تابع الأمام أحمد بن حنبل
ـ مِحْنَةُ الْوَاثِق:
قَالَ حَنْبَل: «لَمْ يَزَلْ أَبُو عَبْدِ اللهِ بَعْدَ أَنْ بَرِئَ مِنَ الضَّرْبِ يَحْضُرُ الجُمُعَةَ وَالجَمَاعَةَ وَيُحَدِّثُ وَيُفْتي حَتىَّ مَاتَ المُعْتَصِمُ وَوَلِيَ ابْنُهُ الْوَاثِق؛ فَأَظْهَرَ مَا أَظْهَرَ مِنَ المِحْنَةِ وَالمَيْلِ إِلىَ أَحْمَدَ بْنِ أَبي دُوَادَ وَأَصْحَابِه؛ فَلَمَّا اشْتَدَّ الأَمْرُ عَلَى أَهْلِ بَغْدَاد، وَأَظْهَرَتِ الْقُضَاةُ المِحْنَةَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَفُرِّقَ بَيْنَ فَضْلٍ الأَنْمَاطِيِّ وَبَيْنَ امْرَأَتِه، وَبَيْنَ أَبي صَالِحٍ وَبَيْنَ امْرَأَتِه، كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ يَشْهَدُ الجُمُعَةَ وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ إِذَا رَجَعَ وَيَقُول: تُؤْتىَ الجُمُعَةُ لِفَضْلِهَا، وَالصَّلاَةُ تُعَادُ خَلْفَ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ المَقَالَة؛ فَجَاءَ نَفرٌ إِلىَ أَبي عَبْدِ اللهِ فَقَالُواْ: هَذَا الأَمْرُ قَدْ فَشَا وَتفَاقم، وَنَحْنُ نَخَافُهُ عَلَى أَكْثَرَ مِن هَذَا، وَذَكَرُواْ ابْنَ أَبي دُوَادَ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَأَنَّهُ عَلَى أَنْ يَأْمُرَ المُعَلِّمِينَ بِتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ في المكَاتِبِ الْقُرْآنُ كَذَا وَكَذَا، فَنَحْنُ لاَ نَرْضَى بِإِمَارَتِه؛ فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْر، فَبَيْنَمَا نَحْنُ في أَيَّامِ الْوَاثِقِ إِذْ جَاءَ يَعْقُوبُ لَيْلاً بِرِسَالَةِ الأَمِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلىَ أَبي عَبْدِ اللهِ يَقُولُ لَكَ الأَمِير: إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَدْ ذَكَرَك؛ فَلاَ يَجْتَمِعَنَّ إِلَيْكَ أَحَد، وَلاَ تُسَاكِنيِّ بِأَرْضٍ وَلاَ مَدينَةٍ أَنَا فِيهَا؛ فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ مِن أَرْضِ الله؛ فَاخْتَفَى أَبُو عَبْدِ اللهِ بَقِيَّةَ حَيَاةِ الْوَاثِق، وَكَانَتْ تِلْكَ فِتْنَةً، وَقُتِلَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الخُزَاعِيّ، وَلَمْ يَزَلْ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُخْتَفِيَاً في الْبَيْتِ لاَ يَخْرُجُ إِلىَ صَلاَةٍ وَلاَ إِلىَ غَيْرِهَا حَتىَّ هَلَكَ الْوَاثِق»
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئ: «اخْتَفَى أَبُو عَبْدِ اللهِ عِنْدِي ثَلاَثَاً ثمَّ قَال: اطْلُبْ لي مَوْضِعَاً؛ قُلْتُ: لاَ آمَنُ عَلَيْك قَالَ افْعَلْ؛ فَإِذَا فَعَلْتَ أَفَدْتُك؛ فَطَلَبْتُ لَهُ مَوْضِعَاً، فَلَمَّا خَرَجَ قَال: اخْتَفَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في الْغَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَحَوَّل»
عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ وَرَفَعَ ذِكْرَه؛ حَتىَّ في هُرُوبِهِ يَقْتَدِي بمَحْبُوبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
كَتَبَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الجَعْدِ قَاضِي بَغْدَادَ إِلىَ ابْنِ أَبي دُوَاد:
«إِنَّ أَحْمَدَ قَدِ انْبَسَطَ في الحَدِيث؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ الإِمَامَ أَحْمَد؛ فَقَطَعَ الحَدِيثَ إِلىَ أَنْ تُوُفِّيَ» قَالَ ابْنُهُ صَالِح: «وَجَّهَ إِسْحَاقُ إِلىَ أَبي: الْزَمْ بَيْتَكَ وَلاَ تَخْرجْ إِلىَ جَمَاعَةٍ وَلاَ جُمُعَة، وَإِلاََّ نَزَلَ بِكَ مَا نَزَلَ بِكَ أَيَّامَ المُعْتَصِم»
ـ قِصَّتُهُ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ وَأَثَابَ صَبرَهُ مَعَ الخَلِيفَةِ المُتَوَكِّل:
قَالَ ابْنُ عَمِّهِ حَنْبَل: «وَلِيَ المُتَوَكِّلُ جَعْفَرٌ، فَأَظْهَرَ السُّنَّةَ وَفَرَّجَ عَنِ النَّاس، وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ يُحَدِّثُنَا وَيُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ في أَيَّامِ المُتَوَكِّل»
قَالَ ابْنُ عَمِّهِ حَنْبَل: «إِنَّ المُتَوَكِّلَ ذَكَرَهُ، وَكَتَبَ إِلىَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ في إِخْرَاجِهِ إِلَيْه؛ فَجَاءَ رَسُولُ إِسْحَاقَ إِلىَ أَبي عَبْدِ اللهِ يَأْمُرُهُ بِالحُضُور؛ فَمَضَى أَبُو عَبْدِ اللهِ ثمَّ رَجَع، فَسَأَلَهُ أَبي عَمَّا دُعِيَ لَهُ؟
فَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَه: قَرَأَ عَلَيَّ كِتَابَ جَعْفَرٍ يَأْمُرُني بِالخُرُوجِ إِلىَ الْعَسكر [بِسُرَّ مَنْ رَأَى]
وَقَالَ لي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيم: مَا تَقُولُ في الْقُرْآن؟ فَقُلْتُ: إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَى عَن هَذَا؛ فَقَالَ لي: لاَ تُعْلِمْ أَحَدَاً أَنيِّ سَأَلْتُكَ عَنِ الْقُرْآن؛ فَقُلْتُ لَهُ: مَسْأَلَةُ مُسْتَرْشِدٍ أَوْ مَسْأَلَةُ مُتَعَنِّت؟
قَال: بَلْ مُسْتَرْشِد؛ قُلْتُ: الْقُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوق»
قَالَ صَالحُ بْنُ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه: قَالَ أَبي عَظَّمَ اللهُ أَجْرَه: قَالَ لي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيم: اجعَلْني في حِلٍّ مِن حُضُورِي ضَرْبَك؛ فَقُلْتُ: قَدْ جَعَلْتُ كُلَّ مَن حَضَرَني في حِلّ، وَقَالَ لي: مِن أَيْنَ قُلْتَ: نَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟
فَقُلْتُ: قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلاَ: (أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْر ({الأَعْرَاف/54}
فَفَرَّقَ بَيْنَ الخَلْقِ وَالأَمْر؛ فَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيم: الأَمْرُ مَخْلُوق؛ ثمَّ قَال: يَا سُبْحَانَ الله؛ أَمَخْلُوقٌ يَخْلُقُ خَلْقَاً؟! [أَيْ إِنْ كَانَتْ «كُنْ» مَخْلُوقَةً؛ أَمَخْلُوقٌ يَخْلُقُ خَلْقَاً]؟!
