أعلام أئمة المحدثين : الإمام أحمد بن حنبل
ولد في ربيع الأول سنة 164 هـ، وتوفي عظم الله أجره ورفع الله ذكره يوم الجمعة سنة 241 هـ
ـ قالوا عن نسبه رحمة الله عليه:
هو الإمام الفقيه المحدث الحافظ أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف الذهلي الشيباني المروزي البغدادي ونسبته التي ينبغي أن يلقب بها: أحمد بن حنبل الذهلي حدث ابن أبي حاتم الوراق عن أبي زرعة الرازي قال:
«إن أحمد أصله بصري»
ـ نبذة عن نشأته وزوجاته وآل بيته رحمة الله عليه:
روى أبو بكر الخلال في كتابه «أخلاق أحمد» عن زهير بن صالح قال:
«تزوج جدي عباسة بنت الفضل، فلم يولد له منها غير أبي»
كان محمد والد الإمام أحمد بن حنبل من أجناد مرو، مات شابا له نحو من ثلاثين سنة؛ فنشأ الإمام أحمد يتيما فوليته أمه، وقيل إن أمه تحولت من مرو وهي حامل به قال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروذي أن أبا عبد الله رحمه الله قال: «ما تزوجت إلا بعد الأربعين»
قال ابن عمه حنبل بن إسحاق بن حنبل: سمعت أبا عبد الله رحمه الله يقول: «تزوجت وأنا ابن أربعين سنة؛ فرزق الله خيرا كثيرا»
قال أبو بكر الخلال: سمعت أبا بكر المروذي عن أبي عبد الله رحمه الله أنه ذكر أهله فترحم عليها رحمة الله عليه ثم قال:
«مكثنا عشرين سنة؛ ما اختلفنا في كلمة» وقال زهير: «لما توفيت أم عبد الله؛ اشترى جدي «حسن»، فولدت له زينب، والحسن والحسين توأما، وماتا بالقرب من ولادتهما، ثم ولدت الحسن ومحمدا، فعاشا نحو الأربعين، ثم ولدت بعدهما سعيدا» حدث أبو بكر الخلال قال: حدثنا محمد بن علي بن بحر قال: «سمعت حسن أم ولد أبي عبد الله تقول: قلت لمولاي: اصرف فرد خلخالي؛ قال عظم الله أجره: وتطيب نفسك؟
قلت: نعم؛ فبيع بثمانية دنانير ونصف، وفرقها وقت حملي؛ وكان إذا لم يكن عنده شيء، فرح يومه، وقال يوما: أريد أحتجم، وما معه شيء، فبعت نصيفا من غزل بأربعة دراهم، فاشتريت لحما بنصف، وأعطى الحجام درهما؛ قالت: واشتريت طيبا بدرهم، ولما خرج إلى سر من رأى، كنت قد غزلت غزلا لينا، وعملت ثوبا سنا، فلما قدم، أخرجته إليه، وكنت قد أعطيت كراءه خمسة عشر درهما من الغلة، فلما نظر إليه قال: ما أريده؛ قلت: يا مولاي؛ عندي غير هذا؛ فدفعت الثوب إلى فوران [من تلامذة أحمد]، فباعه باثنين وأربعين درهما، وغزلت ثوبا كبيرا فقال: لا تقطعيه، دعيه؛ فكان كفنه عظم الله أجره» وكان صالح أكبر ولد الإمام أحمد؛ فولي قضاء أصبهان، ومات بها سنة خمس وستين ومائتين، عن نيف وستين سنة
قال أبو وليد الطيالسي وجماعة من كبار المحدثين:
«وخلف ضمن ما خلف ابنا محدثا ثقة يقال له زهير بن صالح، مات سنة ثلاث وثلاثمائة»
وأما الولد الثاني: فالحافظ أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد، راوية أبيه، من كبار الأئمة، مات سنة تسعين ومائتين، عن سبع وسبعين سنة، وله ترجمة أفردتها 0
وأما الولد الثالث: فهو سعيد بن أحمد، ولد لأحمد رحمة الله عليه قبل موته بخمسين يوما، فكبر وتفقه ومات قبل أخيه عبد الله، وأما حسن ومحمد وزينب؛ فلم يبلغنا شيء من أحوالهم
قال ابنه عبد الله رحمة الله عليه وعلى والديه:
«مكث أبي بالعسكر ستة عشر يوما، ورأيت مآقيه دخلتا في حدقتيه» ـ شيء عن أحواله رحمة الله عليه في بيته:
قال أبو بكر المروذي:
«رأيت أبا عبد الله عامة جلوسه في البيت متربعا خاشعا، وكنت أدخل والجزء في يده يقرأ»
ـ قالوا عن صفاته الشكلية رحمة الله عليه:
قال ابن ذريح العكبري:
«طلبت أحمد بن حنبل رحمه الله فسلمت عليه وكان شيخا مخضوبا، طوالا أسمر شديد السمرة» قال عنه محمد بن عباس النحوي: «رأيت أحمد بن حنبل رحمة الله عليه حسن الوجه، ربعة [أي وسطا]، يخضب بالحناء خضابا ليس بالقاني [أي ليس بالشديد الحمرة]، في لحيته شعرات سود، ورأيت ثيابه غلاظا بيضا، ورأيته معتما وعليه إزار»
ـ شيء عن ملبسه رحمة الله عليه:
قال عبد الملك الميموني: «ما رأيت عمامة أبي عبد الله قط إلا تحت ذقنه، ورأيته يكره غير ذلك»
قال عبد الملك الميموني: «ما رأيت ثوبا أنقى ولا أشد بياضا من ثوب أحمد»
ـ بعض شمائله رحمة الله عليه:
قال أبو بكر المروذي رحمة الله عليه:
«كان أبو عبد الله رحمه الله شديد الحياء، كريم الأخلاق، يعجبه السخاء»
وقال عبد الملك الميموني: «كان أبو عبد الله رحمه الله حسن الخلق، دائم البشر، يحتمل الأذى من الجار»
حدث ابن المنادي عن جده أبي جعفر قال: «كان أحمد من أحيى الناس وأكرمهم وأحسنهم عشرة وأدبا، كثير الإطراق، لا يسمع منه إلا المذاكرة للحديث، وذكر الصالحين في وقار وسكون، ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه» قال أبو بكر الخلال: حدثنا محمد بن الحسين أن أبا بكر المروذي قال: «كان أبو عبد الله رحمه الله لا يجهل، وإن جهل عليه حلم واحتمل ويقول: يكفي الله، ولم يكن بالحقود ولا العجول، كثير التواضع، حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ، وكان يحب في الله ويبغض في الله، وإذا كان أمر من الدين اشتد له غضبه، وكان يحتمل الأذى من الجيران» حدث حنبل عن الإمام أحمد أنه سئل عن أحد أصحاب الأهواء والمذاهب الخبيثة؟
فأخبر بمذهبه وحذر منه؛ فاندفع رجل يقال له محمد بن سعيد الختلي على الإمام أحمد فقال:
والله لأردنك إلى محبسك ولأدقن أضلاعك في كلام كثير؛ فقال لي أبو عبد الله عظم الله أجره: لا تكلمه ولا تجبه، وأخذ أبو عبد الله نعليه وقام فدخل وقال: مر السكان أن لا يكلموه ولا يردوا عليه؛ فما زال يصيح، ثم خرج، فلما كان بعد ذلك ذهب هذا الختلي إلى شعيب قاضي بغداد؛ فقال له: يا عدو الله؛ وثبت على أحمد بالأمس، فنهره وطرده»
أبو بكر المروذي رحمة الله عليه:
«لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد، كان مائلا إليهم، مقصرا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا: لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر»
قال ابن بطة: سمعت النجاد يقول: سمعت أبا بكر بن المطوعي يقول:
اختلفت إلى أبي عبد الله ثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ «المسند» على أولاده، فما كتبت عنه حديثا واحدا، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه» عن الحسين بن إسماعيل عن أبيه قال: «كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت»
قال حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي: «يقال: لم يكن أحد من الصحابة أشبه هديا وسمتا ودلا من ابن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشبه الناس به علقمة، وكان أشبه الناس بعلقمة إبراهيم النخعي، وكان أشبههم بإبراهيم النخعي منصور بن المعتمر، وأشبه الناس به سفيان الثوري، وأشبه الناس به وكيع، وأشبه الناس بوكيع فيما قاله محمد بن يونس الجمال أحمد بن حنبل»
ـ وقاره ورزانته عظم الله أجره وكيف كان رجلا مهيبا:
قال عنه الإمام الذهبي رحمة الله عليه: «كان مهيبا في ذات الله، حتى لقال أبو عبيد:
ما هبت أحدا في مسألة؛ ما هبت أحمد بن حنبل» قال عبد الملك الميموني: قال لي أبو عبيد: «يا أبا الحسن؛ قد جالست أبا يوسف القاضي ومحمد بن الحسن، ويحيى بن سعيد القطان، ما هبت أحدا ما هبت أحمد بن حنبل»
حدث الكديمي قال: حدثنا علي بن المديني قال: قال لي أحمد بن حنبل رحمة الله عليه:
«إني لأشتهي أن أصحبك إلى مكة، وما يمنعني إلا خوف أن أملك أو تملني» وقال علوان بن الحسين: سمعت عبد الله بن أحمد رحمة الله عليه وعلى والديه قال:
«سئل أبي: لم لا تصحب الناس؟
قال: لوحشة الفراق» أي آوثر البعاد؛ ليبقى الوداد
قال أبو بكر المروذي: سمعت بعض الواسطيين يقول:
«ما رأيت يزيد بن هارون رحمة الله عليه ترك المزاح لأحد إلا لأحمد بن حنبل» قال أبو بكر الخلال: أخبرني محمد بن الحسين قال: أخبرنا أبو بكر المروذي قال:
«قال جارنا فلان: دخلت على إسحاق بن إبراهيم الأمير وفلان وفلان وذكر سلاطين؛ ما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل، سرت إليه أكلمه في شيء؛ فوقعت علي الرعدة من هيبته، ولقد طرقه الكلبي صاحب خبر السر ليلا؛ فمن هيبته لم يقرعوا، ودقوا باب عمه»
ـ رحلته في طلب العلم رحمة الله عليه:
طلب العلم رحمه الله وهو ابن خمس عشرة سنة، في العام الذي مات فيه مالك وحماد بن زيد
قال أبو بكر المروذي رحمه الله: قال الإمام أحمد رحمة الله عليه: «كنت أبكر في الحديث»
وقال ابنه عبد الله رحمه الله: سمعت أبي رحمة الله عليه يقول:
«ربما أردت البكور في الحديث؛ فتأخذ أمي بثوبي وتقول: حتى يؤذن المؤذن» أي للفجر قال أبو بكر المروذي رحمة الله عليه: قال لي أبو عبد الله أحمد بن حنبل عظم الله أجره:
«اختلفت إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة»
حدث أبو بكر المروذي قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عظم الله أجره يقول:
«مات هشيم ولي عشرون سنة، فخرجت وكنت أذاكر وكيعا بحديث الثوري، وكان ربما ذكر عشرة أحاديث فأحفظها؛ فإذا قام قالوا لي أملها علينا فأمليها عليهم»
حدث ابن أبي حاتم الوراق عن صالح بن الإمام أحمد بن حنبل عن أبيه عظم الله أجره أنه قال:
