شرح دعاء "ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير "
رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[([1]).
هذا الدعاء النافع جاء ذكره في كتاب اللَّه العزيز الحكيم من دعاء المؤمنين في يوم القيامة حين ينطفئ نور المنافقين، والعياذ باللَّه، فقد صحّ عن مجاهد رحمه اللَّه في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾([2])، قال: (قول المؤمنين حين يطفأ نور المنافقين)([3]).
كما في الآية نفسها من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾([4]).
وهذا النور أحد العلامات التي يَعرِف بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته، قال صلى الله عليه وسلم (أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِالسُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُنْظِرُ بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ)، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ؟ مَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: (غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، ولَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمُ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ)([5]).
السعي: المشي السريع، نورهم: أي نور إيمانهم، وطاعتهم على الصراط.
﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾: أي يضيء قدّامهم.
﴿وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾: أي وعن أيمانهم، وشمالهم على وجه الإضمار، يعني جهة أيمانهم وشمالهم([6]).
يقولون: أي يقول المؤمنون إذا طفئ نور المنافقين إشفاقاً وخوفاً.
﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾: المراد بالإتمام المداومة والاستمرارية إلى أن يصلوا إلى دار السلام، جاء عن الضحاك: (ليس أحد إلا يُعطَى نوراً يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين فلما رأى المؤمنون ذلك أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفأ نور المنافقين)([7]).
قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه اللَّه: (حين يسعى المؤمنون يوم القيامة بنور إيمانهم، ويمشون بضيائه، ويتمتعون بروحه وراحته، ويشفقون إذا طفئت الأنوار، التي تعطى المنافقين، ويسألون اللَّه تعالى أن يُتمِّمَ لهم نورهم، فيستجيب اللَّه دعوتهم، ويوصلهم بما معهم من النور واليقين، إلى جنات النعيم، وجوار الرب الكريم، وكل هذا من آثار التوبة النصوح)([8]).
﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: علَّلوا بسؤالهم أنك يا ربنا ما سألناك بهذه المطالب إلا لأنك على كل شيء قدير، فلا يعجزك شيء، فأتمم لنا هذا الخير، وأدمه إلى أن نصل إلى موعودنا دار السلام.
وهذا النور يا عبد اللَّه على قدر نور أعمالك في الدنيا، فالجزاء من جنس العمل، فقد جاء عن عبد اللَّه بن مسعودرضى الله عنه عن قوله تعالى: ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾: (قَالَ: يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ النَّخْلَةِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِهِ يُطْفَأَ مَرَّةً، وَيُوقَدُ أُخْرَى)([9])، وهذا الخبر حكمه حكم المرفوع، أي من قول المصطفىصلى الله عليه وسلم لأنه من أمور الغيب التي لا تعلم إلا بخبر من الشارع.
والعبد يسأل اللَّه عز وجل أن يتم نوره، ويسبغه عليه في الدنيا حتى يتم له كمال النور على الصراط يوم القيامة، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه تبارك وتعالى أن يرزقه نوراً في كل أجزاء جسده الشريف؛ ليكمل له العلم، والمعارف، والهدى، ولنا في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة([10]): (اللهُمَ اجعَل فِي قَلبِي نُوراً وفِي سَمعي نُوراً وعَن يَمينِي نُوراً وعن يَسارِي نُوراً وفَوقِي نُوراً وتَحتِي نُوراً وأَمامِي نُوراً وخَلفِي نُوراً وأَعظِم لِي نُوراً)، قال كُرَيب: وسَبعاً فِي التَابُوت فَلقيتُ رَجلاً مِن ولَدِ العَباس فَحدَّثنِي بِهنَّ فذكر: (عَصبِي ولَحمِي ودَمِي وشَعَرِي وبَشَرِي...وزِدنِي نُوراً وزِدنِي نُوراً وزِدنِي نُوراً)([11]).
الفوائد:
1- أهمية سؤال اللَّه تعالى بهذه الدعوة، فإن فيها سؤالين من أجلّ المطالب في الدين والدنيا والآخرة:
أ – إتمام النور: أي إسباغه الذي من آثاره العلم، والهدى، والإيمان؛ لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه كما تقدم في ذهابه إلى الصلاة، وفي سجوده، وقيامه بالليل، بل سأل اللَّه تعالى في سياق البسط والتطويل أن يرزقه نوراً عظيماً، كما أفاد (التنوين) في كل أجزاء جسده الطاهر، فمن رزق هذا النور في الدنيا، فإنه سوف يكمل له هذا النور في الآخرة.
ب – سؤال اللَّه تعالى المغفرة للذنوب، وهذا فيه الوقاية من كل الشرور و من أعظمها النار و العياذ باللَّه.
2 – أن كل الخلق مفتقرون، حتى الأنبياء، إلى هذين المطلبين في الدنيا و الآخرة.
3 – أن التوسل باسمه تعالى (القدير) مناسب في أي سؤال، ومطلوب.
4 – أن من أعظم ثمرات التوبة النصوح: الفلاح، والنجاح، والأمان إلى دار السلام.
5 – فضل الدعاء،وعظم شأنه، وأن منافعه تعود على الداعي بالخير في الدنيا والآخرة، فلا غنى للخلق عنه مهما كانت رتبهم، وعلو منازلهم.
([1]) سورة التحريم، الآية: 8.
([2]) سورة التحريم، الآية: 9.
([3]) تفسير مجاهد، 4/ 403، وتفسير الطبري، 23/ 496، وصحح إسناده في التفسير الصحيح، 4/ 511.
([4]) سورة التحريم، الآية: 9.
([5]) أخرجه أحمد، 36/ 64، برقم 21737-21739، والبيهقي في شعب الإيمان، 4/ 262، والبزار، 2/ 116، والطبراني في الأوسط، 3/ 304، والحاكم، 2/ 520، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 43، برقم 180.
([6]) تنوير الأذهان من تفسير روح البيان للبروسوي، 4/ 375.
([7]) تفسير ابن كثير، 4/ 405، ورواية الطبري في تفسيره 23 / 496 عن الحسن: (ليس أحد إلا يُعطى نورًا يوم القيامة، يعطى المؤمن والمنافق، فيطفأ نور المنافق، فيخشى المؤمن أن يطفأ نوره)، ورواية الحاكم في المستدرك وصححها، 2 / 538: (ليس أحد من الموحدين إلا يُعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق). وعزاه السيوطي في الدر المنثور، 14/ 593 للحاكم، والبيهقي في البعث،
([8]) تفسير ابن سعدي، ص 1036.
([9]) مصنف ابن أبي شيبة، 13/ 229، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 478، وتفسير ابن أبي حاتم، 10/ 3336، وتفسير الطبري، 23/ 179، وصححه الألباني في شرح العقيدة الطحاوية، ص 469، وبنحوه في معجم الطبراني الكبير، 9/ 357، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3591.
([10]) فقد ثبت عنه ﷺ أنه كان يدعو بها في سجوده، كما في سنن النسائي، كتاب التطبيق، باب الدعاء في السجود، برقم 1121، السنن الكبرى للنسائي، 1/ 237، ومصنف بن أبي شيبة، 10/ 221، والمعجم الكبير للطبراني، 11/ 318، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 363.
([11]) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل، برقم 6316، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 763، والأدب المفرد، وهذا لفظه، ص 242، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 254.
مختارات