ثُمَّ قَالَ لي [أَيْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ لِلإِمَامِ أَحْمَد]: عَمَّنْ تَحْكِي أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوق؟ قُلْتُ: عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محَمَّدٍ قَال: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلاَ مَخْلُوق»
قَالَ حَنْبَل: لَمْ يَكُن عِنْدَ أَبي عَبْدِ اللهِ مَا يَتَحَمَّلُ بِهِ أَوْ يُنْفِقُهُ، وَكَانَتْ عِنْدِي مِاْئَةُ دِرْهَم؛ فَأَتَيْتُ بِهَا أَبي؛ فَذَهَبَ بِهَا إِلَيْه، فَأَصْلَحَ بِهَا مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَاكْتَرَى وَخَرَج، وَلَمْ يَمْضِ إِلىَ محَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَلاَ سَلَّمَ عَلَيْه؛ فَكَتَبَ بِذَلِكَ محَمَّدٌ إِلىَ أَبِيه؛ فَحَقَدَهَا إِسْحَاقُ عَلَيْهِ وَقَال: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين؛ إِنَّ أَحْمَدَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ وَلَمْ يَأْتِ مَولاَكَ محَمَّدَاً؛ فَقَالَ المُتَوَكِّلُ: يُرَدُّ وَلَوْ وَطِئَ بِسَاطِي، وَكَانَ أَحْمَدُ قَدْ بَلَغَ بُصْرَى [مَدِينَةٌ جَنُوبَ سُورِيَّةَ قُرْبَ الأُرْدُن]؛ فَرُدَّ، فَرَجَعَ وَامْتَنَعَ مِنَ الحَدِيثِ إِلاََّ لِوَلَدِهِ وَلَنَا، وَرُبَّمَا قَرَأَ عَلَيْنَا في مَنْزِلِنَا، ثُمَّ إِنَّ رَافِعَاً رَفَعَ إِلىَ المُتَوَكِّلِ: إِنَّ أَحْمَدَ رَبَّصَ عَلَوِيَّاً في مَنْزِلِهِ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ وَيُبَايِعَ عَلَيْه، وَلَمْ يَكُن عِنْدنَا عِلم؛ فَبَينَا نحْنُ ذَاتَ لَيْلَةٍ نِيَامٌ في الصَّيْف؛ سَمِعْنَا الجَلَبَةَ وَرَأَيْنَا النِّيرَانَ في دَارِ أَبي عَبْدِ الله؛ فَأَسْرَعْنَا، وَإِذَا بِهِ قَاعِدٌ في إِزَار، وَمُظَفَّرُ بْنُ الْكَلْبيِّ صَاحِبُ الخَبَرِ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُمْ؛ فَقَرَأَ صَاحِبُ الخَبَرِ كِتَابَ المُتَوَكِّل: «وَرَدَ عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ أَنَّ عِندَكُمْ عَلَوِيَّاً رَبَّصْتَهُ لِتُبَايِعَ لَهُ وَتُظْهِرَهُ في كَلاَمٍ طَوِيل، ثُمَّ قَالَ لَهُ مُظَفَّر: مَا تَقُول؟
قَال: مَا أَعْرِفُ مِن هَذَا شَيْئَاً، وَإِنيِّ لأَرَى لَهُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ في عُسْرِي وَيُسْرِي وَمَنْشَطِي وَمَكْرَهِي وَأَثَرَةٍ عَلَيّ، وَإِنيِّ لأَدْعُو اللهَ لَهُ بِالتَّسْدِيدِ وَالتَّوْفِيقِ في اللَّيْلِ وَالنَّهَار في كَلاَمٍ كَثِير؛ فَقَالَ مُظَفَّر: قَدْ أَمَرَني أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ أَن أُحَلِّفَك؛ فَأَحْلَفَهُ بِالطَّلاَقِ ثَلاَثَاً أَنَّ مَا عِنْدَهُ طِلْبَةَ أَمِيرِ المُؤْمِنِين، ثُمَّ فَتَّشواْ مَنْزِلَ أَبي عَبْدِ اللهِ وَالسَّرْبَ وَالغُرَفَ وَالسُّطُوح، وَفَتَّشُواْ تَابُوتَ الْكُتُب، وَفَتَّشُواْ النِّسَاءَ وَالمَنَازِل؛ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئَاً؛ فَوَلَّواْ مُدْبِرِين، وَرَدَّ اللهُ كَيْدَ الخَائِنِين، وَكُتِبَ بِذَلِكَ إِلىَ المُتَوَكِّل؛ فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنهُ مَوْقِعَاً حَسَنَاً، وَعَلِمَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ مَكْذُوبٌ عَلَيْه، وَكَانَ الَّذِي دَسَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِن أَهْلِ الْبِدَع، وَلَمْ يَمُتْ حَتىَّ بَيَّنَ اللهُ أَمْرَهُ لِلْمُسْلِمِين: وَهُوَ ابْنُ الثَّلْجِيّ»
وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى لاِبْنِ الْكَلْبيّ: «أُرِيدُ أَن أُفتِّشَ مَنْزِلَكَ وَمَنْزِلَ ابْنِك؛ فَقَامَ مُظَفَّرٌ وَابْنُ الْكَلْبيِّ وَامْرَأَتَانِ مَعَهُمَا؛ فَفَتَّشواْ، وَدَلَّوْاْ شَمْعَةً في الْبِئْرِ وَنَظَرُواْ فِيهَا، ثُمَّ خَرَجُواْ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ يَوْمَيْن: وَرَدَ كِتَابُ عَلِيِّ بْنِ الجَهْم: إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُ بَرَاءتُك »
وَيُكْمِلُ حَنْبَلٌ رِوَايَتَهُ قَائِلاً: «فلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ بِبَابِ الدَّار: إِذَا يَعْقُوبُ أَحَدُ حُجَّابِ المُتَوَكِّلِ قَدْ جَاءَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى أَبي عَبْدِ الله؛ فَدَخَلَ وَدَخَلَ أَبي وَأَنَا، وَمَعَ بَعْضِ غِلْمَانِهِ بَدْرَةٌ عَلَى بَغْل، وَمَعَهُ كِتَابُ المُتَوَكِّل؛ فَقَرَأَهُ عَلَى أَبي عَبْدِ الله: «إِنَّه صَحَّ عِنْدَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ بَرَاءَةُ سَاحَتِك، وَقَدْ وَجَّهَ إِلَيْكَ بِهَذَا المَالِ تَسْتَعِينُ بِهِ» فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ رَحمَهُ اللهُ وَقَال: مَا لي إِلَيْهِ حَاجَة؛ فَقَال: يَا أَبَا عَبْدِ الله؛ اقْبَلْ مِن أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ مَا أَمَرَكَ بِه؛ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكَ عِنْدَه، فَإِنَّكَ إِنْ رَدَدْتَهُ خِفْتُ أَنْ يَظُنَّ بِكَ سُوءَاً؛ فَحِينَئِذٍ قَبِلهَا، فَلَمَّا خَرَجَ قَال: يَا أَبَا عَلِيّ؛ قُلْتُ لَبَّيْك؛ قَال: ارْفَعْ هَذِهِ الْبَدْرَةَ وَضَعْهَا تَحْتَهَا أَيْ تَحْتَ الْبَغْلَة، ثُمَّ تَمَلْمَلَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَمَا نَامَ حَتىَّ دَعَا بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ فَكَتَبُواْ مَنْ يَعْرِفُونَ مِن أَهْلِ البِرِّ وَالصَّلاَحِ مِنْ فُقَرَاءِ طَلَبَةِ الْعِلْم؛ فَفَرَّقهَا كُلَّهَا مَا بَيْنَ الخَمْسِينَ إِلىَ الماْئَةِ وَالماْئَتَيْن؛ فَمَا بَقِيَ في الْكِيسِ دِرْهَم، فلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِك، مَاتَ الأَمِيرُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنُهُ محَمَّد، ثمَّ وَلِيَ بَغْدَادَ عَبْدُ اللهِ بْنُ إِسْحَاق؛ فَجَاءَ رَسُولٌ إِلىَ أَبي عَبْدِ اللهِ فَذَهَبَ إِلَيْه، فَقَرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ المُتَوَكِّل، وَقَالَ لَه: يَأْمرُكَ بِالخُرُوج [يَعْني: إِلىَ سَامَرَّاء]؛ فَقَالَ رَحمَهُ الله: أَنَا شَيْخٌ ضَعِيفٌ عَليل؛ فَكَتَبَ لَهُ بِذَلِك ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ يَرُدُّ عَلَيْه؛ فَوَرَدَ جَوَابُ الْكِتَاب: إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ يَأْمُرُهُ بِالخُرُوج؛ فَوجَّهَ عَبْدُ اللهِ بْنُ إِسْحَاقَ أَجْنَادَاً فَبَاتُواْ عَلَى بَابِنَا أَيَّامَاً، حَتىَّ تَهَيَّأَ أَبُو عَبْدِ اللهِ لِلْخُرُوج، فَخَرَجَ وَمَعَهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللهِ وَأَبي»