«قدم ابن المبارك في سنة تسع وسبعين؛ وفيها أول سماعي من هشيم، فذهبت إلى مجلس ابن المبارك فقالوا: قد خرج إلى طرسوس، وكتبت عن هشيم أكثر من ثلاثة آلاف، ثم مات هشيم وأنا ابن عشرين سنة، أحفظ ما سمعت منه، فخرجت إلى الكوفة سنة ثلاث وثمانين، وأول رحلاتي إلى البصرة كانت سنة ست وسبعين، وخرجت إلى سفيان بن عيينة سنة سبع، فقدمنا وقد مات الفضيل بن عياض رحمة الله عليه، وحججت خمس حجج، منها ثلاث راجلا، أنفقت في إحداها ثلاثين درهما، ولو كان عندي خمسون درهما، لخرجت إلى جرير بالري، وكتبت عن إبراهيم بن سعد في ألواح، وصليت خلفه غير مرة، فكان يسلم واحدة» قال عباس الدوري رحمه الله: سمعت الإمام أحمد عظم الله أجره يقول:
«أول ما طلبت: اختلفت إلى أبي يوسف القاضي» 00 صاحب أبي حنيفة
قال ابنه عبد الله رحمه الله:
كتب أبي عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن الكتب، وكان يحفظها»
قال الإمام أحمد بن حنبل عظم الله أجره: «كتبنا عن عبد الرحمن بن مهدي نحو عشرة آلاف، وكتبنا حديث غندر على الوجه؛ أعطانا الكتب فكنا ننسخ منها»
قال أحمد الدورقي: لما قدم أحمد بن حنبل من عند عبد الرزاق؛ رأيت به شحوبا بمكة، وقد تبين عليه النصب والتعب، فكلمته فقال: هين فيما استفدنا من عبد الرزاق»
ـ قالوا عن تدوينه عظم الله أجره للحديث النبوي:
حدث أحمد الدورقي عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل عظم الله أجره قال: «نحن كتبنا الحديث من ستة وجوه وسبعة لم نضبطه، فكيف يضبطه من كتبه من وجه واحد؟
قال أبو زرعة الرازي رحمة الله عليه:
«حزرت كتب أحمد بن حنبل يوم مات رحمة الله عليه؛ فبلغت اثني عشر حملا وعدلا»
ـ أشهر شيوخه:
سمع من إبراهيم بن سعد قليلا، ومن هشيم بن بشير فأكثر وجود، ووكيع فأكثر عنه، وغندر، ويحيى بن سعيد القطان فبالغ، وعبد الرحمن بن مهدي، وقتيبة بن سعيد، وعلي بن المديني، وأبي بكر بن أبي شيبة، وجماعة أقرانه، ومعتمر بن سليمان التيمي، وسفيان بن عيينة الهلالي، والقاضي أبي يوسف، ويوسف بن الماجشون، وخالد بن الحارث، وحسين بن علي الجعفي، وأبي بكر بن عياش، وأبي خالد الأحمر، وعبيدة بن حميد الحذاء، وابن علية، وعبد الرزاق، ويزيد بن هارون، وعبد الله بن نمير، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأبي نعيم، ويحيى بن آدم، وعفان بن مسلم، وحفص بن غياث، وعبد الوهاب الثقفي، وأبي النضر، ومحمد بن فضيل، والوليد بن مسلم، ومخلد بن يزيد الحراني، ومن عباد بن عباد، وأبي عبد الرحمن المقرئ، ومحمد بن سلمة الحراني، وبشر بن المفضل، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وسليمان بن حرب، وعبدة بن سليمان، وخلائق قال الإمام الذهبي رحمة الله عليه: «روى الإمام أحمد في «مسنده» عن قتيبة كثيرا»
ـ أشهر تلامذته:
حدث عنه من شيوخه: عبد الرزاق، وعلي بن المديني، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن آدم، وعبد الرحمن بن مهدي، والإمام الشافعي، لكنه لم يسمه، بل كان يقول حدثني الثقة وحدث عنه من الأئمة البخاري ومسلم وأبو داود بجملة وافرة، والنسائي والترمذي وابن ماجة، وحدث عنه ولداه صالح وعبد الله، وابن عمه حنبل بن إسحاق، ويحيى بن معين، وعباس الدوري، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، وأحمد بن صالح، وإسحاق الكوسج، وأحمد بن الفرات، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وأبو قلابة الرقاشي، وأحمد بن علي الأبار، وأحمد بن منصور الرمادي، وموسى بن هارون، والحسين بن إسحاق التستري، وأمم سواهم
ـ قالوا عن حفظه رحمة الله عليه:
قال الإمام أبو زرعة الرازي: «كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث»
[من كتاب تهذيب الكمال]
قال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وعلى والديه قال: «قال لي أبو زرعة الرازي: أبوك يحفظ ألف ألف حديث؛ فقيل له: وما يدريك؟
قال: ذاكرته»
قال الحسين بن الحسن أبو معين الرازي: سمعت علي بن المديني عظم الله أجره يقول:
«ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد، بلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة»
قال ابن أبي حاتم الوراق: سألت أبي عن علي بن المديني وأحمد بن حنبل أيهما أحفظ؟
فقال رحمة الله عليه: كانا في الحفظ متقاربين، وكان أحمد أفقه، إذا رأيت من يحب أحمد؛ فاعلم أنه صاحب سنة»
قال ابن أبي حاتم الوراق: قال سعيد بن عمرو: يا أبا زرعة، أأنت أحفظ أم أحمد؟
قال عظم الله أجره: بل أحمد؛ قلت: كيف علمت؟
قال: وجدت كتبه، ليس في أوائل الأجزاء أسماء الذين حدثوه، فكان يحفظ كل جزء ممن سمعه، وأنا لا أقدر على هذا»
قال حسن بن منبه: سمعت أبا زرعة الرازي رحمة الله عليه يقول:
«أخرج إلي أبو عبد الله أجزاء كلها سفيان سفيان، ليس على حديث منها: حدثنا فلان، فظننتها عن رجل واحد، فانتخبت منها؛ فلما قرأ ذلك علي جعل يقول: حدثنا وكيع، ويحيى بن آدم، وحدثنا فلان؛ فعجبت، ولم أقدر أنا على هذا»
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي رحمة الله عليه يقول: «خالف وكيع ابن مهدي في نحو من ستين حديثا من حديث سفيان» أي الثوري
حدث أبو بكر المروذي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال لي أبي:
«خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت أن تخبرني بالإسناد حتى أخبرك أنا بالكلام» قال عمرو بن العباس: سمعت عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله ذكر أصحاب الحديث فقال: «أعلمهم بحديث سفيان الثوري: أحمد بن حنبل»
قال أبو بكر المروذي: قال لي أبو عبد الله رحمه الله: كنا عند يزيد بن هارون رحمة الله عليه، فوهم في شيء؛ فكلمته؛ فأخرج كتابه فوجده كما قلت؛ فغيره؛ فكان إذا جلس يقول: يا ابن حنبل؛ ادن، يا ابن حنبل؛ ادن ها هنا، ومرضت فعادني»
ـ قالوا عن معرفته بعلل الحديث وبصره بالرجال رحمة الله عليه:
قال أبو بكر الخلال: حدثنا محمد بن ياسين البلدي قال: سمعت ابن أبي أويس وقيل له:
«ذهب أصحاب الحديث؛ فقال: ما أبقى الله أحمد بن حنبل؛ فلم يذهب أصحاب الحديث»
وقال عمرو الناقد: «إذا وافقني أحمد بن حنبل على حديث؛ لا أبالي من خالفني»
ال إبراهيم بن شماس: سألنا وكيعا عن خارجة بن مصعب فقال:
«نهاني أحمد أن أحدث عنه» 00 قال هذا وهو من شيوخ أحمد
قال أبو يحيى الناقد: كنا عند إبراهيم بن عرعرة؛ فذكروا يعلى بن عاصم؛ فقال رجل:
«أحمد بن حنبل يضعفه؛ فقال رجل: وما يضره إذا كان ثقة؟
فقال ابن عرعرة: والله لو تكلم أحمد في علقمة والأسود لضرهما» حدث عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل عن أبيه رحمة الله عليه قال: «قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه: يا أبا عبد الله؛ إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا حتى نرجع إليه، أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا»
قال الإمام الذهبي رحمة الله عليه معلقا: «لم يحتج إلى أن يقول أو مصريا؛ لأنه كان أعلم بحديث مصر منه»
ـ قالوا عن سعة علمه رحمة الله عليه:
قال عنه إبراهيم الحربي: «رأيت أبا عبد الله كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين»
وقال آخر: «ما رأيت أحدا أعلم بفقه الحديث ومعانيه من أحمد»
وعن عبد الوهاب الوراق أنه قال: «لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدق بعضه بعضا؛ فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» قال عبد الوهاب الوراق: رددناه إلى أحمد بن حنبل رحمة الله عليه؛ وكان أعلم أهل زمانه»
ـ قالوا عن بصره بالتفسير رحمة الله عليه:
وقال أحمد بن سلمة: «سمعت إسحاق بن راهويه رحمة الله عليه يقول:
«كنت أجالس أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رحمة الله عليهما ونتذاكر؛ فأقول: ما فقهه؟
ما تفسيره؟
فيسكتون إلا أحمد»
ـ قالوا عن فقهه رحمة الله عليه: قال صالح بن محمد [جزرة]: «أفقه من أدركت في الحديث: أحمد بن حنبل رحمة الله عليه»
قال أبو بكر الخلال: «كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها، ثم لم يلتفت إليها»
حدث محمد بن الحسن بن علي قال: سمعت محمد بن إبراهيم البوشنجي وذكر أحمد بن حنبل رحمة الله عليه فقال: «هو عندي أفضل وأفقه من سفيان الثوري» قال محمد بن حماد الطهراني: سمعت أبا ثور الفقيه يقول:
«أحمد بن حنبل أفقه من سفيان الثوري»
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة الرازي أنه سئل رحمة الله عليه:
«اختيار أحمد وإسحاق أحب إليك أم قول الشافعي؟
قال: بل اختيار أحمد فإسحاق» حدث أبو بكر الخلال قال: حدثنا محمد بن علي قال: حدثنا الأثرم قال: حدثني بعض من كان مع أبي عبد الله أنهم كانوا يجتمعون عند يحيى بن آدم، فيتشاغلون عن الحديث بمناظرة أحمد يحيى بن آدم عظم الله أجرهما، ويرتفع الصوت بينهما، وكان يحيى بن آدم واحد أهل زمانه في الفقه»
ـ إحياؤه للسنة رحمة الله عليه: وقال قتيبة بن سعيد عظم الله أجره أيضا:
«لولا أحمد؛ لأحدثوا في الدين»
قيل لأبي مسهر الغساني: «تعرف من يحفظ على الأمة أمر دينها؟
قال رحمة الله عليه:
شاب في ناحية المشرق» [يعني أحمد بن حنبل عظم الله أجره]
قال علي بن خلف:
