في رحاب قال تعالى: [وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون] (1)
المُخَيْخُ
إنه موضوع قلَّما يخطر في بال إنسان، موضوع المُخيخ.
لو نظرتم إلى المخيخ لرأيتم كومة من الخيوط، لا يزيد وزنها على مئة وخمسين غراما، ولكن لها دورٌ خطير في حياتنا، إلى درجة تفوق حد الخيال، وقد عرف العلماء وظيفته من خلال بعض التجارب، فَسَمَّوْهُ مركز توافق وانسجام حركات البدن، ولا يتداخل المخيخ في الأعمال الذهنية، لأن هذا من اختصاص قشرة المخِّ.
لو أن المخ أعطى أمراً بإدارة قرص الهاتف، أو بفتح باب سيارة، أو إدارة، من الذي يحدد مقدار الجهد الذي يحتاجه هذا العمل؟إنه المخيخ، كيف أن المهندس المعماري يرسم البناء، وكيف أن المهندس المدني يجري الحسابات الدقيقة؛ حسابات الاسمنت، وحسابات الحديد، وقُطرِ الدعائم، كذلك المخيخ جهاز معقداً جداً، يحسب للمخ الحسابات الدقيقة، لتنفيذ الأعمال التي يأمر بها، فإن المخيخ هو مركز توافق وانسجام حركات البدن، فعندما تقف على قدميك فهذه نعمة، وكثير من الناس لا يقدرونها.
قال بعض العلماء: إن الوقوف على قدميك حركة بهلوانية عجيبة، كيف؟ هناك جهاز في باطن الأذن اسمه جهاز التوازن، فيه قنوات ثلاث نصف دائرية، تمثل اتجاهات الفراغات، فيها سائل، وفيها جسيمات، تتحسّس بحركة السائل، هذا الجهاز يعطي المخيخ وضع الجسم، أهو قائمٌ، أم مائلٌ؟ أهو جالس، أم نائمٌ؟ وكذلك الأعصاب، والعضلات، والمفاصل، والعظام تخبر المخيخ بأحوالها، وأوضاعها، فيأتي المخيخ، ويجعل من هذه المعلومات، ومن هذه الحركات كلاً منسجماً؛لذلك قال العلماء: إنّ الوقوف البسيط يعدّ حركة بهلوانية عجيبة، بدليل أن الميت لا يمكن أن يقف على قدميه، فوقوف الإنسان تسهم فيه مجموعة عجيبة من الأجهزة، أن تقف على قدميك، وأن تسير وأن تنحني، وأن تقعد، وأن تقف، وأن تجلس، وأن تميل يمنةً ويسرةً، هذه أعمال بالغة التعقيد.
لو أنّنا خربنا جزءاً من المخيخ لا يزيد على حبة العدس من مخ الطائر لسقط فوراً، ولما استطاع أن يطير، لو خرَّبنا جزءاً من المخيخ لا يزيد على حبة العدس لما استطاع الإنسان أن يقف على قدمين أبداً، بل يقع، لذلك يعرف الأطباء أن هناك خللاً في المخيخ من طريقة مشي المريض، إنه يباعد بين رجليه، ليوسّع سطح استناده، يقال للمريض في مخيخه: ضع رأس أصبعك على أنفك، فلا يستطيع، وتضطرب حركته، قال العلماء: هذا اسمه رجفان قصدي وهو مريض يصيب الإنسان، بسبب خلل في مخيخه، تعطيه فنجان قهوة مثلاً فترجف يده عند إمساكه، إن هناك خللاً في مركز تنسيق التوازن في حركات الجسم.
