الموعظـة الأولـى
الموعظة الأولى
نحن في زمن وصفه الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله: «اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر؛ من ظلم الفجرة- أي ظلمهم لأنفسهم بالذنوب وظلمهم للناس- وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار، وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة – أي الذنوب والمعاصي – والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا – والله – منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤْذِن بليلٍ قد ادْلَهَمَّ ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة، وبابها مفتوح»(كتاب الفوائد لابن القيم).
وفي زمن كهذا الزمن، يقسو القليب، ويضعف الإيمان، ويقلُّ النصير على الخير، ويفتقد الجليس الناصح، ويعزُّ ويندر الأخ الصالح، ويبدأ الفتور والوهن يتسرب إلى القلب، وتبدأ بوادر السقوط والتخاذل تظهر على السطح، وهنا تقع الكارثة التي إن لم تتدارك، فستنتهي بالمرء إلى الانتكاس، والانحراف عن درب الهداية والصلاح والالتزام والاستقامة.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: «بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة!! وقد صرح بهذا ابن عمر رضي الله عنهما فقال: والله لا ينال أحد من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عنده كريمًا» (كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي.).
فالسعيد من اقتنع بالبلغة «أي الكفاف»؛ فإن الزمان أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا، اللهم إلا أن يكون متورعًا في كسبه، معينًا لنفسه عن الطمع، قاصدًا إعانة أهل الخير، والصدقة على المحتاجين، فكسب هذا أصلح من بطالته!!
وقد لقي العبد الصالح عبد الواحد بن زيد رحمه الله أخاه عتبة الغلام رحمه الله ذات يوم في يوم شات شديد البرد فإذا هو يتصبب عرقًا!! فيسأله عبد الواحد: ما شأنك؟!! مالك تعرق في مثل هذا اليوم؟! فاعتذر عتبة وقال: خيرٌ!! فألح عبد الواحد في المسألة وقال: لتخبرني!! واستحلفه، فقال عتبة: إني والله ذكرت ذنبًا أصبته في هذا المكان قبل سنين؛ فهذا الذي رأيت من أجل ذلك (كتاب حلية الأولياء – لأبي نعيم الأصفهاني)!!
فيا أيها الأخ الحبيب: متى تظهر عليك سيما المتقين؟! متى تترقى إلى مقام السابقين؟ متى ستسير على درب الصالحين؟ متى سترحل عن جحيم المذنبين؟ متى ستنيخ ركائبك مع بوادي التائبين؟ متى ستقوم في الليل مع المتهجدين؟ متى ستقرع بدموعك أبواب أرحم الراحمين؟ (كتاب التبصرة لابن الجوزي).
مختارات