«سمعت الإمام الحميدي رحمة الله عليه يقول: ما دمت بالحجاز، وأحمد بالعراق، وإسحاق بن راهويه بخراسان: لا يغلبنا أحد» أي من أصحاب الأهواء: كالقدرية والجهمية والخوارج
ـ ثناء الأئمه عليه، رحمة الله عليه:
وقال قتيبة بن سعيد عظم الله أجره أيضا: «أحمد إمام الدنيا»
وقال قتيبة بن سعيد عظم الله أجره أيضا: «لولا الثوري لمات الورع، ولولا أحمد؛ لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا»
قال عنه الإمام عبد الرزاق:
«ما رأيت أحدا أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل» قال الإمام الذهبي معلقا:
«قال هذا؛ وقد رأى مثل الثوري ومالك وابن جريج»
وقال عنه حفص بن غياث رحمة الله عليه:
«ما قدم الكوفة مثل أحمد بن حنبل»
وقال عنه الحافظ الهيثم بن جميل:
«إن عاش أحمد؛ سيكون حجة على أهل زمانه»
وقال عنه أبو خيثمة: «ما رأيت مثل أحمد، ولا أشد منه قلبا» قال العباس بن محمد الخلال: حدثنا أبو بكر المروذي عن خضر المروذي بطرسوس قال: «سمعت إسحاق بن راهويه رحمة الله عليه قال: سمعت يحيى بن آدم يقول: أحمد بن حنبل إمامنا»
وقال عنه نصر بن علي الجهضمي: «أحمد: أفضل أهل زمانه»
قال عنه الأثرم: «ليس في شرق ولا غرب مثله» قال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروذي قال: سمعت عبد الوهاب الوارق يقول:
«أبو عبد الله إمامنا، وهو من الراسخين في العلم»
قال العباس بن محمد الخلال: حدثنا إبراهيم بن شماس قال: سمعت وكيعا وحفص بن غياث يقولان: ما قدم الكوفة مثل ذاك الفتى» يعنيان أحمد بن حنبل رحمة الله عليه
وقال علي بن خشرم: سمعت بشر بن الحارث يقول: «أنا أسأل عن أحمد بن حنبل؟ إن أحمد أدخل الكور، فخرج ذهبا أحمر»
وروي عن أبي عبد الله البوشنجي أنه قال:
«ما رأيت أجمع في كل شيء من أحمد بن حنبل ولا أعقل منه رحمة الله عليه»
قال صالح بن علي الحلبي: سمعت أبا همام السكوني يقول:
«ما رأيت مثل أحمد بن حنبل رحمة الله عليه» قال إبراهيم الحربي: «عالم وقته: سعيد بن المسيب في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه، وأحمد بن حنبل في زمانه»
وقال أبو عبيد: «إني لأتدين بذكر أحمد؛ ما رأيت رجلا أعلم بالسنة منه»
أي لأتعبد بذكره؛ لأنه لا يذكر اسمه إلا ذكرت السنة وذكر الزهد والورع
وقال قتيبة بن سعيد [أحد شيوخ الإمام البخاري رحمة الله عليه]: «خير أهل زماننا: ابن المبارك، ثم هذا الشاب: [يعني أحمد بن حنبل عظم الله أجره] وإذا رأيت رجلا يحب أحمد؛ فاعلم أنه صاحب سنة»
قال أبو علي بن شاذان: قال لي محمد بن عبد الله الشافعي: قال إبراهيم الحربي لعبد الله بن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وعلى والديه: والله لو رأى ابن عيينة أباك لقام إليه» حدث أحمد بن أبي الحواري عن الهيثم بن جميل عن شريك رحمة الله عليه أنه قال:
«لم يزل لكل قوم حجة في أهل زمانهم، وإن فضيل بن عياض حجة لأهل زمانه، فقام فتى من مجلس الهيثم، فلما توارى قال الهيثم: إن عاش هذا الفتى، يكون حجة لأهل زمانه؛ قيل: من كان الفتى؟ قال: أحمد بن حنبل رحمة الله عليه» قال شجاع بن مخلد: سمعت أبا الوليد الطيالسي رحمة الله عليه يقول:
«ما بالمصرين [أي الكوفة والبصرة] رجل أكرم علي من أحمد بن حنبل عظم الله أجره»
ـ دفاعهم عن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه:
قال أبو بكر الخلال: «بلينا بقوم جهال، يظنون أنهم علماء، فإذا ذكرنا فضائل أبي عبد الله: يخرجهم الحسد إلى أن يقول بعضهم فيما أخبرني ثقة عنه: أحمد بن حنبل نبيهم» قال ابن عقيل: «من عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون:
«أحمد ليس بفقيه، لكنه محدث»
قال أحمد بن القاسم المقرئ: سمعت الحسين الكرابيسي عظم الله أجره يقول: «مثل الذين يذكرون أحمد بن حنبل رحمة الله عليه [أي يذكرونه بسوء]: مثل قوم يجيئون إلى أبي قبيس [جبل بمكة] يريدون أن يهدموه بالمعاول» ـ ثناء علي بن المديني [شيخ الإمام البخاري]:
قال علي بن المديني عظم الله أجره:
«أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة»
قال علي بن المديني [شيخ الإمام البخاري] عظم الله أجره قال: «أمرني سيدي أحمد بن حنبل رحمة الله عليه أن لا أحدث إلا من كتاب»
قال محمد بن عبدويه: سمعت علي بن المديني رحمة الله عليه يقول:
«أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه» هذا؛ رغم أن سعيدا مات شهيدا ـ ثناء يحيى بن معين عليه:
وروى عباس الدوري عن يحيى بن معين عظم الله أجره أنه قال:
«ما رأيت مثل أحمد»
وقال يحيى بن معين رحمه الله:
«أرادوا أن أكون مثل أحمد، والله لا أكون مثله أبدا»
ـ ثناء الإمام النسائي عليه:
وقال عنه الإمام النسائي رحمة الله عليه:
«جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث والفقه والورع والزهد والصبر» ـ ثناء الإمام الذهبي عليه:
قال عنه الإمام الذهبي رحمة الله عليه:
«كان أحمد عظيم الشأن، رأسا في الحديث وفي الفقه وفي التأله [أي العبادة]، أثنى عليه خلق من خصومه؛ فما الظن بإخوانه وأقرانه» قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: «والله لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث بن سعد، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف القاضي، وفي الزهد والورع: رتبة الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وفي الحفظ: رتبة شعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، ولكن الجاهل لا يعلم رتبة نفسه؛ فكيف يعرف رتبة غيره» ـ ثناء الإمام الشافعي عليه:
قال حرملة: سمعت الإمام الشافعي رحمة الله عليه يقول:
«خرجت من بغداد؛ فما خلفت بها رجلا؛ أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل»
حدث محمد بن إسحاق بن راهويه عن أبيه إسحاق بن راهويه رحمة الله عليه قال:
«ما رأى الإمام الشافعي مثل أحمد بن حنبل رحمة الله عليهما» ـ ثناء سفيان بن عيينة عليه:
قال مهنى بن يحيى: قد رأيت ابن عيينة، ووكيعا، وبقية، وعبد الرزاق، وضمرة، والناس؛ ما رأيت رجلا أجمع من أحمد في علمه وزهده وورعه، وذكر أشياء»
قال أبو بكر المروذي رحمة الله عليه:
«قلت لأحمد: أكان أغمي عليك أو غشي عليك عند سفيان بن عيينة؟ قال عظم الله أجره نعم، في دهليزه، زحمني الناس، فأغمي علي؛ فقال سفيان بن عيينة يومئذ: كيف أحدث وقد مات خير الناس»؟
ـ ثناء يحيى بن سعيد القطان عليه:
قال القواريري: قال يحيى بن سعيد القطان: «ما قدم علينا مثل هذين: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين رحمة الله عليهما»
قال القواريري: قال يحيى بن سعيد القطان:
«ما قدم علي من بغداد أحب إلي من أحمد بن حنبل رحمة الله عليه» ـ قالوا في المفاضلة بينه وبين إسحاق بن راهويه رحمة الله عليه:
وقال عنه أبو زرعة الرازي:
«أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: أكبر وأفقه من إسحاق بن راهويه، ما رأيت أحدا أكمل من أحمد»
حدث ابن سلم عن محمد بن نصر المروزي أنه سئل: أكان أحمد أكثر حديثا أم إسحاق؟
قال: بل أحمد أكثر حديثا وأورع، أحمد فاق أهل زمانه» ـ قالوا عن تواضعه عظم الله أجره ورفع ذكره:
قال يحيى بن معين عظم الله أجره: «ما رأيت مثل أحمد رحمه الله؛ صحبناه خمسين سنة؛ فما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير»
قال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله ذكر أخلاق الورعين ثم قال:
«أسأل الله أن لا يمقتنا؛ أين نحن من هؤلاء» قال محمد بن الحسن بن هارون:
«رأيت أبا عبد الله رحمه الله إذا مشى في الطريق: يكره أن يتبعه أحد»
قال أبو العباس السراج: سمعت فتح بن نوح قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول:
«أشتهي ما لا يكون: أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس»
قال عبد الملك الميموني: «قال الإمام أحمد: رأيت الخلوة أروح لقلبي» قال أبو بكر المروذي: أدخلت إبراهيم الحصري على أبي عبد الله وكان رجلا صالحا فقال:
إن أمي رأت لك مناما، هو كذا وكذا، وذكرت الجنة؛ فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج إلى سفك الدماء، ثم قال رحمه الله: الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره»
قال أبو بكر الخلال: حدثنا محمد بن المنذر قال: حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال: «رأيت أبا عبد الله رحمه الله يشتري الخبز من السوق، ويحمله في الزنبيل [الزنبيل: هو القفة]، ورأيته يشتري الباقلاء غير مرة ويجعلها في خرقة، فيحملها آخذا بيد عبد الله ابنه»
قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه قال:
حدثنا أبي رحمة الله عليه وذكر عنده الإمام الشافعي عظم الله أجره فقال [أي الإمام أحمد]: «ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه»
حدث ابن المنادي عن جده أبي جعفر قال:
«كان يتواضع للشيوخ شديدا، وكانوا يعظمونه، وكان يفعل بيحيى بن معين ما لم أره يعمل بغيره من التواضع والتكريم والتبجيل، كان يحيى أكبر منه بسبع سنين»
ـ قالوا عن نبل أخلاقه عظم الله أجره ورفع الله ذكره:
قال عبد الله بن محمد الوراق: «كنت في مجلس أحمد بن حنبل رحمة الله عليه فقال: من أين أقبلتم؟
قلنا: من مجلس أبي كريب؛ فقال: اكتبوا عنه؛ فإنه شيخ صالح؛ فقلنا: إنه يطعن عليك؟!