ـ زُهْدُهُ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ مَعَ الْغِنى وَكَثْرَةِ المَال:
قَالَ ابْنُ عَمِّهِ حَنْبَل: أَخْبَرَني أَبي إِسْحَاقُ رَحمَهُ اللهُ قَال: «دَخلْنَا إِلىَ الْعَسْكَر؛ فَإِذَا نَحْنُ بِمَوْكِبٍ عَظِيمٍ مُقْبِل؛ فَلَمَّا حَاذَى بِنَا قَالُواْ: هَذَا وَصِيف، وَإِذَا بِفَارِسٍ قَدْ أَقْبَلَ فَقَالَ لأَبي عَبْدِ الله: الأَمِيرُ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لَك: إِنَّ اللهَ قَدْ أَمْكَنَكَ مِن عَدُوِّكَ [يَقْصِدُ ابْنَ أَبي دُوَاد] وَأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ يَقْبَلُ مِنْك؛ فَلاَ تَدَعْ شَيْئَاً إِلاََّ تَكَلَّمْتَ بِه؛ فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ شَيْئَاً، وَجَعَلْتُ أَنَا أَدْعُو لأَمِيرِ المُؤْمِنِين، وَدَعَوْتُ لِوَصِيف، وَمَضَيْنَا فَأُنْزِلْنَا في دَارِ إِيتَاخ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَبُو عَبْدِ الله؛ فَسَأَلَ بَعْدُ لِمَن هَذِهِ الدَّار؟
قَالُواْ: هَذِهِ دَارُ إِيتَاخ؛ قَالَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَه: حَوِّلُوني، اكْتَرُواْ لي دَارَاً؛ قَالُواْ: هَذِهِ دَارٌ أَنْزَلَكَهَا أَمِيرُ المُؤْمِنِين؛ قَال: لاَ أَبِيْتُ هَا هُنَا، وَلَمْ يَزَلْ حَتىَّ اكْتَرَيْنَا لَهُ دَارَاً، وَكَانَتْ تَأْتِينَا في كُلِّ يَوْمٍ مَائِدَةٌ فِيهَا أَلْوَانٌ يَأْمُرُ بِهَا المُتَوَكِّل، وَالثَّلْجُ وَالفَاكِهَةُ وَغَيْرُ ذَلِك؛ فَمَا ذَاقَ مِنهَا أَبُو عَبْدِ اللهِ شَيْئَاً وَلاَ نَظَرَ إِلَيْهَا، وَكَانَ نَفَقَةُ المَائِدَةِ في اليَوْم: مِاْئَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمَاً، وَكَانَ يحْيىَ بْنُ خَاقَانَ وَابْنُهُ عُبَيْدُ الله، وَعَلِيُّ بْنُ الجَهْمِ يخْتَلِفُونَ إِلىَ أَبي عَبْدِ اللهِ بِرَسَائِلِ المُتَوَكِّل، وَدَامتِ الْعِلَّةُ بِأَبي عَبْدِ اللهِ وَضَعُفَ ضَعْفَاً شَدِيدَاً، وَكَانَ يُوَاصِلُ الصِّيَام، وَمَكَثَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَب، فَفِي الثَّامِنِ دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَقَدْ كَادَ أَنْ يُطْفَأ [أَيْ يَمُوت]، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الله؛ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَانَ يُوَاصِلُ سَبْعَةً، وَهَذَا لَكَ اليَوْمَ ثَمَانيَةُ أَيَّام؛ قَالَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ: إِنيِّ مُطِيق؛ قُلْتُ: بِحَقِّي عَلَيْك؛ قَالَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ فَإِنيِّ أَفْعَل؛ فَأَتَيْتُهُ بِسَوِيق، فَشَرِب، وَوجَّهَ إِلَيْهِ المُتَوَكِّلُ بِمَالٍ عَظِيمٍ فَرَدَّهُ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ يحْيىَ بْنِ خَاقَان: إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَدْفَعَهَا إِلىَ وَلَدِكَ وَأَهْلِك؛ قَال: هُمْ مُسْتَغْنُون؛ فَرَدَّهَا عَلَيْه، فَأَخَذَهَا عُبَيْدُ اللهِ فَقَسَّمَهَا عَلَى وَلَدِه، ثُمَّ أَجْرَى المُتَوَكِّلُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ في كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ آلاَف، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللهِ إِنَّهُمْ في كِفَايَة، وَلَيْسَتْ بِهِمْ حَاجَة؛ فَبَعَثَ إِلَيْهِ المُتَوَكِّل: إِنَّمَا هَذَا لِوَلَدِك؛ فَمَا لَكَ وَلِهَذَا؟
فَأَمْسَكَ أَبُو عَبْدِ الله؛ فَلَمْ يَزَلْ يُجْرَى عَلَيْنَا حَتىَّ مَاتَ المُتَوَكِّل، وَجَرَى بَيْنَ أَبي عَبْدِ اللهِ وَبَيْنَ أَبي كَلاَمٌ كَثِير: قَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ الله: يَا عَمّ؛ مَا بَقِيَ مِن أَعْمَارِنَا، كَأَنَّكَ بِالأَمْرِ قَدْ نَزَل؛ فَاللهَ اللهَ؛ فَإِنَّ أَوْلاَدَنَا إِنَّمَا يُرِِيدُونَ أَنْ يَأْكُلُواْ بِنَا، وَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلاَئِل، وَإِنَّ هَذِهِ فِتْنَة؛ قَالَ أَبي لأَبي عَبْدِ الله: أَرْجُو أَنْ يُؤَمِّنَكَ اللهُ مِمَّا تَحْذَر؛ قَالَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَه: كَيْفَ وَأَنْتُمْ لاَ تَتْرُكُونَ طَعَامَهُمْ وَلاَ جَوَائِزَهُمْ؟
لَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَتَرَكُوكُمْ؛ مَاذَا نَنْتَظِر؟
إِنَّمَا هُوَ المَوْت؛ فَإِمَّا إِلىَ جنَّةٍ وَإِمَّا إِلىَ نَار، فَطُوبىَ لِمَنْ قَدِمَ عَلَى خَيْر؛ فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرْتَ مَا جَاءَكَ مِن هَذَا المَالِ مِن غَيْرِ إِشْرَافِ نَفْسٍ وَلاَ مَسْأَلَةٍ أَنْ تَأْخُذَه؟ قَالَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَه: قَدْ أَخذْتُ مَرَّةً بِلاَ إِشرَافِ نَفْس؛ فَالثَّانيَة؛ وَالثَّالِثَة 00؟
أَلَمْ تَسْتَشْرِفْ نَفْسُك؟
قُلْتُ: أَفَلَمْ يَأْخُذِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا؟
فَقَال: مَا هَذَا وَذَاك، وَقَال: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا المَالَ يُؤْخَذُ مِنْ وَجْهِه، وَلاَ يَكُونُ فِيهِ ظُلْمٌ وَلاَ حَيْف، لَمْ أُبالِ»