لو أننا خرّبنا جزءاً من المخيخ لاضطربت الرؤية، ولما استطاع الإنسان أن يركز بؤبؤ عينه على سطر ليقرأه، هذا مرض سماه العلماء الرأرأة، ولو أننا خربنا جزءاّ من المخيخ لا يزيد على حبّة عدس لاضطرب مشي الإنسان ولأصيب بحالة اسمها الترنح، يمشي كمشية السكران، لو خربنا جزءاّ يسيراّ من المخيخ لاضطرب جهاز النطق، ولأصيب المتكلم بالفأفأة، والتأتأة، والحسبة، وما إلى ذلك، من منا يقدر هذا الجهاز الخطير، الذي يقبع في الجمجمة، سمّاه العلماء المخيخ، لا يزيد وزنه على مئة وثلاثة وأربعين غراماً،كخيوطٍ مشتبكةٍ، هو الذي ينسِّقُ، ويحسب المقدار الدقيق المطلوب من الجهد حينما تقلب صفحة في كتاب،وحينما تقلب كيساً مملوءاً، وزنه خمسون كيلو غراماً،فهل هذا الجهد كهذا الجهد؟ لقد أعطى الدماغ أمراً بقلب هذا الكيس،أوقلب هذه الصفحة، من الذي يحدد بالضبط أن قلب الصفحة يحتاج إلى جهد لا يزيد على غرامات، في حين أن قلب كيس السكر يحتاج إلى جهد كبير؟ كأن الدماغ مهندسٌ معماريٌ، وكأن المخيخ مهندسٌ مدنيٌ، يحسب الأمتار، وحاجات البناء، من الإسمنت، والحديد، ومساحات الدعائم، وما إلى ذلك.
آيات كبيرة في داخل الإنسان، تُعْجِزُ ذوي الألباب، قال تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون﴾ [الذاريات:21].
أن تمشي في الطريق، هل تعرف أن هذه نعمة، لو فقدتها لعرفت قيمتها؟ أن تمشي على قدميك، أن تقف، أن تجلس، أن تنحني، أن تصلي، أن تركع، أن تسجد، أن تقعد القعود الأخير، إن هذه الحركات حركات بالغة التعقيد، ولولا المخيخ لما أمكنك أن تقف، ولا أن تجلس، ولا أن تميل، ولا أن تقعد، ولا أن تضطجع، ولا أن تتكلم، ولا أن تنظر، كل هذه النشاطات الحركية تفقدها لأن المخيخ مركز تنسيق وانسجام حركات البدن بشتى أنواعها، قال تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون﴾ [الذاريات:21].
لولا المخيخ لما أمكنك أن تركب الدراجة، لأنه بمجرد أن تميل مسافة يسيرة، يأتي الأمر من الدماغ بتعديل حركة المقود، ليستعيد التوازن، هذه من آيات الله الكبرى.
وقد قال بعض العلماء: إن الدماغ أعظم كائن على وجه الأرض، وهو مسؤول عن الحركات الذهنية ؛ عن التفكير، عن المحاكمة،وأمّا المخيخ فهو مسؤول عن الحركات العضلية.
ثبات خلايا الدماغ
إن ثبات شخصية الإنسان نعمة لاتقدر بثمن، وقلَّ من ينتبه إليها، ذلك أن خلايا الجسم، الخلايا العظمية، والنسج، والعضلات، والأجهزة حتى الشعر، وأية خلية في الجسم تتبدل من خمس إلى سبع سنوات، فأنت بعد سبع سنوات إنسان آخر، ليس في جسمك خلية واحدة قديمة، فعظمك يتبدل، وشعرك يتبدل، وأقصر عمر خلية في جسم الإنسان خلية بطانة الأمعاء، الزغابات تتبدل كل ثمان وأربعين ساعة، أي كل ثمان وأربعين ساعة هناك زغابات جديدة، وأطول هذه الخلايا تعيش سبع سنوات، أو خمس سنوات، معنى ذلك أنك تتبدل تبدلاً جذرياً كل سبع سنين على أرجح الأقوال، فإذا تبدل دماغك نسيت اختصاصك، ونسيت حرفتك، ونسيت معارفك، ونسيت أولادك، ونسيت خبراتك، ونسيت ذكرياتك، ونسيت سبب رزقك، ولا تعرف من هي زوجتك، ولا من هم أولادك، فلحكمة بالغةٍ بَالغةٍ لا تتبدل خلايا الدماغ، لأنها لو تبدلت لكانت مصيبة كبرى، ويقول الإنسان عندها: والله كنت طبيباً ففقدت اختصاصي، وكنت مهندساً، وكنت خطيباً، كنت تاجراً، لو أن هذا التبدّل يقع في الدماغ لذهبت شخصية الإنسان، هناك نعم لا تعد ولا تحصى، نحن عنها غافلون، قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف:105]،وقال: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾
[يوسف:106].
المصدر: كتاب آيات الله في الإنسان: د. محمد راتب النابلسي.
مختارات