فقال عظم الله أجره ورفع الله ذكره: فأي شيء حيلتي؛ شيخ صالح قد بلي بي»
ـ قالوا عن تقدير الأئمة له رحمة الله عليه: قال أحمد بن سنان القطان: ما رأيت يزيد لأحد أشد تعظيما منه لأحمد بن حنبل، ولا أكرم أحدا مثله؛ كان يقعده إلى جنبه، ويوقره ولا يمازحه»
حدث العباس بن محمد الخلال عن أبي بكر المروذي عن محمد بن يحيى القطان قال:
«رأيت أبي مكرما لأحمد بن حنبل؛ لقد بذل له كتبه أو حديثه» قال أبو بكر الخلال: حدثنا عبد الله بن أحمد رحمة الله عليه وعلى والديه قال: رأيت كثيرا من العلماء والفقهاء والمحدثين وبني هاشم وقريش والأنصار يقبلون أبي؛ بعضهم يده، وبعضهم رأسه، ويعظمونه تعظيما: لم أرهم يفعلونه بأحد من الفقهاء غيره، ولم أره يشتهي ذلك»
ـ حب الناس له، وتقديرهم له: وأحبه الناس حبا جما وتعصبوا له؛ حتى أن شيخ الإسلام الإمام الحافظ أبا إسماعيل الهروي كان ينشد على منبره:
أنا حنبلي ما حييت وإن أمت... فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
قال المزني: قال لي الإمام الشافعي رحمة الله عليه:
«رأيت ببغداد شابا؛ إذا قال «حدثنا»؛ قال الناس كلهم: صدق؛ قلت: ومن هو؟!
قال رحمة الله عليه: أحمد بن حنبل عظم الله أجره» عن الحسين بن إسماعيل عن أبيه قال: «كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت»
ـ قالوا عن حسن عبادته لله، رحمه الله:
قال عبد الله بن الإمام أحمد رحمة الله عليه وعلى والديه: «كان أبي رحمه الله يقرأ كل يوم سبعا، وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو» قال أبو بكر المروذي رحمة الله عليه: «رأيت أبا عبد الله يقوم لورده قريبا من نصف الليل، حتى يقارب السحر، ورأيته يركع فيما بين المغرب والعشاء»
قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وعلى والديه:
«كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته؛ فكان يصلي كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة» قال ابنه عبد الله رحمة الله عليه: «ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم، وكان يكثر الدعاء ويخفيه، ويصلي بين العشاءين؛ فإذا صلى عشاء الآخرة ركع ركعات صالحة، ثم يوتر، وينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيصلي، وكانت قراءته لينة، حتى ربما لم أفهم بعضها، وكان يصوم ويدمن، ثم يفطر ما شاء الله، ولا يترك صوم الاثنين والخميس والأيام البيض، فلما رجع من العسكر أدمن الصوم إلى أن مات» 00 العسكر: مدينة بالأهواز جنوب العراق
قال عبد الملك الميموني: «قال لي القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي:
قال لي أحمد: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم سحرا»
قال عبد الله رحمه الله: خرج أبي إلى طرسوس ماشيا [أي من بغداد إلى جنوب تركيا ماشيا]
قال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله رحمه الله يقول: «حججت على قدمي حجتين، وكفاني إلى مكة أربعة عشر درهما»
ـ قالوا عن صلاحه وتقواه، رحمه الله:
قال ابنه عبد الله رحمة الله عليه: «رأيت أبي حرج على النمل أن يخرجوا من داره»
قال رجل خرساني:
«عندنا بخراسان يظنون أن أحمد لا يشبه البشر: يظنون أنه من الملائكة»
وقال عنه محمد بن يحيى الذهلي: «جعلت أحمد إماما فيما بيني وبين الله» أي كل ما عجزت عن الاجتهاد فيه: قلدت فيه: هذا الفقيه
حدث أبو بكر الخلال قال: حدثنا أبو بكر المروذي قال: قال لي أبو عبد الله رحمه الله:
«ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به؛ حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا؛ فاحتجمت وأعطيت الحجام دينارا»
قال إبراهيم بن محمد بن سفيان: سمعت عاصم بن عصام البيهقي يقول: «بت ليلة عند الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه؛ فجاء بماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء بحاله فقال: سبحان الله؛ رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل»
ـ قالوا عن خوفه من الله، رحمه الله:
قال أبو بكر المروذي: بال أبو عبد الله في مرض الموت دما عبيطا [أي غليظا كأنه موشك على التجلط]؛ فأريته الطبيب؛ فقال: هذا رجل قد فتت الغم أو الخوف جوفه» قال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروذي، سمعت أبا عبد الله رحمه الله يقول:
«الخوف منعني أكل الطعام والشراب فما اشتهيته»
ـ زهده رحمة الله عليه مع الفقر ورقة الحال:
وقال عنه الإمام أبو داود عظم الله أجره: «كانت مجالس أحمد رحمه الله مجالس الآخرة: لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط» وقال ابنه صالح أيضا رحمة الله عليه وعلى والديه:
«كنا ربما اشترينا الشيء فنستره منه لئلا يوبخنا عليه»
قال إسحاق بن هانئ: أخبرني يوسف بن الضحاك قال: حدثني ابن جبلة قال: «كنت على باب أحمد بن حنبل رحمه الله والباب مجاف [أي مردود]، وأم ولده تكلمه وتقول: أنا معك في ضيق، وأهل صالح يأكلون ويفعلون؛ وهو يقول: قولي خيرا؛ وخرج الصبي معه؛ فبكى؛ فقال له:
ما تريد؟
قال زبيب؛ قال: اذهب، خذ من البقال» قال أبو نعيم: حدثنا الحسين بن محمد قال: حدثنا شاكر بن جعفر قال: سمعت أحمد بن محمد التستري يقول: ذكروا أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها؛ فبعث إلى صديق له فاقترض منه دقيقا، فجهزوه بسرعة؛ فقال عظم الله أجره: كيف ذا؟ قالوا: تنور صالح مسجر؛ فخبزنا فيه؛ فقال رحمة الله عليه: ارفعوا؛ وأمر بسد باب بينه وبين صالح؛ قال الإمام الذهبي شارحا السبب في ذلك: لكونه أخذ جائزة المتوكل»
روى الخلدي عن أحمد بن محمد بن مسروق قال: قال لي ابنه عبد الله رحمه الله:
«دخل علي أبي يعودني في مرضي؛ فقلت: يا أبت؛ عندنا شيء مما كان يبرنا به المتوكل؛ أفأحج منه؟ قال نعم؛ قلت: فإذا كان هذا عندك هكذا، فلم لا تأخذ منه؟
قال: ليس هو عندي حرام، ولكن تنزهت عنه»
حدث أبو بكر الخلال قال: أخبرنا محمد بن أبي هارون قال: حدثنا الأثرم قال:
«أخبرت أن الشافعي قال لأبي عبد الله رحمه الله: إن أمير المؤمنين الأمين سألني أن ألتمس له قاضيا لليمن، وأنت تحب الخروج إلى عبد الرزاق [وكان باليمن]؛ فقد نلت حاجتك، وتقضي بالحق؛ فقال رحمة الله عليه للإمام الشافعي: يا أبا عبد الله؛ إن سمعت هذا منك ثانية، لم ترني عندك»
قال أبو بكر المروذي رحمة الله عليه: «رأيت طبيبا نصرانيا خرج من عند أحمد ومعه راهب؛ فسألته [أي سأل الطبيب] فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله، وأدخلت نصرانيا على أبي عبد الله فقال له: إني لأشتهي أن أراك منذ سنين، ما بقاؤك صلاح للإسلام وحدهم، بل للخلق جميعا، وليس من أصحابنا أحد إلا وقد رضي بك؛ فقال: يا أبا بكر، إذا عرف الرجل نفسه؛ فما ينفعه كلام الناس»
ـ عفته وعزة نفسه رحمة الله عليه:
قال أبو إسماعيل الترمذي:
«جاء رجل بعشرة آلاف من ربح تجارته إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه فردها» حدث الإمام الطبراني قال: حدثنا محمد بن موسى البربري قال: «حمل إلى الحسن الجروي ميراثه من مصر مائة ألف دينار؛ فأتى أحمد بثلاثة آلاف دينار؛ فما قبلها»
قال ابنه عبد الله رحمه الله: سمعت فوران [أحد تلامذة الإمام أحمد عظم الله أجره] يقول:
«مرض أبو عبد الله؛ فعاده الناس، وعاده علي بن الجعد؛ فترك عند رأسه صرة؛ فقلت له عنها فقال: ما رأيت، اذهب فردها إليه» 0
قال ابنه عبد الله رحمه الله: قلت لأبي: بلغني أن عبد الرزاق عرض عليك دنانير؟
قال عظم الله أجره: نعم، وأعطاني يزيد بن هارون خمسمائة درهم فلم أقبل»
قال الإمام الطبراني: حدثنا موسى بن هارون قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول:
«لما خرج أحمد إلى عبد الرزاق: انقطعت به النفقة؛ فأكرى نفسه لدى بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء، وعرض عليه أصحابه المواساة فلم يأخذ»
قال الحاكم: سمعت بكران بن أحمد الحنظلي عن عبد الله بن أحمد عن أبيه قال:
قدمت صنعاء، أنا ويحيى بن معين، فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته، وتخلف يحيى، فلما ذهبت أدق الباب، قال لي بقال تجاه داره: مه؛ لا تدق فإن الشيخ يهاب [أي فظ غليظ]؛ فجلست حتى إذا كان قبل المغرب خرج؛ فوثبت إليه وفي يدي أحاديث انتقيتها، فسلمت وقلت: حدثني بهذه رحمك الله فإني رجل غريب؛ قال: ومن أنت وزبرني؟
قلت: أنا أحمد بن حنبل؛ فتقاصر [أي خفف من حدته]، وضمني إليه وقال: بالله أنت أبو عبد الله؟
ثم أخذ الأحاديث وجعل يقرؤها حتى أظلم» أي دخل عليه الليل
حدث شيخ الإسلام الأنصاري عن أبي يعقوب عن زاهر بن أحمد قال: حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر قال: سمعت الرمادي قال: سمعت عبد الرزاق وذكر الإمام أحمد؛ فدمعت عينه وقال: قدم وبلغني أن نفقته نفدت؛ فأخذت عشرة دنانير وعرضتها عليه؛ فتبسم وقال: يا أبا بكر، لو قبلت شيئا من الناس، قبلت منك، ولم يقبل مني شيئا»
أتاه رجل ممن كان يحضر معه مجلس ابن عيينة رحمه الله فاستأذن عليه قائلا:
«سلام عليكم، أأدخل؟ فقال: لا، ثم قال: ادخل؛ فدخلت، وإذا عليه قطعة لبد خلق [أي كليم قديم]، فقلت: لم حجبتني؟
فقال: حتى استترت؛ فقلت: ما شأنك؟
قال: سرقت ثيابي؛ قال: فبادرت إلى منزلي، فجئته بمائة درهم، فعرضتها عليه؛ فامتنع، فقلت: قرضا؛ فأبى، حتى بلغت عشرين درهما؛ ويأبى؛ فقمت وقلت: ما يحل لك أن تقتل نفسك؛ قال رحمة الله عليه: ارجع؛ فرجعت، فقال: أليس قد سمعت معي من ابن عيينة؟
قلت: بلى؛ قال رحمة الله عليه: تحب أن أنسخه لك؟
قلت: نعم؛ قال رحمة الله عليه: اشتر لي ورقا؛ فكتب بدراهم؛ اكتسى منها ثوبين»
قال صالح بن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: قلت لأبي:
«بلغني أن أحمد الدورقي أعطي ألف دينار؛ فقال رحمة الله عليه وعظم الله أجره ورفع ذكره:
يا بني (ورزق ربك خير وأبقى ({طه/131} قال عبد الله بن الإمام أحمد رحمة الله عليه وعلى والديه: حدثني إسماعيل بن أبي الحارث قال:
«مر بنا الإمام أحمد؛ فقلنا لإنسان: اتبعه وانظر أين يذهب؛ فقال: جاء إلى حنك المروزي، فما كان إلا ساعة حتى خرج؛ فقلت لحنك بعد: جاءك أبو عبد الله؟