قَالَ ابْنُهُ صَالِحٌ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْه: قَدِمَ المُتَوَكِّلُ فَنَزَلَ الشَّمَّاسِيَّة؛ يُرِيدُ المَدَائِن؛ فَقَالَ لي أَبي: أُحِبُّ أَنْ لاَ تَذْهَبَ إِلَيْهِمْ تُنَبِّهُ عَلَيّ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ يَوْمٍ أَنَا قَاعِدٌ، وَكَانَ يَوْمَاً مَطيرَاً، فَإذَا بِيَحْيىَ بْنِ خَاقَانَ قَدْ جَاءَ في مَوْكِبٍ عَظِيمٍ وَالمَطَرُ عَلَيْه، فَقَالَ لي: سُبْحَانَ الله؛ لَمْ تَصِرْ إِلَيْنَا حَتىَّ تُبْلِغَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ السَّلاَمَ عَنْ شَيْخِكَ حَتىَّ وَجَّهَ بي، ثُمَّ نَزَلَ خَارِجَ الزُّقَاق؛ فَجَهِدْتُ بِهِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الدَّابَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَجَعَلَ يَخُوضَ المَطَر، فَلَمَّا وَصلَ نَزَعَ جُرْمُوقَهُ وَدَخَلَ [أَيْ خُفَّهُ]، وَأَبي في الزَّاويَةِ عَلَيْهِ كسَاء، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقبَّلَ جَبْهَتَهُ، وَسَاءَلَهُ عَن حَالِهِ وَقَال: أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لَك: كَيْفَ أَنْتَ في نَفْسِك، وَكَيْفَ حَالُك؟
وَقَدْ أَنِسْتُ بِقُرْبِك، وَيَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ لَهُ؛ فَقَالَ رَحمَهُ الله: مَا يَأْتي عَلَيَّ يَوْمٌ إِلاََّ وَأَنَا أَدْعُو اللهَ لَهُ، ثُمَّ قَال: قَدْ وَجَّهَ مَعِي أَلْفَ دِينَارٍ تُفرِّقُهَا عَلَى أَهْلِ الحَاجَة؛ فَقَالَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه: يَا أَبَا زَكَرِيَّا؛ أَنَا في بَيْتٍ مُنْقَطِع، وَقَدْ أَعْفَاني مِنْ كُلِّ مَا أَكْرَه، وَهَذَا مِمَّا أَكْرَه؛ قَال: يَا أَبَا عَبْدِ الله، الخُلَفَاءُ لاَ يَحْتَمِلُونَ هَذَا؛ فَقَال: يَا أَبَا زَكَرِيَّا، تَلَطَّفْ في ذَلِك، وَدَعَا لَهُ، فَقَامَ يَحْيىَ، فَلَمَّا صَارَ إِلىَ الْبَابِ رَجَعَ وَقَال: هَكَذَا لَوْ وَجَّهَ إِلَيْكَ بَعْضُ إِخْوَانِكَ كُنْتَ تَفْعَل؟
قَال: نَعَمْ؛ قَالَ صَالِح: فَلَمَّا صِرْنَا إِلىَ الدِّهْلِيزِ قَال: أَمَرَني أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ أَدْفَعُهَا إِلَيْكَ تُفَرِّقهَا؛ فَقُلْتُ: تَكُونُ عِنْدَكَ إِلىَ أَنْ تَمْضِيَ هَذِهِ الأَيَّام» قَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَلاََّل: حَدَّثَني محَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ المَرُّوذِيَّ حَدَّثهُمْ فَقَال:
«كُنْتُ رُبَّمَا بَللْتُ خُبْزَهُ بِالمَاءِ فَيَأْكُلُهُ بِالمِلْحِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه، وَمُنْذ دَخَلْنَا الْعَسْكَرَ إِلىَ أَن خَرَجْنَا، مَا ذَاقَ طَبِيخَاً وَلاَ دَسَمَاً»
قَالَ أَبُو بَكْرٍ المَرُّوذِيّ: «أَنْبَهَني أَبُو عَبْدِ اللهِ رَحمَهُ اللهُ لَيْلَةً وَكَانَ قَدْ وَاصَلَ الصِّيَامَ فَقَال: هُوَ ذَا يُدَارُ بي مِنَ الجُوع [أَيْ أَصَابَني دُوَار؛ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَام]؛ فَأَطْعِمْني شَيْئَاً؛ جِئْتُهُ بِأَقَلَّ مِنْ رَغِيف؛ فَأَكَلَهُ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَال: لَوْلاَ أَنيِّ أَخَافُ الْعَوْنَ عَلَى نَفْسِي مَا أَكَلْت، وَكَانَ يَقُومُ إِلىَ المَخْرَجِ فَيَقْعُدُ يَسْتَريحُ مِنَ الجُوع، حَتىَّ إِنْ كُنْتُ لأَبُلُّ الخِرْقَةَ؛ فَيُلْقِيهَا عَلَى وَجْهِهِ لِتَرْجِعَ نَفْسُهُ إِلَيْهِ، حَتىَّ إِنَّهُ أَوْصَى مِنَ الضَّعْفِ مِن غَيْرِ مَرَض»
ـ عَوْدَتُهُ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ إِلىَ مَوْطِنِه:
قَالَ حَنْبَل: «وَلَمَّا طَالَتْ عِلَّةُ أَبي عَبْدِ اللهِ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ كَانَ المُتَوَكِّلُ يَبْعَثُ بِابْنِ مَاسَوَيْه الطَّبِيب، فَيَصِفُ لَهُ الأَدْوِيَةَ فَلاَ يَتَعَالَج، وَيَدْخُلُ ابْنُ مَاسَوَيْهِ عَلَيْهِ فَيَقُول: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين؛ لَيْسَتْ بِأَحْمَدَ عِلَّة، إِنَّمَا هُوَ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ وَالعِبَادَة؛ فَيَسْكُتُ المُتَوَكِّل، وَبَلَغَ أُمَّ المُتَوَكِّلِ خَبَرُ أَبي عَبْدِ الله؛ فَقَالَتْ لاِِبْنِهَا: أَشْتَهِي أَن أَرَى هَذَا الرَّجُل؛ فَوَجَّهَ المُتَوَكِّلُ إِلىَ أَبي عَبْدِ اللهِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى ابْنِهِ المُعْتَزِّ وَيَدْعُوَ لَهُ وَيُسَلِّمَ عَلَيْه، وَيَجْعَلَهُ في حِجْرِهِ؛ فَامْتَنَعَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه، ثمَّ أَجَابَ رَحمَهُ اللهُ رَجَاءَ أَنْ يُطْلَقَ وَيَنحَدِرَ إِلىَ بَغْدَاد؛ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ المُتَوَكِّلُ خِلْعَةً وَأَتَوْهُ بِدَابَّةٍ يَرْكَبُهَا؛ فَامْتَنَعَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه؛ وَكَانَتْ عَلَيْهِ مِيثَرَةُ نُمُور، فَقُدِّمَ إِلَيْهِ بَغْلٌ لِتَاجِرٍ فَرَكِبَهُ، وَجَلَسَ المُتَوَكِّلُ مَعَ أُمِّهِ في مَجْلِسٍ مِنَ المَكَان، وَعَلَى المَجْلِسِ سِتْرٌ رَقِيق، فَدَخَلَ أَبُو عَبْداللهِ عَلَى المُعْتَزّ، وَنَظَرَ إِلَيْهِ المُتَوَكِّلُ وَأُمُّهُ؛ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: يَا بُنيَّ، اللهَ اللهَ في هَذَا الرَّجُل؛ فَلَيْسَ هَذَا مِمَّنْ يُرِيدُ مَا عِنْدَكُمْ، وَلاَ المَصْلَحَةُ أَنْ تَحْبِسَه عَنْ مَنْزِلِهِ؛ فَأْئْذَنْ لَهُ لِيَذْهَب، وَدَامَتْ عِلَّةُ أَبي عَبْدِ اللهِ رَحمَهُ الله، وَبَلَغَ المُتَوَكِّلَ مَا هُوَ فِيه، وَكَلَّمَهُ يحْيىَ بْنُ خَاقَانَ أَيْضَاً، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَجُلٌ لاَ يُرِيدُ الدُّنْيَا؛ فَأَذِنَ لَهُ في الاِنْصِرَاف؛ فَجَاءَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ يحْيىَ وَقْتَ الْعَصْرِ فَقَال: نَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَدْ أَذِنَ لَكَ في الرُّجُوعِ إِلىَ بَغْدَاد؛ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله: اطْلُبُواْ لي زَوْرَقَاً أَنحَدِرِ السَّاعَة؛ فَطَلَبُواْ لَهُ زَوْرَقَاً فَانْحَدَرَ لِوَقْتِِهِ»
