فقه حب الدنيا - الجزء الثالث
إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله سبحانه حوائجه كلها.. وحمل عنه كل ما أهمه.. وفرّغ قلبه لمحبته.. واستعمل لسانه لذكره.. واستخدم جوارحه لطاعته.. وعمر أوقاته بامتثال أوامره.
وإن أصبح وأمسى والدنيا همه.. حمّله الله همومها وغمومها.. ووكله إلى نفسه.. فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق.. ولسانه عن ذكره بذكرهم.. وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وقضاء أشغالهم.. فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره.
والحياة الدنيا لعب ولهو حين تعاش لذاتها مقطوعة عن منهج الله فيها، والذي يجعلها مزرعة للآخرة، فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعباً ولهواً، ويطبعها بطابع الجد، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني إلى مستوى الخلافة الراشدة المتصلة بالملأ الأعلى كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)} [محمد: 36].
والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى زمانها الذي هو الليل والنهار، المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله جعلهما خِلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62].
وليس الذم راجعاً إلى مكان الدنيا، الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهاداً وسكناً ومعاشاً وفراشاً.
وليس الذم راجعاً إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار، والزروع والأشجار، والمعادن والبهائم، فهذه كلها خلقها الله لمنافع العباد.
وليس الذم راجعاً إلى ما في الدنيا من تغير الأحوال من حر وبرد، وصيف وشتاء، وليل ونهار، ونور وظلام.
فذلك كله نعمة من نعم الله على عباده، ينتفعون به، ويعتبرون به، ويستدلون به على وحدانية الله وقدرته.
وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة على غير منهج الله ورسوله من كفر وشرك، وبدع وضلال، وسرقة وظلم، وقتل وفساد ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا رسوله.
فالدنيا لها حالتان:
تارة تكون فتنة تلهي صاحبها عن الله والدار الآخرة فهي مذمومة.
وتارة تكون زاداً إلى الآخرة، وعوناً للإنسان للاستقامة على الدين، فهي بهذا نعمة محمودة، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.
والإنسان محتاج إلى الدنيا فهي مطية الآخرة، ومحتاج إلى الدين لتكون حياته طيبة، وكما يحتاج الإنسان إلى ركوب السفينة حينما يدخل البحر، فيركب مدة يسيرة لينجو من الأمواج ثم يصل إلى الساحل.
وهكذا المسلم يحتاج إلى الدين ما دام حياً، فيؤمن بالله، ويمتثل أوامره مدة يسيرة لينجو من الغرق في بحر الكفر والشهوات، والشبهات والكبائر، والمحرمات والمكروهات، ويستمر على ذلك حتى يصل إلى الآخرة بسلام.
فبقاء الإنسان في الحياة بسيط، كأنه راكب سفينة من الساحل إلى الساحل الآخر، كما قال سبحانه: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)} [الأعراف: 24].
والله حكيم عليم خلق الدنيا.. وزيَّنها.. وأسكننا فيها.. وحذرنا منها، وخلق الآخرة.. وزينها بكل شيء.. ودعانا إليها.. ورغَّبنا فيها كما قال سبحانه: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} [النساء: 77].
فالدنيا وقتها قصير، وأمرها حقير، وكبيرها صغير، وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال.
وغاية ذي الرياسة أن يكون كفرعون الذي أغرقه الله في اليم انتقاماً منه.
وغاية ذي المال أن يكون كقارون الذي خسف الله به الأرض لما آذى نبي الله موسى - صلى الله عليه وسلم -، وجحد فضل مَنْ رزقه.
ولو أن الدنيا وما فيها ألقيت في مُلْك واحد من أهل الجنة لا تساوي حلقة ترمى في ميدان كبير، ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
ومن الحمق أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معاً، وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة معاً، ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه، ويعيش كالحيوانات والدواب والشياطين.
بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان، قدم يدب على الأرض، وروح ترفّ في السماء، وكيان يتحرك وفق أمر الله في هذه الأرض: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [النساء: 134].
وقد نهى الله عزَّ وجلَّ نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يمد عينيه إلى ما متع به أهل الدنيا فيها؛ فتنة لهم واختباراً، وأخبره أن رزقه الذي أُعد له في الآخرة خير وأبقى من هذا الذي مُتعوا به فقال سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)}... [طه: 131].
وأخبر سبحانه أنه آتى رسوله - صلى الله عليه وسلم - السبع المثاني والقرآن العظيم، وذلك خير وأفضل مما متع به أهل الدنيا في دنياهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} [الحجر: 87 - 88].
وبناء الدنيا بالأموال والأشياء.. وبناء الآخرة بالإيمان والأعمال الصالحة.. ونعمت الدنيا التي تعين على طاعة الله.. ويعف بها الإنسان نفسه عن غيره.. ويواسي بها إخوانه المحتاجين.
وحب الدنيا رأس الخطايا ومفسد للدين من وجوه:
أحدها: أن الله لعنها وأبغضها ومقتها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض لغضبه ومقته ولعنته.
والثاني: أن حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقّر الله.
الثالث: أن العبد إذا أحب الدنيا صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال والطاقات التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة.
فهذا عَكَس الأمر، وقَلَب الحكمة، وتردى في السفول، وهذا الذي قال الله عنه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}... [هود: 15 - 16].
والدنيا في الحقيقة لا تذم لذاتها، وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها، وهي قنطرة أو معبر إلى الجنة أو إلى النار.
ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة، والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها، صار لها اسم الذم عند الإطلاق.
وإلا فالدنيا مبنى الآخرة ومزرعتها.. ومنها زاد الجنة.. وفيها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله.. ومحبة الله وذكره وابتغاء مرضاته.
وخير عيش يناله أهل الجنة في الجنة إنما كان بما زرعوه فيها.. وفيها مساجد أنبياء الله.. ومهبط وحيه.. وبيوت عبادته.. ومصلى ملائكته.. ومتجر أوليائه.. وفيها اكتسبوا رحمة الله.. وربحوا فيها العافية.. وفيها قرة العيون، وسرور القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح بذكر الله ومعرفته، وعبادته ومحبته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والأنس به، ولذة مناجاته، والإقبال عليه.. وفيها كلام الله ووحيه وهداه.
فالإيمان بالله، والطاعة لله ورسوله، وعبادة الله وحده لا شريك له، أفضل ما في هذه الدار، ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله جل جلاله، وسماع كلامه، والفوز برضاه، أفضل ما في الآخرة.
ففي الدنيا أفضل الأسباب، وفي الآخرة أفضل الغايات.
فهذا أفضل ما في هذه الدار.. وهذا أفضل ما في الدار الآخرة.
وقد بين الله عزَّ وجلَّ أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وأن الباقيات الصالحات وهي الأقوال والأعمال الصالحة التي يبقى ثوابها.. ويدوم جزاؤها.. خير ما يؤمله العبد ويرجو ثوابه كما قال سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف: 46].
وحذر الله عزَّ وجلَّ عباده أن تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، وأخبر أن من فعل ذلك فهو الخاسر حقيقة، لا من قَلَّ ماله وولده في الدنيا كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9].
فالأموال والأولاد وإن كانت نعمة من الله فهي فتنة كذلك، لا تقرب الخلق إلى الله، وإنما يقربهم إليه تقوى الله وطاعته كما قال سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37].
ولما كانت تلك أحوال الدنيا الفانية.. وتلك أحوال الدار الآخرة الباقية، فقد حذر الله عباده من آفات هذه الدار الدنيا بقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}... [يونس: 24].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
اللهم ر بنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا.. ولا مبلغ علمنا.. ولا إلى النار مصيرنا.. واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.
مختارات