قال: هو صديق لي، استقرض مني مائتي درهم، فجاءني بها، فقلت: ما نويت أخذها؛ فقال: وأنا ما نويت إلا أن أردها إليك
حدث أبو بكر الخلال عن أبي غالب علي بن أحمد قال: حدثني صالح بن أحمد قال:
«جاءتني حسن فقالت: قد جاء رجل بتليسة فيها فاكهة يابسة وبكتاب؛ فقمت فقرأت الكتاب فإذا فيه: يا أبا عبد الله، أبضعت لك بضاعة إلى سمرقند، فربحت؛ فبعثت بذلك إليك أربعة آلاف وفاكهة أنا لقطتها من بستاني ورثته من أبي؛ قال: فجمعت الصبيان ودخلنا، فبكيت وقلت: يا أبت، ما ترق لي من أكل الزكاة؟!
ثم كشف عن رأس الصبية وبكيت؛ فقال: من أين علمت؟
دع حتى أستخير الله الليلة؛ فلما كان من الغد قال رحمه الله: استخرت الله فعزم لي أن لا آخذها، وفتح التليسة ففرقها على الصبيان، وكان عنده ثوب عشاري؛ فبعث به إلى الرجل ورد المال»
أي أعطاه الثوب مكان الفاكهة التي أخذها، أما المال فلم يأخذه ـ كيف كان عظم الله أجره يحتمل الجوع الشديد ولا يسأل الناس شيئا:
حدث أبو إسحاق الجوزجاني قال: «كان أحمد بن حنبل يصلي بعبد الرزاق فسها؛ فسأل عنه عبد الرزاق؛ فأخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئا»
قال ابن الجوزي رحمة الله عليه:
«خلف له أبوه طرزا [أي بيتا يؤجر] ودارا يسكنها؛ فكان يكري تلك الطرز ويتعفف بها» قال أحمد بن محمد بن عبد الخالق: حدثنا أبو بكر المروذي قال: قال أبو عبد الله رحمه الله:
«كنا نخرج إلى اللقاط»
وكذا حدث أبو جعفر الطرسوسي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يخرج لللقاط أي يخرج ضمن الأنفار؛ التي تخرج في جمع المحاصيل والثمار قال محمد بن أبي حاتم الوراق: حدثنا أحمد بن سنان قال: «بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز باليمن، وأكرى نفسه من جمالين عند خروجه، وعرض عليه الإمام عبد الرزاق دنانير صالحة؛ فلم يقبلها»
قال صالح: «وكان ربما أخذ القدوم وخرج إلى دار السكان، يعمل الشيء بيده»
قال الإمام الذهبي رحمة الله عليه: «وربما نسخ بأجرة، وربما عمل التكك [أي في فتل الحبال]، وأجر نفسه لجمال» قال أحمد بن مروان الدينوري: حدثنا إدريس الحداد قال: كان أحمد بن حنبل إذا ضاق به الأمر عظم الله أجره أجر نفسه من الحاكة فسوى لهم؛ فلما كان أيام المحنة وصرف إلى بيته: حمل إليه مال فرده رحمة الله عليه، وهو محتاج إلى رغيف؛ فجعل عمه إسحاق يحسب ما يرد؛ فإذا هو نحو خمسمائة ألف؛ فقال: يا عم؛ لو طلبناه لم يأتنا، وإنما أتانا لما تركناه»روى الخلدي عن أحمد بن محمد بن مسروق قال: قال لي ابنه عبد الله رحمه الله: «دخل علي أبي يعودني في مرضي؛ فقلت: يا أبت؛ عندنا شيء مما كان يبرنا به المتوكل؛ أفأحج منه؟
قال نعم؛ قلت: فإذا كان هذا عندك هكذا، فلم لا تأخذ منه؟
قال: ليس هو عندي حرام، ولكن تنزهت عنه» قال ابنه صالح رحمة الله عليه وعلى والديه: قال لي أبي رحمة الله عليه: كانت أمك في الغلاء تغزل غزلا رقيقا، فتبيع الأستار بدرهمين أو نحوه؛ فكان ذلك قوتنا» حدث أبو بكر الخلال قال: حدثنا عبد الله بن أحمد عظم الله أجره فقال:
«قال أبو سعيد بن أبي حنيفة المؤدب: كنت آتي أباك، فيدفع إلي الثلاثة دراهم أو أقل أو أكثر، ويقعد معي فيتحدث، وربما أعطاني الشيء ويقول: أعطيتك نصف ما عندنا؛ فجئت يوما فأطلت القعود أنا وهو؛ ثم خرج ومعه تحت كسائه أربعة أرغفة فقال: هذا نصف ما عندنا؛ فقلت: هي أحب إلي من أربعة آلاف من غيرك» ـ خبر المحنة:
قال علي بن المديني عظم الله أجره:
«أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة» قال نصر بن أبي نصر الطوسي قال: سمعت علي بن أحمد بن خشيش قال:
سمعت أبا الحديد الصوفي بمصر عن أبيه عن المزني رحمة الله عليه أنه قال:
«أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة»
ـ محنة المأمون:
قال الإمام الذهبي رحمه الله: «كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر رضي الله عنه وانكسر الباب: قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا؛ وتفرقت الكلمة، وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين؛ فظهرت الخوارج، وكفرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب، وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة والجهمية، والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين، مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المائتين؛ فظهر الخليفة المأمون وكان ذكيا متكلما، له نظر في المعقول؛ فاستجلب كتب الأوائل وعرب الفلسفة اليونانية، وقام في ذلك وقعد، وأدنى وأقصى، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها، بل والشيعة أيضا، وآل به الحال أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن في ذلك العلماء؛ فلم يمهل، وهلك لعامه هذا وخلى بعده شرا وبلاء في الدين؛ فإن الأمة ما زالت على أن القرآن العظيم كلام الله جل جلاله ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهؤلاء الضلال القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول، وأنه إنما أضيف إلى الله عز وجل إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله؛ فأنكر ذلك العلماء، ولم تكن الجهمية يظهرون في دولة المهدي والرشيد والأمين؛ فلما ولي المأمون وكان منهم أظهر مقالتهم»
روى أحمد بن إبراهيم الدورقي عن محمد بن نوح قال: إن الرشيد قال: بلغني أن بشر بن غياث المريسي يقول: القرآن مخلوق؛ فلله علي إن أظفرني به لأقتلنه؛ قال الدورقي:
فكان متواريا أيام الرشيد؛ فلما مات الرشيد ظهر وأظهر المقالة، ودعا إلى الضلالة»
قال الإمام الذهبي عظم الله أجره: «كان المأمون في البداية ينظر ويناظر في تلك المسألة، وبقي متوقفا في الدعاء إلى بدعته»
قال أبو الفرج ابن الجوزي: «خالطه قوم من المعتزلة فحسنوا له القول بخلق القرآن، وكان يتردد ويراقب سائر الشيوخ، ثم قوي عزمه وامتحن الناس»
قال أبو العباس الأصم: أخبرنا يحيى بن أبي طالب قال: أخبرني الحسن بن شاذان قال: حدثني ابن عرعرة قال: حدثني ابن أكثم قال: قال لنا المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق؛ فقال له بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين؛ ومن يزيد حتى يتقى؟
قال: ويحك؛ إني أخاف إن أظهرته أن يرد علي فيختلف الناس وتكون فتنة، وأنا أكره الفتنة؛ فقال الرجل: فأنا أخبر ذلك منه؛ قال له: نعم؛ فخرج إلى واسط، فجاء إلى يزيد وقال: يا أبا خالد؛ إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: إني أريد أن أظهر خلق القرآن؛ فقال: كذبت على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه، فإن كنت صادقا، فاقعد؛ فإذا اجتمع الناس في المجلس فقل؛ فلما أن كان الغد، اجتمعوا، فقام فقال كمقالته؛ فقال يزيد: كذبت على أمير المؤمنين، إنه لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه وما لم يقل به أحد؛ فقدم وقال: يا أمير المؤمنين؛ كنت وقص عليه؛ قال ويحك يلعب بك»
قال ابنه صالح رحمة الله عليه: «امتحن القوم، ووجه بمن امتنع إلى الحبس؛ فأجاب القوم جميعا غير أربعة: أبي، ومحمد بن نوح، والقواريري، والحسن بن حماد، ثم أجاب هذان وبقي أبي ومحمد في الحبس أياما، ثم جاء كتاب من طرسوس بحملهما مقيدين زميلين» قال الإمام الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبو معمر القطيعي قال:
«لما أحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة؛ وكان أحمد بن حنبل قد أحضر؛ فلما رأى الناس يجيبون وكان رجلا لينا؛ انتفخت أوداجه واحمرت عيناه وذهب ذلك اللين»
قال شيخ الإسلام: أخبرنا أبو يعقوب قال: حدثنا الحسين بن محمد الخفاف قال:
«سمعت ابن أبي أسامة يقول: حكي لنا أن أحمد قيل له أيام المحنة: يا أبا عبد الله؛ أولا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل؟
قال: كلا، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمة للحق»
قال أبو العباس الأصم: حدثنا عباس الدوري قال: سمعت أبا جعفر الأنباري يقول: «لما حمل أحمد إلى المأمون: أخبرت؛ فعبرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان، فسلمت عليه فقال: يا أبا جعفر، تعنيت؛ فقلت: يا هذا، أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا: فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت؛ فاتق الله ولا تجب؛ فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله كان، ثم قال: يا أبا جعفر؛ أعد علي؛ فأعدت عليه؛ وهو يقول: ما شاء الله كان»
قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي: «جعلوا يذاكرون أبا عبد الله بالرقة في التقية وما روي فيها؛ فقال رحمة الله عليه: كيف تصنعون بحديث خباب: «إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار لا يصده ذلك عن دينه» فأيسنا منه، وقال: لست أبالي بالحبس؛ ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلا بالسيف؛ إنما أخاف فتنة السوط؛ فسمعه بعض أهل الحبس فقال: لا عليك يا أبا عبد الله؛ فما هو إلا سوطان، ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سري عنه»
ـ محنة المعتصم:
قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي:
«حدثني من أثق به عن محمد بن إبراهيم بن مصعب [وهو يومئذ صاحب شرطة المعتصم خلافة لأخيه إسحاق بن إبراهيم] قال: ما رأيت أحدا لم يداخل السلطان ولا خالط الملوك أثبت قلبا من أحمد يومئذ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب»
قال ابنه صالح: حمل أبي ومحمد بن نوح من بغداد مقيدين؛ فصرنا معهما إلى الأنبار؛ فسأل أبو بكر الأحول أبي: يا أبا عبد الله؛ إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا؛ ثم سيرا؛ فسمعت أبي يقول: سرنا إلى الرحبة، ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟
فقيل له: هذا؛ فقال للجمال: على رسلك، ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل ها هنا، وتدخل الجنة؟
