101. العلاء بن الحضرمي يغزو البحر
العلاء بن الحضرمي "يغزو البحر"
لاذ المرتدون الفارون بحمى جزيرة دارين (١) …
وتحصنوا بأمواج البحر التي تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم.
ثم أرخوا لأنفسهم أعنتها (٢) …
وأخلدوا (٣) إلى مهاد (٤) الراحة والطمأنينة …
وأغفلوا الحيطة والحذر.
ذلك لأنهم كانوا على يقين بأن جند المسلمين النابتين في بطن الصحراء لم يعرفوا ركوب البحار …
ولم يألفوا متون (٥) السفن.
زد على ذلك؛ أنهم لا يملكون شيئا منها.
* * *
لكن العلاء بن الحضرمي كان قد أضمر في نفسه أمرا عظيما خطيرا؛ لم يفكر فيه قائد إسلامي من قبل …
ولا خطر لأحد من المسلمين على بال.
لقد عقد العزم على غزو دارين، والظفر بالمرتدين المعتصمين (٦) بأسوار الماء …
* * *
لم يكن العلاء يجهل أن جنوده أبناء الصحراء؛ يهابون البحر أعظم الهيبة، ويخشون مخاطره أشد الخشية.
ولم يكن في حاجة إلى من يذكره؛ بأنه لا يملك سفينة واحدة ينقل عليها جنديا واحدا من جنوده …
فكيف إذا كان يحتاج إلى أسطول ضخم؛ ليحمل عليه هذا الجيش الكبير كله؟!.
كما يحتاج إلى جسور متحركة ليعبر فوقها هو ومن معه إلى اليابسة.
إن هذا كله كان يعرفه العلاء بن الحضرمي …
ويعرف معه أيضا أن جزيرة دارين تبعد عن شواطئ البحرين مسافة تقطعها السفن الشراعية في يوم وليلة.
وعلى الرغم من ذلك كله …
فإنه لم يتردد لحظة واحدة فيما عقد العزم عليه.
* * *
ولما أشبع العلاء الخطة بينه وبين نفسه بحثا ودرسا، وأوسعها تدبيرا وتقديرا … جمع عسكره، ووقف فيهم خطيبا …
فحمد الله تعالى حق الحمد وأثنى عليه أجل الثناء، وصلى على نبيه
محمد أكمل الصلاة، وسلم عليه أزكى السلام …
ثم أخبر الجيش بما عزم عليه من عبور البحر …
وغزو المرتدين اللائذين (٧) بدارين …
المتحصنين وراء أسوار الماء …
ثم أدار عينيه في وجوه الجند؛ فوجد مائة سؤال تلوح على شفاههم، وتكاد تنطلق من أفواههم.
فأوصد في وجوههم أبواب القول؛ خشية أن تبدر من أحدهم كلمة توهن العزائم، وتثير الشكوك؛ فأتبع يقول:
لا تقولوا: كيف لنا ذلك؟!!.
وقد أراكم الله من آياته في البر ما لو تدبرتموه؛ لأيقنتم بما ينتظركم من آياته في البحر.
لا تقولوا: كيف؟!.
والله معكم …
ألم يملأ لكم الغدير (٨) بالماء العذب النمير (٩) في قلب صحراء الدهناء!!.
فرواكم من عطش، وأنقذكم من هلكة.
ألم يرد إليكم الإبل الشاردة في القفار (١٠)؛ الهائمة في الفيافي (١١)!!.
فرأيتموها بأعينكم وكأن ملائكة الرحمن تحفها (١٢) بأجنحتها …
وتسوقها إلى مواطئ أقدامكم (١٣) سوقا.
دون أن تفقدوا صاعا من الزاد الذي فوق ظهورها …
أو جرعة من الماء الذي على متونها.
فأطعمكم من جوع …
وأمنكم من خوف …
وأنقذكم من هلاك …
إن الله الذي أجاب دعوتكم حين دعوتموه في جوف الصحراء مخبتين (١٤)؛ راجين؛ واثقين … سيجيب دعوتكم - بفضله - حين تدعونه وأنتم تعبرون اليم (١٥)؛ للقاء عدوه صادقين مخلصين.
ثم أنهى كلامه قائلا:
أعدوا أنفسكم …
وامضوا إلى لقاء عدو الله وعدوكم.
وامتطوا إليه ظهور إبلكم، وخيلكم …
واعبروا على متونها ماء الخليج.
على بركة الله وتوفيقه.
فما كان منهم إلا أن قالوا بصوت واحد:
نعم … نعم …
نفعل ما أمرتنا به أيها القائد الملهم …
والله! لا نهاب بعد الدهناء شيئا إلا الله.
* * *
ركب الكماة (١٦) الأشاوس (١٧) صهوات (١٨) الجياد الصافنات (١٩)، ومتون النوق الكريمات، وتوجهوا نحو شاطئ البحر …
فلما غمسوا أقدام رواحلهم في الماء؛ رفع القائد التقي النقي المؤمن كفيه إلى السماء، وقال لجنده: رددوا معي …
ثم قال: " … يا أرحم الراحمين؛ يا صمد يا قوي؛ يا حي يا قيوم …
لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك …
عليك توكلنا، وبقدرتك استعنا …
وبطولك (٢٠) اعتصمنا … ".