قَالَ حَنْبَل: «فَمَا عَلِمْنَا بِقُدُومِهِ حَتىَّ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ وَافَى؛ فَاسْتَقْبَلْتُهُ بِنَاحِيَةِ الْقَطِيعَةِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنَ الزَّوْرَقِ، فَمَشَيْتُ مَعَهُ، فَقَالَ لي: تَقَدَّمْ لاَ يَرَاكَ النَّاسُ فَيَعْرِفُونَني، فَتَقَدَّمْتُهُ؛ فَلَمَّا وَصَلَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه: أَلْقَى نَفْسَهُ عَلَى قَفَاهُ مِنَ التَّعَبِ وَالإِعْيَاء، وَكَانَ رُبَّمَا اسْتَعَارَ الشَّيْءَ مِنْ مَنْزِلِنَا وَمَنْزِلِ وَلَدِهِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْنَا مِنْ مَالِ السُّلْطَانِ مَا صَارَ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِك، حَتىَّ لَقَدْ وُصِفَ لَهُ في عِلَّتِهِ قَرْعَةٌ تُشْوَى، فَعَلِمَ أَنَّهَا شُوِيَتْ في تَنُّورِ صَالِحٍ فَلَمْ يَسْتَعمِلْهَا، وَمِثلُ هَذَا كَثِير»
ـ رِوَايَاتُ ابْنِهِ صَالِحٍ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْه:
ذَكَرَ صَالِحٌ قِصَّةَ خُرُوجِ أَبِيهِ إِلىَ الْعَسْكَرِ وَرُجُوعِهِ وَتَفْتِيشِ بُيُوتِهِمْ عَلَى الْعَلَوِيِّ وَخَبرَ البَدرَة، وَأَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ بَكَى وَقَال: سَلِمْتُ مِنهُمْ حَتىَّ إِذَا كُنْتُ في آخِرِ عُمُرِي بُلِيْتُ بِهِمْ، عَزمْتُ عَلَيْكَ أَنْ تُفرِّقَهَا غَدَاً، فَلَمَّا أَصْبَحَ، جَاءَهُ حَسَنُ بْنُ الْبَزَّارِ فَقَال: جِئني يَا صَالحُ بِمِيزَان، وَجِّهُواْ إِلىَ أَبْنَاءِ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار، وَإِلىَ فُلاَنٍ وَفُلاَن، حَتىَّ فَرَّقَ الجَمِيعَ وَنَحْنُ في حَالٍ اللهُ بِهَا عَلِيم؛ فَكَتَبَ صَاحِبُ الْبَرِيد: إِنَّه تَصدَّقَ بِالكُلِّ في يَوْمِهِ، حَتىَّ بِالكِيس !!
قَالَ صَالِح: وَدَخَلْنَا الْعَسْكَر، ثمَّ جَاءَ في إِثْرِنَا وَصِيفٌ يُرِيدُ الدَّار، وَوَجَّهَ إِلىَ أَبي يَحْيىَ بْنِ هَرْثَمَة، فَقَال: يُقْرِئُكَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لَك: الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْ بِكَ أَهْلَ الْبِدَع، قَدْ عَلِمتَ حَالَ ابْنِ أَبي دُوَادَ [أَيْ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ فَسَادِ الاِعْتِقَاد]، فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَكَلَّمَ فِيهِ بِمَا يَجِبُ لله، وَمَضَى يحْيىَ وَأُنْزِلَ أَبي في دَارِ إِيتَاخ، فَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ الجَهْمِ فَقَال: قَدْ أَمَرَ لَكُمْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ بِعَشْرَةِ آلاَفٍ مَكَانَ الَّتي فَرَّقَهَا، وَأَنْ لاَ يَعْلَمَ شَيْخُكُمْ بِذَلِكَ فَيَغْتَمّ»
وَزَادَ صَالِحٌ في رِوَايَتِهِ أَيْضَاً فَقَال: «أَخْبَرَني بَعْضُ الخَدَمِ أَنَّ المُتَوَكِّلَ كَانَ قَاعِدَاً وَرَاءَ السِّتْر؛ فَقَالَ لأُمِّهِ: يَا أُمَّه، قَدْ أَنَارَتِ الدَّار، قَالَ صَالِح: فَلَمَّا جَاءَ نَزَعَ الثِّيَابَ وَجَعَلَ يَبْكِي، وَقَال: سَلِمْتُ مِن هَؤُلاَءِ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَة، حَتىَّ إِذَا كَانَ في آخِرِ عُمُرِي بُلِيْتُ بِهِمْ، مَا أَحْسَبُني سَلِمْتُ مِنْ دُخُولي عَلَى هَذَا الْغُلاَم؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يَجِبُ عَلَيَّ نُصْحُه؟
يَا صَالِح؛ وَجِّهْ بِهَذِهِ الثِّيَابِ إِلىَ بَغْدَادَ لِتُبَاعَ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا، وَلاَ يَشْتَرِي أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنهَا شَيْئَاً، وَجَعَلَتْ رُسُلُ المُتَوَكِّلِ تَأْتِيهِ يَسْأَلُونَه عَن خَبَرِهِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه، وَيَرْجِعُونَ فَيَقُولُون: هُوَ ضَعِيف، وَفي خِلاَلِ ذَلِكَ يَقُولُون: يَا أَبَا عَبْدِ الله؛ لاَ بُدَّ مِن أَنْ يَرَاك، وَجَاءَهُ يَعْقُوبُ فَقَال: أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ مُشْتَاقٌ إِلَيْكَ وَيَقُول: انْظُرْ يَوْمَاً تَسِيرُ فِيهِ حَتىَّ أُعَرِّفَه؛ فَقَالَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَه: ذَاكَ إِلَيْكُمْ؛ فَقَال: يَوْمُ الأَربِعَاء»
ـ كَيْفَ أَلْقَى اللهُ جَلَّ وَعَلاَ محَبَّتَهُ في قَلْبِ المُتَوَكِّلِ رَغْمَ زُهْدِهِ في دِينَارِهِ وَجِوَارِهِ:
قَالَ ابْنُهُ صَالِح: «كَانَ يخْتِمُ الْقُرْآنَ مِنْ جُمُعَةٍ إِلىَ جُمُعَة، وَإِذَا خَتَمَ دَعَا وَنحْنُ نُؤَمِّن، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ الجُمُعَة: وَجَّهَ إِلَيَّ وَإِلىَ أَخِي، فَلَمَّا خَتَمَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ: جَعَلَ يَدْعُو وَنحْنُ نُؤَمِّن، ثمَّ قَال: وَاللهِ لَقَدْ تَمنَّيْتُ المَوْتَ في الأَمْرِ الَّذِي كَان [أَيِ المحْنَة]، وَإِنيِّ لأَتَمَنىَّ المَوْتَ في هَذَا وَذَاك، [أَيْ أَتَمَنىَّ المَوْتَ هَرَبَاً مِنَ المُقَابَلَة؛ كَمَا كُنْتُ أَتَمَنَّاهُ خَوْفَ المحْنَة] إِنَّ هَذَا فِتْنَةُ الدُّنْيا، وَذَاكَ فِتنَةُ الدِّين، ثمَّ جَعَل عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ يَضُمُّ أَصَابِعَهُ وَيَقُول: لَوْ كَانَتْ نَفْسِي في يَدِي لأَرْسَلْتُهَا ثُمَّ يَفْتَحُ أَصَابِعَه، وَكَانَ المُتَوَكِّلُ يُكْثِرُ السُّؤَالَ عَنهُ، وَفي خِلاَلِ ذَلِكَ يَأْمُرُ لَنَا بِالمَالِ وَيَقُول: لاَ يَعْلَمْ شَيْخُهُمْ فَيَغْتَمّ؛ مَا يُرِيدُ مِنهُمْ؟ إِنْ كَانَ هُوَ لاَ يُرِيدُ الدُّنْيَا، فَلِمَ يَمْنَعُهُمْ؟
وَقَالُواْ لِلْمُتَوَكِّل: إِنَّه لاَ يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِكَ وَلاَ يَجْلِسُ عَلَى فِرَاشِك، وَيُحرِّمُ الَّذِي تَشْرَب؟!