ثم قال: أستودعك الله، ومضى؛ فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الشعر في البادية يقال له جابر بن عامر، يذكر بخير» أي حسن السيرة، محمود السريرة
قال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: قال الإمام أحمد بن حنبل: «ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق: قال يا أحمد؛ إن يقتلك الحق مت شهيدا، وإن عشت عشت حميدا؛ فقوى قلبي» قال ابنه صالح: قال أبي رحمة الله عليه:
«لما صرنا إلى أذنة [بلدة جنوب تركيا]، ورحلنا منها في جوف الليل وفتح لنا بابها؛ إذا رجل قد دخل فقال: البشرى؛ قد مات الرجل [يعني: المأمون]؛ قال أبي: كنت أدعو الله أن لا أراه» قال ابنه صالح رحمة الله عليه: لما صدر أبي ومحمد بن نوح عظم الله أجرهما إلى طرسوس، ردا في أقيادهما؛ فلما صار إلى الرقة حملا في سفينة، فلما وصلا إلى عانة توفي محمد وفك قيده، وصلى عليه أبي، قال حنبل: قال أبو عبد الله: ما رأيت أحدا على حداثة سنه وقدر علمه أقوم بأمر الله عز وجل من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير؛ قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله؛ الله الله؛ إنك لست مثلي؛ أنت رجل يقتدى بك؛ قد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتق الله واثبت لأمر الله جل وعلا، فمات وصليت عليه ودفنته بعانة» عانة: بلدة على الفرات بشمال العراق قال ابنه صالح رحمة الله عليه: «صار أبي إلى بغداد مقيدا، فمكث بالياسرية أياما، ثم حبس في دار اكتريت عند دار عمارة، ثم حول إلى حبس العامة في درب الموصلية
قال عظم الله أجره: كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيد؛ فلما كان في رمضان سنة تسع عشرة [بعد موت المأمون بأربعة عشر شهرا] حولت إلى دار إسحاق بن إبراهيم والي بغداد» قال ابنه صالح رحمة الله عليه: «قال أبي: كان يوجه إلي كل يوم برجلين، أحدهما يقال له: أحمد بن أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيب الحجام؛ فلا يزالان يناظرانني؛ حتى إذا قاما؛ دعي بقيد فزيد في قيودي؛ فصار في رجلي أربعة أقياد؛ فلما كان في اليوم الثالث: دخل علي رجلان، فناظرني أحدهما؛ فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال مخلوق؛ فقلت: كفرت بالله؛ قال الرسول الذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم: إن هذا رسول أمير المؤمنين؛ فقلت: إن هذا قد كفر، فلما كان في الليلة الرابعة، وجه المعتصم إلى إسحاق فأمره بحملي إليه؛ فأدخلت على إسحاق بن إبراهيم فقال: يا أحمد، إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضربا بعد ضرب، وأن يقتلك في موضع لا يرى فيه شمس ولا قمر، أليس قد قال الله (إنا جعلناه قرآنا عربيا (
أفيكون مجعولا إلا مخلوقا؟
فقلت: فقد قال جل جلاله: (فجعلهم كعصف مأكول ({الفيل/5} أفخلقهم؟ أم صيرهم؟
وهذه عدة آيات تؤيد ما قاله الإمام أحمد:
وقال تعالى: (وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ({فصلت/29} وقال تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ({الجاثية/21}
وقال تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ({الفرقان/23}
وقال تعالى: (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ({الفرقان/37} وقال تعالى: (وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ({سبأ/19}
وقال تعالى: (فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ({الصافات/98}
وقال تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ({الأنبياء/73} فسكت؛ فلما صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان: أخرجت، وجيء بدابة؛ فأركبت وعلي الأقياد، ما معي من يمسكني، فكدت غير مرة أن أخر على وجهي لثقل القيود، فجيء بي إلى دار المعتصم؛ فأدخلت حجرة، ثم أدخلت بيتا، وأقفل الباب علي في جوف الليل ولا سراج؛ فأردت الوضوء؛ فمددت يدي؛ فإذا أنا بإناء فيه ماء وطست موضوع، فتوضأت وصليت، فلما كان من الغد أخرجت تكتي [أي حبل سروالي]، وشددت بها الأقياد أحملها [أي بدلا من جرها وهي من حديد ثقيل] وعطفت سراويلي، فجاء رسول المعتصم فقال:
أجب؛ فأخذ بيدي وأدخلني عليه، والتكة في يدي أحمل بها الأقياد، وإذا هو جالس وأحمد بن أبي دواد حاضر، وقد جمع خلقا كثيرا من أصحابه؛ فقال لي المعتصم: ادنه ادنه؛ فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس؛ فجلست وقد أثقلتني الأقياد، فمكثت قليلا، ثم قلت: أتأذن في الكلام؟
قال تكلم؛ فقلت: إلى ما دعا الله ورسوله؟
فسكت هنية، ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله؛
ثم قلت: إن جدك ابن عباس يقول: لما قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الإيمان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما الإيمان»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم»
فقال المعتصم: لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي: ما عرضت لك، ثم قال:
يا عبد الرحمن بن إسحاق؛ ألم آمرك برفع المحنة؟ فقلت: الله أكبر إن في هذا لفرجا للمسلمين؛ ثم قال لهم: ناظروه وكلموه، يا عبد الرحمن كلمه؛ فقال: ما تقول في القرآن؟
قلت: ما تقول أنت في علم الله؟
فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قال الله تعالى: (الله خالق كل شيء ([الرعد/16}
والقرآن أليس شيئا؟
فقلت: قال الله عز وجل: (تدمر كل شيء ({الأحقاف/25} فدمرت إلا ما أراد الله؟ فقال بعضهم: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ({الأنبياء/2} أفيكون محدث إلا مخلوقا؟
فقلت: قال الله جل جلاله: (ص، والقرآن ذي الذكر ({ص/1}
فالذكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولام [أي ليست معرفة]
وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين: «إن الله خلق الذكر»
فقلت: هذا خطأ، حدثنا غير واحد: «إن الله كتب الذكر»
واحتجوا بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ما خلق الله من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي»
فقلت: إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض، ولم يقع على القرآن؛ فقال بعضهم: حديث خباب: «يا هنتاه، تقرب إلى الله بما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه» فقلت: هكذا هو، قال صالح: وجعل ابن أبي دواد ينظر إلى أبي كالمغضب قال أبي: وكان يتكلم هذا؛ فأرد عليه، ويتكلم هذا؛ فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دواد فيقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضال مضل مبتدع؛ فيقول المعتصم: كلموه وناظروه؛ فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقول المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين؛ أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به؛ فيقول أحمد بن أبي دواد: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب أو السنة؟
فقلت له: تأولت تأويلا فأنت أعلم، وما تأولت ما يحبس عليه ولا يقيد عليه»
أي: وما قلت ما يستوجب القيد والحبس قال حنبل: قال أبو عبد الله: «لقد احتجوا علي بشيء ما يضيق به صدري ولا ينطلق لساني: أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتى سمعته، وجعلوا يروغون: يقول الخصم كذا وكذا، فاحتججت عليهم من القرآن بقوله تعالى: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر (
أفهذا منكر عندكم؟ [فإن المفهوم من كلام إبراهيم عليه السلام أنه دعاهم لمن يسمع ويبصر] فقالوا: شبه يا أمير المؤمنين شبه» !!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه كان سميعا بصيرا؟
فوضع إصبعة الدعاء على عينيه وإبهاميه على أذنيه»
[قال الإمام الذهبي في التلخيص: صحيح على شرط الإمام مسلم، رواه الحاكم في المستدرك برقم: 63] قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي: حدثني بعض أصحابنا أن أحمد بن أبي دواد أقبل على أحمد يكلمه؛ فلم يلتفت إليه؛ حتى قال المعتصم: يا أحمد؛ ألا تكلم أبا عبد الله؟
فقلت: لست أعرفه من أهل العلم فأكلمه» الإمام أحمد ليس من أهل العلم؛ أبعدك الله ال ابنه صالح: «وجعل ابن أبي دواد يقول: يا أمير المؤمنين؛ والله لئن أجابك، لهو أحب إلي من ألف دينار ومائة ألف دينار فيعد من ذلك ما شاء الله أن يعد؛ فقال:
لئن أجابني لأطلقن عنه بيدي، ولأركبن إليه بجندي، ولأطأن عقبه [أي أقتدي به وأستشيره]
ثم قال: يا أحمد، والله إني عليك لشفيق، وإني لأشفق عليك شفقتي على ابني هارون ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئا من كتاب الله جل وعلا، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
فلما طال المجلس: ضجر وقال: قوموا، وحبسني عنده، وعبد الرحمن بن إسحاق يكلمني، يقول: ويحك أجبني؛ فقال الإمام أحمد: ويحك ألم تكن تأتينا؟ [أي تطلب العلم بين يدي]
فقال عبد الرحمن بن إسحاق للخليفة المعتصم: يا أمير المؤمنين؛ أعرفه منذ ثلاثين سنة، يرى طاعتك والحج والجهاد معك ؛ فيقول: والله إنه لعالم، وإنه لفقيه، وما يسوءني أن يكون معي يرد عني أهل الملل، ثم قال: ما كنت تعرف صالحا الرشيدي؟
قلت: قد سمعت به؛ قال: كان مؤدبي، وكان في ذلك الموضع جالسا، وأشار إلى ناحية من الدار، فسألني عن القرآن؛ فخالفني؛ فأمرت به فوطئ وسحب؛ يا أحمد؛ أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي؛ قلت: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله؛ فطال المجلس، وقام الخليفة ورددت إلى الموضع، فلما كان بعد المغرب وجه إلي رجلين من أصحاب ابن أبي داود، يبيتان عندي ويناظرانني ويقيمان معي، حتى إذا كان وقت الإفطار جيء بالطعام، ويجتهدان بي أن أفطر فلا أفعل، ووجه المعتصم إلي ابن أبي دواد في الليل فقال: يقول لك أمير المؤمنين ما تقول فأرد عليه نحوا مما كنت أرد؛ فقال ابن أبي دواد: والله لقد كتب اسمك في السبعة: يحيى بن معين وغيره؛ فمحوته، ولقد ساءني أخذهم إياك، ثم يقول: إن أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضربا بعد ضرب، وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس، ويقول [أي المعتصم]:
إن أجابني جئت إليه حتى أطلق عنه بيدي، ثم انصرف، فلما أصبحنا؛ جاء رسوله فأخذ بيدي حتى ذهب بي إليه؛ فقال لهم: ناظروه وكلموه؛ فجعلوا يناظرونني فأرد عليهم؛ فإذا جاؤوا بشيء من الكلام مما ليس في الكتاب والسنة قلت: ما أدري ما هذا؛ فيقولون: يا أمير المؤمنين؛ إذا توجهت له الحجة علينا ثبت، وإذا كلمناه بشيء يقول لا أدري ما هذا؛ فقال ناظروه؛ فقال رجل: يا أحمد؛ أراك تذكر الحديث وتنتحله [أي تدعيه]؛ فقلت: ما تقول في قوله: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ({النساء/11}؟
قال: خص الله بها المؤمنين؛ قلت: ما تقول إن كان قاتلا أو عبدا؟ [الحكم يختلف]
فسكت، وإنما احتججت عليهم بهذا؛ لأنهم كانوا يحتجون بظاهر القرآن
فحيث قال لي: أراك تنتحل الحديث احتججت بشيء من القرآن عام خصصته السنة: فالسنة خصصت القاتل والعبد؛ فأخرجتهما من العموم، فلم يزالوا كذلك إلى قرب الزوال، فلما ضجر قال قوموا، ثم خلا بي وبعبد الرحمن بن إسحاق، فلم يزل يكلمني، ثم قام ودخل ورددت إلى الموضع، فلما كانت الليلة الثالثة، قلت: خليق أن يحدث غدا من أمري شيء؛ فقلت للموكل بي: أريد خيطا؛ فجاءني بخيط فشددت به الأقياد ورددت التكة إلى سراويلي مخافة أن يحدث من أمري شيء فأتعرى، فلما كان من الغد أدخلت إلى الدار؛ فإذا هي غاصة [أي بالناس]، فجعلت أدخل من موضع إلى موضع، وقوم معهم السيوف، وقوم معهم السياط وغير ذلك، ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء؛ فلما انتهيت إليه قال اقعد، ثم قال: ناظروه وكلموه؛ فجعلوا يناظرونني، يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، وجعل صوتي يعلو أصواتهم، فجعل بعض من هو قائم على رأسي يومئ إلي بيده؛ فلما طال المجلس نحاني، ثم خلا بهم، ثم نحاهم وردني إلى عنده وقال: ويحك يا أحمد؛ أجبني حتى أطلق عنك بيدي؛ فرددت عليه نحو ردي؛ فقال: عليك وعليك وذكر اللعن خذوه، اسحبوه، خلعوه؛ فسحبت وخلعت؛ قال: وقد كان صار إلي شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم في كم قميصي؛ فوجه إلي إسحاق بن إبراهيم يقول: ما هذا المصرور؟ قلت شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعى بعضهم ليخرق القميص عني؛ فقال المعتصم:
لا تخرقوه؛ فنزع؛ فظننت أنه إنما درئ عن القميص الخرق بالشعر، وجلس المعتصم على كرسي ثم قال: العقابين والسياط؛ فجيء بالعقابين فمدت يداي، فقال بعض من حضر خلفي: خذ ناتئ الخشبتين بيديك وشد عليهما؛ فلم أفهم ما قال؛ فتخلعت يداي» قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي: ذكروا أن المعتصم ألان في أمر أحمد لما علق في العقابين، ورأى ثباته وتصميمه وصلابته، حتى أغراه أحمد بن أبي دواد وقال: يا أمير المؤمنين؛ إن تركته قيل قد ترك مذهب المأمون وسخط قوله؛ فهاجه ذلك على ضربه»
وقال ابنه صالح: «قال أبي: ولما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم فقال: ائتوني بغيرها، ثم قال للجلادين تقدموا؛ فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين؛ فيقول له: شد قطع الله يدك، ثم يتنحى ويتقدم آخر فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك شد، قطع الله يدك؛ فلما ضربت سبعة عشر سوطا قام إلي المعتصم فقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟
إني والله عليك لشفيق؛ وجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك؛ إمامك على رأسك قائم، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين؛ دمه في عنقي، اقتله؛ فأقول: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به؛ فرجع وجلس وقال للجلاد: تقدم وأوجع قطع الله يدك، ثم قام الثانية وجعل يقول ويحك يا أحمد أجبني؛ فجعلوا يقبلون علي ويقولون: يا أحمد؛ إمامك على رأسك قائم، وجعل عبد الرحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟
والمعتصم يقول: أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ثم رجع وقال للجلاد: تقدم؛ فجعل يضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك؛ فذهب عقلي، ثم أفقت بعد، فإذا الأقياد قد أطلقت عني؛ فقال لي رجل ممن حضر: كببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية [أي حصيرا] ودسناك؛ قال أبي: فما شعرت بذلك، وأتوني بسويق وقالوا: اشرب وتقيأ؛ فقلت لا أفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم؛ فحضرت الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من صلاته قال لي: صليت والدم يسيل في ثوبك؟
قلت: قد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دما، قال صالح: ثم خلي عنه فصار إلى منزله، وكان مكثه في السجن منذ أخذ إلى أن ضرب وخلي عنه ثمانية وعشرين شهرا قال صالح: ولقد حدثني أحد الرجلين اللذين كانا معه فقال: يا ابن أخي؛ رحمة الله على أبي عبد الله؛ والله ما رأيت أحدا يشبهه، ولقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام: يا أبا عبد الله، أنت صائم وأنت في موضع تفئة [أي قريب من القدوم على الله]، ولقد عطش رحمة الله عليه فقال لصاحب الشراب: ناولني؛ فناوله قدحا فيه ماء وثلج؛ فأخذه ونظر فيه ثم رده ولم يشرب، فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وهو فيما هو فيه من الهول،
قال صالح: فكنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا في تلك الأيام فلم أقدر، وأخبرني رجل حضره أنه تفقده في الأيام الثلاثة وهم يناظرونه؛ فما لحن في كلمة؛ فقال: ما ظننت أن أحدا يكون في مثل شجاعته وشدة قلبه
قال ابن عمه حنبل: سمعت أبا عبد الله رحمه الله يقول: «ذهب عقلي مرارا؛ فكان إذا رفع عني الضرب رجعت إلي نفسي، وإذا استرخيت وسقطت رفع الضرب، أصابني ذلك مرارا، ورأيت المعتصم قاعدا في الشمس بغير مظلة؛ فسمعته وقد أفقت يقول لابن أبي دواد: لقد ارتكبت إثما في أمر هذا الرجل؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه والله كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه؛ فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد، وقد كان أراد تخليتي بلا ضرب ؛ فلم يدعه ولا إسحاق بن إبراهيم»
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ولي منكم عملا، فأراد الله به خيرا: جعل له وزيرا صالحا، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه»
[صححه العلامة الألباني في الصحيح والصحيحة برقمي: 6596، 489، وفي سنن الإمام النسائي برقم: 4204] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ما بعث الله تبارك وتعالى من نبي ولا استخلف من خليفة: إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه؛ فالمعصوم من عصم الله جل وعلا»
[رواه الإمام البخاري في صحيحه برقم: 7198 / فتح] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من وال إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا ـ أي لا تقصر في تضليله ـ فمن وقي شرها فقد وقي، وهو من التي تغلب عليه منهما» 0
[صححه العلامة الألباني في سنن الإمام النسائي برقم: 4201، والأستاذ وحسين سليم أسد في مسند الإمام أبي يعلى برقم: 6000] قال حنبل: بلغني أن المعتصم قال لابن أبي دواد بعد ما ضرب أبو عبد الله: كم ضرب؟
قال: أربعة أو نيفا وثلاثين سوطا»
قال محمد بن أبي حاتم الوراق: حدثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي قال:
«لما حمل أحمد ليضرب: جاؤوا إلى بشر بن الحارث وقالوا: قد وجب عليك أن تتكلم؛ فقال: أتريدون مني أقوم مقام الأنبياء؛ ليس ذا عندي، حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه»
قال محمد بن أبي حاتم الوراق: حدثنا محمد بن المثنى صاحب بشر قال:
قال الإمام أحمد بن حنبل عظم الله أجره: قيل لي: اكتب ثلاث كلمات ويخلى سبيلك؛ فقلت:
هاتوا، قالوا: اكتب: الله قديم لم يزل؛ فكتبت؛ فقالوا: اكتب: كل شيء دون الله مخلوق؛ قلت: أما هذه فلا، ورميت بالقلم»
قال أبو الفضل عبيد الله الزهري: قال أبو بكر المروذي رحمة الله عليه: «قلت وأبو عبد الله بين العقابين: يا أستاذ؛ قال الله جل وعلا: (لا تقتلوا أنفسكم ({النساء}
قال رحمه الله: يا مروذي؛ اخرج وانظر؛ فخرجت إلى رحبة دار الخلافة؛ فرأيت خلقا لا يحصيهم إلا الله، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر، فقال لهم أبو بكر المروذي: ماذا تعملون؟
قالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه؛ فدخل فأخبره؛ فقال: يا مروذي أضل هؤلاء كلهم»؟ قال حنبل: «قال أبو عبد الله رحمه الله: قال برغوث [يوم المحنة]: يا أمير المؤمنين، هو كافر حلال الدم، اضرب عنقه، ودمه في عنقي، وقال شعيب كذلك أيضا؛ فلم يلتفت أبو إسحاق إليهما، قال أبو عبد الله: لم يكن في القوم أشد تكفيرا لي منهما، وأما ابن سماعة فقال:
يا أمير المؤمنين؛ إنه من أهل بيت شرف ولهم قدم، ولعله يصير إلى الذي عليه أمير المؤمنين، فكأنه رق عندها، وكان إذا كلمني ابن أبي دواد لم ألتفت إلى كلامه، وإذا كلمني أبو إسحاق ألنت له القول؛ فقال في اليوم الثالث: أجبني يا أحمد، فإنه بلغني أنك تحب الرئاسة؛ وذلك لما أوغروا قلبه علي، وجعل برغوث يقول: قال الجبري كذا وكذا [يقصد لعنه الله الإمام أحمد] كلام هو الكفر بالله، فجعلت أقول ما أدري ما هذا، إلا أني أعلم أنه أحد صمد لا شبه له ولا عدل، وهو كما وصف نفسه، فسكت أخزاه الله، ثم قال لي المعتصم: يا أحمد؛ إني لأشفق عليك شفقتي على ابني هارون؛ فأجبني، والله لوددت أني لم أكن عرفتك يا أحمد؛ الله الله في دمك؛ فلما كان في آخر ذلك قال: لعنك الله؛ لقد طمعت أن تجيبني، ثم قال: خذوه واسحبوه [أي على العروسة]؛ فأخذت ثم خلعت، وجيء بعقابين وأسياط، وكان معي شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صيرت بين العقابين؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث»
يا أمير المؤمنين؛ فيم تستحل دمي؟!