ثم عبر البحر أمامهم، وأمرهم بالعبور وراءه … فتبعوه.
وكان الخليج يومئذ في أوان هدوئه وجزره.
فجعلت الخيل والإبل تسبح فوق مائه الساجي (٢١) كأنها تمشي على رملة دمثة (٢٢) … يغطيها قليل من الماء.
* * *
ولما بلغ الجيش شواطئ دارين … وثب الجند على البر؛ وثوب الأسود على فرائسها …
وجردوا سيوفهم البتارة (٢٣) من أغمادها (٢٤) …
ومضوا يحصدون رؤوس أعداء الله حصدا.
وذهل (٢٥) المرتدون عن أنفسهم وعما حولهم، ودهشوا لهول المفاجأة المرعبة، وحاروا في أمر هؤلاء القوم …
فما يدرون أهبطوا عليهم من السماء أم نبعوا لهم من الأرض؟!.
إذ لم يكن في وسعهم أن يتصوروا - مجرد تصور - أنهم جاؤوهم من البحر.
* * *
وفي يوم وليلة؛ طهر العلاء وجنده الجزيرة من المرتدين؛ شبرا شبرا وذراعا ذراعا …
ومسحوها من الشاطئ إلى الشاطئ جيئة وذهابا …
وذلك؛ بعد أن قتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء، وأحرزوا الأموال والأنعام.
ثم قسم القائد المظفر الغنائم بين جنوده؛ فأصاب كل فارس ألفين.
ولم يفقد المسلمون في عبورهم البحر رجلا، ولا حصانا، ولا جملا … سوى عليقة فرس لرجل من المسلمين؛ فرجع العلاء إليها بنفسه وأعادها لصاحبها …
* * *
هذا؛ ولقد مر الجيش المؤمن في بعض طريقه براهب من نصارى هجر؛ فاستأذن الراهب العلاء بن الحضرمي في أن يصحبهم، ويحتمي بهم فأذن له.
فلما انتهت رحلة الجيش الظافر إلى ما انتهت إليه من جهد وجهاد، ونصر مؤزر …
وما وقع له في أثنائها من أهوال وأحداث، وما أسبغه الله عليه من عون وفضل.
اهتزت مشاعر الراهب الخامدة، واستيقظ إيمانه الغافي …
فأعلن إسلامه أمام الجيش وقائده.
ولما عاد إلى قومه؛ قالوا له:
ويحك! ما الذي حملك على أن تترك دينك؟! …
وتعتنق الإسلام.
فقال: ثلاثة أمور …
ولقد خشيت أن يمسخني (٢٦) الله بعدها إذا أنا لم أسلم.
فقالوا: وما هي؟.
فقال: ما سمعته من دعائهم في السحر …
وفيضان الماء لهم في رمال الصحراء التي لا ماء فيها ولا شجر …
وتذليل أمواج البحر تحت أقدامهم.
فأيقنت بأنهم لم يعانوا بالملائكة؛ إلا وهم على حق …
وأنهم على حق.
* * *
نضر الله وجه العلاء بن الحضرمي.
فقد عاش مجاهدا بلسانه …
وسنانه …
وسيظل على الأيام أول قائد مسلم ركب متون البحار …
إعلاء لكلمة الله في الأرض (*).
_________
(١) جزيرة دارين: تقع في شرق المملكة العربية السعودية وهي من أهم وأقدم الموانئ في الخليج العربي.
(٢) أعنتها: جمع عنان؛ وهو لجام الخيل، والمقصود: تركوا أنفسهم لهواها.
(٣) أخلدوا: ركنوا وأقاموا مطمئنين.
(٤) المهاد: الفراش.
(٥) متون: ظهور.
(٦) المعتصمين: المحتمين.
(٧) اللائذين: المحتمين.
(٨) الغدير: مجتمع الماء.
(٩) النمير: العذب.
(١٠) القفار: الأراضي الجرداء.
(١١) الفيافي: الصحاري الواسعة.
(١٢) تحفها: تحيط بها.
(١٣) مواطئ أقدامكم: مواضع أقدامكم.
(١٤) مخبتين: متخشعين.
(١٥) اليم: البحر.
(١٦) الكماة: مفردها كمي وهو البطل الشجاع.
(١٧) الأشاوس: جمع الأشوس: وهو البطل المغوار الجريء؛ على القتال الشديد.
(١٨) صهوات: مفردها صهوة، وهي مقعد الفارس من الفرس.
(١٩) الجياد الصافنات: الجياد التي تقف على ثلاث وترفع الرابعة، وهي صفة من صفات الجياد الكريمة.
(٢٠) الطول: القوة والغنى.
(٢١) الساجي: الساكن.
(٢٢) دمثة: سهلة منبسطة.
(٢٣) البتارة: القاطعة.
(٢٤) أغمادها: جمع غمد؛ وهو جفن السيف.
(٢٥) ذهل: نسي وسلا.
(٢٦) يمسخني: يحولني إلى صورة أخرى، ويشوهني.
مختارات