فَقَالَ غَفَرَ اللهُ لَه: لَوْ نُشِرَ المُعْتَصِمُ وَقَالَ لي فِيهِ شَيْئَاً: لَمْ أَقْبَلْ مِنهُ»
قَالَ ابْنُهُ صَالِحٌ أَيْضَاً: ثمَّ انحدرْتُ إِلىَ بَغْدَادَ وَخَلَّفْتُ عَبْدَ اللهِ عِنْدَه، فَإذَا عَبْدُ اللهِ قَدْ قَدِمَ؛ فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟ قَال: أَمَرَني أَن أَنْحَدِرَ وَقَال: قُلْ لِصَالِح: لاَ تَخْرُجْ؛ فَأَنْتُمْ كُنْتُمْ آفَتي، وَاللهِ لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِن أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت: مَا أَخْرَجْتُ وَاحِدَاً مِنْكُمْ مَعِي، لَولاَكُمْ لِمَنْ كانتْ تُوضَعُ هَذِهِ المَائِدَة، وَتُفْرَشُ الْفُرُش، وَتُجْرَى الأُجُور؟
قَالَ صَالِح: فَلَمَّا سَافَرْنَا: رُفِعَتِ المَائِدَةُ وَالفُرُشُ وَكُلُّ مَا أُقِيمَ لَنَا»
وَقَالَ صَالِح: بَعَثَ المُتَوَكِّلُ إِلىَ أَبي بِأَلْفِ دِينَارٍ لِيُقَسِّمَهَا؛ فَجَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ الجَهْمِ في جَوْفِ اللَّيْل، ثمَّ جَاءَ عُبَيْدُ اللهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَقَال: إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَدْ أَذِنَ لَكَ وَأَمْرَ لَكَ بِهَذَا؛ فَقَالَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَه: قَدْ أَعْفَاني أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ مِمَّا أَكْرَه؛ فَكَتَبَ إِلىَ محَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ في بِرِّهِ وَتَعَاهُدِه، فَقَدِمَ عَلَيْنَا ثمَّ قَال: يَا صَالِح؛ قُلْتُ لَبَّيْك؛ قَال: أُحِبُّ أَنْ تَدَعَ هَذَا الرِّزْقَ فَإِنَّمَا تَأْخُذُونَهُ بِسَبَبي؛ فَسَكَتَ؛ فَقَالَ مَا لَك؟ قُلْتُ: أَكْرَهُ أَن أُعْطِيَكَ بِلِسَاني وَأُخَالِفَ إِلىَ غَيْرِه، وَلَيْسَ في الْقَوْمِ أَكْثَرُ عِيَالاً مِنيِّ، وَلاَ أَعْذَر، وَقَدْ كُنْتُ أَشْكُو إِلَيْك؛ فَهَجَرَنَا أَبي وَسَدَّ الأَبْوَابَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَتَحَامَى مَنَازِلَنَا [أَي تَجَنَّبَهَا]، ثُمَّ أُخْبِرَ بِأَخْذِ عَمِّهِ؛ فَقَالَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَه: نَافَقْتَني وَكَذَبْتَني، ثمَّ هَجَرَهُ وَتَرَكَ الصَّلاَةَ في المَسْجَد، وَخَرَجَ إِلىَ مَسْجِدٍ آخَرَ يُصَلِّي فِيه، ثمَّ إِنَّ الخَبَرَ بَلَغَ المُتَوَكِّلَ فَأَمَرَ بحَمْلِ مَا اجْتَمَعَ لَهُمْ مِن عَشْرَةِ أَشْهُرٍ إِلَيْهِمْ؛ فَكَانَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَم، وَإِنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ أُخْبِرَ بِذَلِكَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ؛ فَسَكَتَ قَلِيلاً وَأَطْرَقَ، ثمَّ قَال: مَا حِيلَتي إِن أَرَدْتُ أَمْرَاً، وَأَرَادَ اللهُ أَمْرَاً؟
قَالَ صَالِح: وَكَانَ رَسُولُ المُتَوَكِّلِ يَأْتي أَبي يُبْلِغُهُ السَّلاَمَ وَيَسْأَلُهُ عَن حَالِهِ»
ـ شَتَّانَ بَينَ سُؤَالِ المُتَوَكِّلِ وَسُؤَالِ الْوَاثِق:
حَدَّثَ أَبُو نُعَيْمٍ قَال: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ قَال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ قَال: «كَتبَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ يحْيىَ بْنِ خَاقَانَ إِلىَ أَبي يُخبرُه أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَمَرني أَن أَكْتُبَ إِلَيْكَ أَسْأَلَكَ عَنِ الْقُرْآن، لاَ مَسْأَلَةَ امْتِحَان، لَكِنْ مَسْأَلَةَ مَعْرِفَةٍ وَتَبْصِرَة؛ فَأَمْلَى عَلَيَّ أَبي: إِلىَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ يحْيىَ بْنِ خَاقَان: «بِسْمِ اللهِ الرَِّحْمَنِ الرَِّحِيم أَحْسَنَ اللهُ عَاقِبَتَكَ أَبَا الحَسَنِ في الأُمُورِ كُلِّهَا، وَدَفَعَ عَنْكَ المَكَارِهَ بِرَحْمَتِه، قَدْ كَتبْتُ إِلَيْكَ رَضِيَ اللهُ عَنْكَ بِالَّذِي سَأَلَ عَنهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ بِأَمْرِ الْقُرْآنِ بِمَا حَضَرَني، وَإِنيِّ أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُدِيمَ تَوفيقَ أَمِيرِ المُؤْمِنِين؛ فَقَدْ كَانَ النَّاسُ في خَوضٍ مِنَ الْبَاطِلِ وَاخْتِلاَفٍ شَدِيد؛ حَتىَّ أَفْضَتِ الخِلاَفَةُ إِلىَ أَمِيرِ المُؤْمِنِين؛ فَنَفَى اللهُ بِهِ كُلَّ بِدعَة، وَانجَلَى عَنِ النَّاسِ مَا كَانُواْ فِيهِ مِنَ الذُّلِّ وَضِيقِ المحَابِس؛ فَصَرَفَ اللهُ ذَلِكَ كُلَّه، وَذُهِبَ بِهِ بِأَمِيرِ المُؤْمِنِين، وَوَقَعَ ذَلِكَ مِنَ المُسْلِمِينَ مَوْقِعَاً عَظِيمَاً، وَدَعَوُاْ اللهَ لأَمِيرِ المُؤْمِنِين، وَأَسأَلُ اللهَ أَنْ يَسْتَجِيبَ في أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ صَالِحَ الدُّعَاء، وَأَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ لأَمِيرِ المُؤْمِنِين، وَأَنْ يَزِيدَ في نِيَّتِه، وَأَنْ يُعِينَه عَلَى مَا هُوَ عَلَيْه؛ فَقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: لاَ تَضْرِبُواْ كِتَابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْض، فَإِنَّهُ يُوقِعُ الشَّكَّ في قُلُوبِكُمْ»
ثُمَّ ذَكَرَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ في شَأْنِ الاِخْتِلاَفِ وَالنِّزَاعِ في الْقُرْآن، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَن أَصْحَابِ الأَهْوَاءِ وَأَهْلِ الْكَلاَم، وَنَقَلَ رَحمَهُ اللهُ بَعْضَ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ مِنَ التَّحْذِيرَاتِ مِنهُمْ وَمِنْ مجَالَسَتِهِمْ
قَالَ أَبُو قِلاَبَة: «لاَ تُجَالِسُواْ أَهْلَ الأَهوَاء؛ فَإِنيِّ لاَ آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ في ضَلاَلَتِهِمْ، وَيُلَبِّسُواْ عَلَيْكُمْ بَعْضَ مَا تَعْرِفُون»
وَقَالَ رَجُلٌ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ لأَيُّوبَ السِّخْتِيَانيّ: يَا أَبَا بَكْر، أَسْأَلُكَ عَنْ كَلِمَةٍ؟
فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ: لاَ، وَلاَ نِصْفَ كَلِمَة»
ثمَّ بَدَأَ رَحمَهُ اللهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ قَضِيَّةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ في تحَفُّظٍ شَدِيد، بِكَلاَمٍ لَيْسَ فِيهِ جَدِيد، عَمَّا قَالَهُ في المُنَاظَرَه، إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ آخِرَه: قَالَ جَلَّ وَعَلاَ: (الرَّحْمَن {1} عَلَّمَ الْقُرْآن {2} خَلَقَ الإِنْسَان {3} عَلَّمَهُ الْبَيَان ({الرَّحْمن}
فَأَخْبَرَ جَلَّ جَلاَلهُ أَنَّ الْقُرْآنَ مِن عِلْمِه، ثُمَّ فَسَّرَ بِذَلِكَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ قَوْلَهُ تَعَالىَ:
(وَلَئِن اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ، مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير)
{البَقَرَة/120}
فَفِي الآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي جَاءهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْقُرْآن» ـ عَقِيدَتُهُ وَمَذْهَبُهُ وَكَلاَمُهُ في الإِيمَانِيَّاتِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه:
قَالَ الإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ صَاحِبُ السُّنَن: سَمِعْتُ الإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ يَقُول:
«الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَل، يَزِيدُ وَيَنْقُص، الْبِرُّ كُلُّهُ مِنَ الإِيمَان، وَالمَعَاصِي تُنْقِصُ الإِيمَان»