الله الله لا تلق الله وبيني وبينك مطالبة، اذكر يا أمير المؤمنين وقوفك بين يدي الله عز وجل كوقوفي بين يديك، وراقب الله جل جلاله؛ فكأنه أمسك؛ فخاف ابن أبي دواد أن يكون منه عطف أو رأفة فقال: إنه كافر بالله تقدست أسماؤه ضال مضل» !!
حدث إبراهيم بن الحارث العبادي قال: قال أبو محمد الطفاوي:
«أخبرني بما صنعوا بك؟
قال رحمة الله عليه: لما ضربت بالسياط: جعلت أذكر كلام الأعرابي، ثم جاء ذاك الطويل اللحية [يعني عجيفا] فضربني بقائم السيف، ثم جاء ذاك فقلت: قد جاء الفرج يضرب عنقي فأستريح؛ فقال له ابن سماعة: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقه ودمه في رقبتي؛ فقال ابن أبي دواد:
لا يا أمير المؤمنين لا تفعل؛ فإنه إن قتل أو مات في دارك قال الناس: صبر حتى قتل فاتخذه الناس إماما وثبتوا على ما هم عليه، ولكن أطلقه الساعة؛ فإن مات خارجا من منزلك شك الناس في أمره وقال بعضهم: أجاب، وقال بعضهم لم يجب»
حدث إبراهيم بن إسحاق عن الحسن بن عبد العزيز الجروي قال: «دخلت أنا والحارث بن مسكين على أحمد حدثان ضربه؛ فقال لنا: ضربت فسقطت، وسمعت ذاك [يعني ابن أبي دواد] يقول: يا أمير المؤمنين؛ هو والله ضال مضل؛ فقال له الحارث: أخبرني يوسف بن عمر عن الإمام مالك عن الزهري أنه سعي به حتى ضرب بالسياط وعلقت كتبه في عنقه، ثم قال الإمام مالك: وقد ضرب سعيد بن المسيب وحلق رأسه ولحيته، وضرب أبو الزناد، وضرب محمد بن المنكدر وأصحاب له في حمام بالسياط، وما ذكر مالك نفسه، فأعجب أحمد بقول الحارث رحمة الله عليهما»
قال مكي بن عبدان: «ضرب جعفر بن سليمان مالكا تسعين سوطا سنة 147 هـ»
وروي عن محمد بن أبي سمينة عن شاباص التائب قال:
«لقد ضرب أحمد بن حنبل عظم الله أجره ثمانين سوطا، لو ضربته على فيل لهدته» قال محمد بن أبي حاتم الوراق: «سمعت أبي يقول: أتيت أبا عبد الله بعد ما ضرب بثلاث سنين أو نحوها؛ فجرى ذكر الضرب فقلت له: ذهب عنك ألم الضرب؟
فأخرج رحمة الله عليه يديه، وقبض كوعيه اليمين واليسار وقال: هذا: كأنه يقول قد خلعا»
حدث ابن أبي حاتم الوراق عن أبي زرعة الرازي أن المعتصم حين خشي من ثورة العامة غضبا على الإمام أحمد من التلف أخرجه لناس وقال: انظروا إليه؛ أليس هو صحيح البدن؟
قالوا: نعم، قال أبو زرعة الرازي: ولولا أنه فعل ذلك لكنت أخاف أن يقع شيء لا يقام له؛
فلما قال قد سلمته إليكم صحيح البدن هدأ الناس وسكنوا، ولو خرج عليه عامة بغداد ربما عجز عنهم»
قال ابن عمه حنبل:
«لما أمر المعتصم بتخلية أبي عبد الله: خلع عليه مبطنة وقميصا وطيلسانا، وقلنسوة وخفا، فبينا نحن على باب الدار، والناس في الميدان والدروب وغيرها وقد غلقت الأسواق؛ إذ خرج أبو عبد الله على دابة من دار المعتصم في تلك الثياب، وأحمد بن أبي دواد عن يمينه، وإسحاق بن إبراهيم والي بغداد عن يساره، فلما صار في الدهليز قبل أن يخرج قال لهم ابن أبي دواد: اكشفوا رأسه، وبعث إلى والدي وإلى جيراننا ومشايخ المحال فجمعوا وأدخلوا عليه، فقال لهم: هذا أحمد بن حنبل، وإن كان فيكم من يعرفه؛ وإلا فليعرفه» قال هذا تهدئة للناس
قال حنبل: «فلما ذهب لينزل احتضنته ولم أعلم، فوقعت يدي على موضع الضرب؛ فصاح رحمه الله؛ فنحيت يدي؛ فنزل متوكئا علي وأغلق الباب، ودخلنا معه، فرمى بنفسه على وجهه لا يقدر أن يتحرك إلا بجهد، ونزع ما كان خلع عليه فأمر به فبيع وتصدق بثمنه» قال محمد بن أبي حاتم الوراق: قال أبو الفضل صالح: «خلي عنه فصار إلى المنزل، ووجه إلى المطبق [كالمستشفى]، فجيء برجل ممن يبصر الضرب والعلاج فنظر إلى ضربه فقال:
قد رأيت من ضرب ألف سوط؛ ما رأيت ضربا مثل هذا؛ لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه، ثم أخذ ميلا [أي عودا]، فأدخله في بعض تلك الجراحات [ليسبر غورها، وليعرف هل هي جراحات سطحية أم عميقة]، فنظر إليه فقال: لم ينقب؟
وجعل يأتيه بالمراهم يعالجه، وكان قد أصاب وجهه غير ضربة، ومكث منكبا على وجهه ما شاء الله، ثم قال له: إن ها هنا شيئا أريد أن أقطعه؛ فجاء بحديدة فجعل يعلق اللحم بها فيقطعه بسكين معه، وهو صابر لذلك يجهر بحمد الله في ذلك، فبرأ منه، ولم يزل يتوجع من مواضع منه، وكان أثر الضرب بينا في ظهره إلى أن توفي، ودخلت عليه يوما فقلت له: بلغني أن رجلا جاء إليك فقال اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك فقلت: لا أجعل أحدا في حل؛ فتبسم أبي وسكت، وسمعت أبي يقول: لقد جعلت الميت في حل من ضربه إياي [أي المعتصم] ثم قال: مررت بهذه الآية: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله ({الشورى/40}
فنظرت في تفسيرها؛ فإذا هو ما أخبرنا هاشم بن القاسم أخبرنا المبارك بن فضالة قال: أخبرني من سمع الحسن يقول: إذا كان يوم القيامة جثت الأمم كلها بين يدي الله رب العالمين، ثم نودي أن لا يقوم إلا من أجره على الله؛ فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا»
فجعلت الميت في حل، ثم قال عظم الله أجره: وما على رجل أن لا يعذب الله أحدا بسببه»
قال أبو الحسين بن المنادي: حدثني جدي أبو جعفر قال: «لقيت أبا عبد الله؛ فرأيت في يديه مجمرة يسخن خرقة، ثم يجعلها على جنبه من الضرب، فقال: يا أبا جعفر؛ ما كان في القوم أرأف بي من المعتصم» المجمرة: التي يوضع فيها الجمر
قال ابن عمه حنبل: «لما أردنا علاجه؛ خفنا أن يدس ابن أبي دواد إلى المعالج فيلقي في دوائه سما؛ فعملنا الدواء والمرهم عندنا فكان في برنية؛ فإذا داواه رفعناها، وكان إذا أصابه البرد ضرب عليه» أي آلمه
قال محمد بن أبي حاتم الوراق: حدثني أحمد بن سنان قال:
«بلغني أن أحمد بن حنبل جعل المعتصم في حل يوم فتح عاصمة بابك وظفره بها، أو يوم فتح عمورية، فقال عظم الله أجره: هو في حل من ضربي»
قال حنبل: «سمعته عظم الله أجره يقول: كل من ذكرني ففي حل؛ إلا مبتدعا، وقد جعلت أبا إسحاق [يعني الخليفة المعتصم] في حل؛ رأيت الله عز وجل يقول: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ({النور/22} وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مسطح، وقال عظم الله أجره ورفع الله ذكره: وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم بسببك»؟!
مختارات