عصره وفي يده كأس ماء : لو ساوموك على هذا الكأس بنصف ملكك فقال الخليفة : إذن أعطيهم إياه ، فلما شرب سأله مرة أخرى : لو ساوموك على إخراج ما شربته بنصف ملكك الآخر ؟ فقال الخليفة : إذن أبذله ! فقال ذلك الصالح : فمالك ولدنيا لا تساوي شربة ماء !
مسكين أنت ، كأس ماء يجبرك أن تتخلى عن عرشك ، وتدخل في مصاف الدهماء ، يا لك من محتاج .
إن أعظم كذبة يتفوّه بها الإنسان عندما يقول في كبر : لا أحتاج إلى شيء ! ولو أراد الحقيقة لقال : ليس هناك شيء لا أحتاجه .
يخبرني زميلي بأن جاره ذات يوم شك في أنه تعرض لأهله ، فضربه أمام الناس في الشارع ضربا مهينا ، وجعل منظره مزريا ، وكان زميلي هذا ضعيفا ، لا يقدر على شيء ، وكان أحوج ما يكون إلى نصير ما ، خصوصا وأنه قد أحس بقدر الإهانة ، وبألم الضرب الظالم ، قال فذهبت مباشرة إلى المسجد ، وصليت ودعوت الله من قلبي أن يهلكه ، أن يميته ، قال فذهبت إلى البيت ، فإذا بأخي يوقظني في الفجر ويخبرني بأن صاحبي الذي ضربني وأهانني قد مات ! " إنني معكما أسمع وأرى "
كم هي صعبة حياة هذا الإنسان لو لم تكن هناك شمس يرى بها الأشياء ، هذه الشمس التي تدخل حتى إلى البيوت لترينا بعضنا البعض ، لترينا أبناءنا ، وحاجاتنا " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة ، من إله غير الله يأتيكم بضياء " هل يستطيع الرجل الخارق أن يأتي العالم بضياء ؟ لا أظن ذلك لسبب بسيط وهو أني أعتقد أن من كان يحتاج إلى أن يمص ثدي أمه في طفولته لن يستطيع مهما حاول أن يأتي بشمس تضيء العالم في كبره !
قارون احتاج إلى العصبة أولي القوة لتحمل له مفاتيح كنوزه .
وفرعون احتاج هامان ليبني له على الطين ليطلع _ زعم _ على إله موسى .
إنهم يحتاجون ..
موسى احتاج إلى أن يضرب البحر حتى ينفلق إلى فرقين كل فرق كالطود العظيم .
ومحمد صلى الله عليه وسلم احتاج أن يختبئ في الغار حتى لا يراه صناديد قريش .
إنهم يحتاجون ..
كلهم ، مؤمنهم وكافرهم يحتاجون الله . .
إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ..
إبراهيم عليه السلام يلقونه في النار فينظر إلى السماء ، ويعلن حاجته إلى الله ، يسأله جبريل ألك حاجة عندي، فيقول : أما إليك فلا ، وأما إلى الله فنعم . فينادي الرب الحقيقي : " يا نار ، كوني بردا وسلاما على إبراهيم "
يطرد كفار الطائف محمد صلى الله عليه وسلم ويرمونه بالحجارة فيبتهل إلى ربه : إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي .
يصاب الناس في عهد موسى عليه السلام بجدب وعطش شديد ، فيخرج الناس يستسقون ربهم ، فيرى موسى نملة خرجت من جحرها تبتهل إلى ربها أن يسقيها ، فيقول موسى لقومه : ارجعوا ، فقد كفيتم . فينزل المطر .
الكل يحتاجونه .. لأنه هو من يعافيهم من أمراضهم ، يصاب أيوب عليه السلام بالجدري ، فيهجره كل من يعرفه ، ويفقد كل أهله ، ويتحدث الناس أنه أصاب ذنبا عظيما ، لذلك فهو يعاني من عقوبة الله له ، فينادي ربه بعد عقود من الصبر الطويل : رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، فيرفع الله ما به من ضر ! " إنا وجدناه صابرا ، نعم العبد إنه أواب "
الكل يحتاجونه لأنه ينقذهم في أحلك الساعات ، يوقف قاطع طريق أحد المسافرين ، ويرفع السيف عليه ، فيتوسل إليه أن يأخذ ماله ويستبقيه ، فيصر على قتله ، فيستأذنه بركعتين يختم بهما حياته ، فيكبر ، ويكرر في صلاته " أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " وما إن ينتهي من صلاته إلا برجل على فرس يضرب ذلك اللص بسيف شهير ، فيطير رأسه ، ثم يختفي !
الكل يحتاجونه لأنه يؤنسهم في ضيقهم ، فيشعرون بأعظم اللذات في أضيق الظروف ، يقول شيخ الإسلام وقد أغلق عليه أعداؤه باب السجن : وضرب بينهما بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب ، ما يفعل أعدائي بي ؟ أنا جنّتي وبستاني في صدري ، أينما رحت فهي معي ! أنا سجني خلوة ، وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة !
فها هو الإنسان أحوج ما يكون إلى ربه ، وإلى الأشياء التي سخرها له ربه ، فكيف والحالة هذه يزعم هذا الإنسان أنه الرب ؟ أنه من يلبي حاجات البشر ؟ أم أنه يريد أن يكون ربا بالاسم فقط ، ر با بلا ربوبية ؟ ، ثم لا يقوم بشيء من أعمال الرب العظيم ، " كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا " .
مختارات
-
كيف نتواصى فيما بيننا (1)
-
نزول فَرْضية زكاةِ الفِطرِ .
-
الارتخاء المعرفي
-
" يوم القيامة.. وما أدراك ما يوم القيامة "
-
هديه صلى الله عليه وسلم في الطّعام والحمية
-
" الحديقة السابعة : حديقة الشفاعة للمسلمين "
-
نُزولُ آيةِ الحِجابِ .
-
معركة باطن اﻹثم "أخطار تهدد الصحوة من الداخل"
-
حكم التمايل عند الذكر
-
" طلب الرزق لا ينافي التوكل "