حَدَّثَ محَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ زُورَانَ عَن أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ قَال: «إِنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّة، وَتَمَسُّكٌ بِالسُّنَّة، وَالإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُص، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ وَالأَعْمَالَ شَرَائِعُ فَهُوَ جَهْمِيّ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الاِسْتِثْنَاءَ في الإِيمَانِ فَهُوَ مُرْجِئ [أَيْ وَصَفَ كُلَّ أَحَدٍ بِأَنَّهُ مُؤْمِن: وَلَمْ يَسْتَثْنِ السَّارِقَ وَالْقَاتِلَ وَالمُفْتَرِي] وَالزِّنىَ وَالسَّرِقَةُ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالشِّرْك: كُلُّهَا بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ مِن غَيرِ أَنْ يَكُونَ لأَحَدٍ عَلَى اللهِ حُجَّة، وَاللهُ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، وَالكُرْسِيُّ مَوْضِعُ قَدَمَيه، وَلِلْعَرْشِ حَمَلَة، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَلْفَاظَنَا بِالقُرْآنِ وَتلاَوَتَنَا لَهُ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ اللهِ فَهُوَ جَهْمِيّ، وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ فَهُوَ مِثْلُه»
قَالَ ابْنُ عَمِّهِ حَنْبَل: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عَنِ الأَحَادِيثِ الَّتي تُرْوَى عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:
«إِنَّ اللهَ يَنْزِلُ إِلىَ سَمَاءِ الدُّنْيَا» فَقَالَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه: نُؤْمِنُ بِهَا وَنُصَدِّقُ بِهَا وَلاَ نَرُدُّ شَيْئَاً مِنهَا؛ إِذَا كَانَتْ أَسَانيْدَ صَحِيحَةً، وَلاَ نَرُدُّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَوْلَهُ؛ لِعِلْمِنَا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الحَقّ»
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيم الْبَغَوِيّ: سَمِعْتُ الإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ يَقُول:
«مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِر» وَرَوَى ذَلِكَ أَيْضَاً سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَد وَقَالَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيّ: سَمِعْتُ الإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ يَقُول
«مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ فَهُوَ كَافِر»
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الحَسَنِ السَّرَّاج:
«سَأَلْتُ الإِمَامَ أَحْمَدَ عَمَّنْ يَقُولُ لَفْظي بِالقُرْآنِ مَخْلُوق؟
فَقَالَ رَحمَهُ الله: جَهْمِيّ»
قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبيُّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْه: «الَّذِي اسْتَقَرَّ الحَالُ عَلَيْهِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ كَانَ يَقُول: مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِع، وَأَنَّهُ قَال: مَنْ قَال: لَفْظي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيّ؛ فَكَانَ رَحمَهُ اللهُ لاَ يَقُولُ هَذَا وَلاَ ذَاك، وَرُبَّمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ فَقَال:
مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ يُرِيدُ بِهِ الْقُرْآنَ فَهُوَ جَهْمِيّ»
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زَنْجُويَةَ: سَمِعْتُ الإِمَامَ أَحْمَدَ عَظَّمَ اللهُ أَجْرَهُ يَقُول: اللَّفظيَّةُ شَرٌّ مِنَ الجَهْمِيَّة»
وَقَالَ ابْنُهُ صَالِح: سَمِعْتُ أَبي رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ يَقُول: «الجَهْمِيَّةُ ثَلاَثُ فِرَق: فِرْقَةٌ قَالَتْ: الْقُرْآنُ مَخْلُوق، وَفِرْقَةٌ قَالُواْ: كَلاَمُ اللهِ وَسَكَتُواْ، وَفِرْقَةٌ قَالُواْ: لَفْظُنَا بِهِ مَخْلُوق، ثُمَّ قَالَ أَبي: لاَ يُصَلَّى خَلْفَ وَاقِفِيٍّ، وَلاَ لَفْظِيّ»
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ المَرُّوذِيّ: «أَخْبرْتُ أَبَا عَبْدِ الله رَحمَهُ اللهُ أَنَّ أَبَا شُعَيْبٍ السُّوسِيَّ الرَّقِّيَّ، فَرَّقَ بَيْنَ ابْنَتِهِ وَزَوْجِهَا لَمَّا وَقَفَ في الْقُرْآنِ فَقَال: أَحْسَنَ عَافَاهُ اللهُ وَجَعَلَ يَدْعُو لَهُ» قَالَ الحَكَمُ بْنُ مَعْبَد: «حَدَّثَني أَحْمَدُ الدَّوْرَقِيُّ قَال: قُلْتُ لأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحمَهُ الله:
مَا تَقُولُ في هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَفْظي بِالقُرْآنِ مَخْلُوق؟
فَرَأَيْتُهُ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ اسْتَوَى وَاجْتَمَعَ وَقَال: هَذَا شرٌّ مِنْ قَوْلِ الجَهْمِيَّة؛ مَنْ زَعَمَ هَذَا، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ جِبْرِيلَ تَكَلَّمَ بِمَخْلُوق، وَجَاءَ إِلىَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بِمَخْلُوق» قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبيُّ رَحمَهُ الله: «وَمَعُلُومٌ أَنَّ التَّلَفُّظَ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِ الْقَارِئِ غَيْرِ المَلْفُوظ، وَالقِرَاءَةُ غَيْرُ الشَّيْءِ المَقْرُوء، وَالتِّلاَوَةُ وَحُسْنُهَا وَتجْوِيدُهَا غَيْرُ المَتْلُوّ، وَصَوْتُ الْقَارِئِ مِنْ كَسْبِهِ؛ فَهُوَ يُحْدِثُ التَّلفُّظَ وَالصَّوْتَ وَالحَرَكَةَ وَالنُّطْق، وَإِخْرَاجَ الْكَلِمَات؛ مِن أَدَوَاتِهِ المَخْلُوقَة، وَلَمْ يُحْدِثْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَلاَ تَرْتِيبَهُ وَلاَ تَأْلِيفَهُ وَلاَ مَعَانِيَهُ» وَكَانَ أَوَّلَ مَن أَحْدَثَ الْقَوْلَ بِالتَّلَفُّظِ وَالمَلْفُوظِ أَبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيّ
قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبيُّ مُعَلِّقَاً: «وَلاَ رَيْبَ أَنَّ مَا ابْتَدَعَهُ الْكَرَابيْسِيُّ وَحَرَّرَهُ في مَسْأَلَةِ التَّلَفُّظِ وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ هُوَ حَقّ، لَكِن أَبَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ لِئَلاََّ يُتَذَرَّعَ بِهِ إِلىَ الْقَوْلِ بخَلْقِ الْقُرْآن، فَسُدَّ الْبَاب»
قَالَ الحَاكِم: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الأَصَمّ قَال: سَمِعْتُ محَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ الصَّغَانيَّ قَال: سَمِعْتُ فُورَانَ صَاحِبَ أَحْمَدَ يَقُول: قُلْتُ: فَاللَّفظيَّةُ تَعُدُّهُمْ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ في جُمْلَةِ الجَهْمِيَّة؟
فَقَال: لاَ، الجَهْمِيَّةُ الَّذِينَ قَالُواْ: الْقُرْآنُ مَخْلُوق»
قَالَ ابْنُهُ صَالِح: سَمِعْتُ أَبي رَحمَهُ اللهُ يَقُول: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ مَخْلُوقَةٌ فَقَدْ كَفَر»
ـ إِفْحَامُ ابْنِ أَبي دُوَاد، كَفَى اللهُ الْعِبَاد، شَرَّ أَمْثَالِهِ في كُلِّ وَاد:
حَدَّثَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ يحْيىَ عَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَسْبَاطٍ قَال: «حُمِلَ شَيْخٌ مُقَيَّدٌ فَأُدْخِلَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ أَبي دُوَادَ [الَّذِي ابْتَدَعَ فِتْنَةَ خَلْقِ الْقُرْآنِ وَتَوَلىَّ كِبرَهَا] فَقَالَ لاِبْنِ أَبي دُوَادَ بحُضُورِ الْوَاثِق: أَخْبِرْني عَمَّا دَعَوْتمُ النَّاسَ إِلَيْه: أَعَلِمَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا دَعَا إِلَيْهِ أَمْ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ؟
قَال: بَلْ عَلِمَهُ؛ قَالَ الشَّيْخ: فَكَانَ يَسَعُهُ أَنْ لاَ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَيْهِ وَأَنْتُم لاَ يَسَعُكُمْ؟ فَبُهِتُواْ؛ وَضَحِكَ الْوَاثِقُ وَقَامَ قَابِضَاً عَلَى فَمِهِ، فَدَخَلَ غُرْفَةً وَمَدَّ رِجْلَيْهِ وَقَال:
أَمْرٌ وَسِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّكُوتُ عَنهُ أَلاَ يَسَعُنَا؟!
ثُمَّ أَمَرَ بِالشَّيْخِ أَنْ يُعْطَى ثَلاَثَمِاْئَةِ دِينَار، وَأَنْ يُرَدَّ إِلىَ بَلَدِهِ»
حَدَّثَ طَاهِرُ بْنُ خَلَفٍ عَنِ المُهْتَدِي بِاللهِ بْنِ الْوَاثِقِ قَال:
«كَانَ أَبي إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلاً أَحْضَرَنَا؛ فَأُتي بِشَيْخٍ مَخْضُوبٍ مُقَيَّد؛ فَقَالَ أَبي: ائِذَنُواْ لأَحْمَدَ بْنِ أَبي دُوَادَ وَأَصْحَابِه ؛ وَأُدْخِلَ الشَّيْخُ فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين؛ فَقَال: لاَ سَلَّمَ اللهُ عَلَيْك، قَال: بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مُؤَدِّبُك، قَالَ جَلَّ وَعَلاَ:
؟ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحَيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنهَا أَوْ رُدُّوهَا؟ {النِّسَاء/ 86}
فَقَالَ ابْنُ أَبي دُوَاد: الرَّجُلُ مُتَكَلِّم؛ قَالَ الْوَاثِق: كَلِّمْه؛ فَقَال: يَا شَيْخ؛ مَا تَقُولُ في الْقُرْآن؟
قَالَ لَمْ تُنْصِفْني وَليَ السُّؤَال، قَال: سَلْ؛ قَال: مَا تَقُولُ أَنْت؟ قَالَ ابْنُ أَبي دُوَاد: مَخْلُوق؛ قَالَ الشَّيْخ: هَذَا شَيْءٌ عَلِمَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالخُلَفَاءُ أَمْ لَمْ يَعْلَمُوه؟
فَقَال: شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمُوه؛ قَالَ الشَّيْخ: سُبْحَانَ الله؛ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمُوهُ وَعَلِمْتَهُ أَنْت؟
فَخَجِلَ وَقَالَ أَقِلْني؛ قَالَ الشَّيْخ: المَسْأَلَةُ بِحَالِهَا: مَا تَقُولُ في الْقُرْآن؟
قَالَ ابْنُ أَبي دُوَاد: مَخْلُوق؛ قَالَ الشَّيْخ: شَيْءٌ عَلِمَهُ رَسُولُ الله؟ قَالَ ابْنُ أَبي دُوَاد: عَلِمَهُ؛ قَالَ الشَّيْخ: أَعَلِمَهُ وَلَمْ يَدْعُ النَّاسَ إِلَيْه؟
قَالَ ابْنُ أَبي دُوَاد: نَعَمْ؛ قَالَ الشَّيْخ: فَوَسِعَهُ ذَلِك؟
قَالَ ابْنُ أَبي دُوَاد: نَعَمْ؛ قَالَ الشَّيْخ: أَفَلاَ وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُ، وَوَسِعَ الخُلَفَاءَ بَعْدَه؟
فَقَامَ الْوَاثِقُ فَدَخَلَ الخَلْوَةَ وَاسْتَلقَى وَهُوَ يَقُول:
شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ وَلاَ عُثْمَانُ وَلاَ عَلِيّ؛ عَلِمْتَهُ أَنْتَ؟! سُبْحَانَ الله؛ عَرَفُوهُ وَلَمْ يَدْعُواْ إِلَيْهِ النَّاس؛ فَهَلاََّ وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ؟!
ثمَّ أَمْرَ بِرَفْعِ قَيْدِ الشَّيْخِ وَأَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعِمِاْئَةِ دِينَار، وَسَقَطَ مِن عَيْنِهِ ابْنُ أَبي دُوَادَ وَلَمْ يَمْتَحِنْ بَعْدَهَا أَحَدَاً»
حَدَّثَ أَحْمَدُ بْنُ السِّنْدِيِّ الحَدَّادُ عَن أَحْمَدَ بْنِ المُمْتَنِعِ عَنْ صَالحِ بْنِ عَلِيٍّ الهَاشِمِيِّ قَال:
«حَضَرْتُ المُهْتَدِي بِاللهِ وَقَدْ جَلَسَ وَالرِّقَاعُ تُقْرَأُ عَلَيْه، وَيَأْمُرُ بِالتَّوقِيعِ عَلَيْهَا، فَسَرَّني ذَلِك، وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْه؛ فَطِنَ لِذَلِكَ وَنَظَرَ إِلَيَّ؛ فَغَضَضْتُ عَنهُ؛ فَقَالَ لي: في نَفْسِكَ شَيْءٌ تُحِبُّ أَنْ تَقُولَه، فَلَمَّا انْفَضَّ المَجْلِسُ أُدخِلْتُ مَجْلِسَهُ فَقَال: تَقُولُ مَا دَارَ في نَفْسِكَ أَوْ أَقُولُهُ لَك؟
قُلْتُ: الَّذِي تَرَاهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين؛ فَقَال: لَقَدِ اسْتَحسَنْتَ مَا رَأَيْتَ مِنَّا فَقُلْتُ في نَفْسِك: أَيُّ خَلِيفَةٍ خَلِيفَتُنَا إِنْ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوق؟
فَوَرَدَ عَلَيَّ أَمْرٌ عَظِيم، ثُمَّ قُلْتُ: يَا نَفْسُ هَلْ تَمُوتِينَ قَبْلَ أَجَلِك؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين؛ فَأَطْرَقَ بُرْهَةً ثمَّ قَال: اسْمَعْ، فَوَاللهِ لَتَسْمَعَنَّ الحَقّ؛ فَسُرِّيَ عَنيِّ، فَقَال: مَا زِلْتُ أَقُولُ «الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ» صَدْرَاً مِن أَيَّامِ الْوَاثِقِ حَتىَّ جِيءَ لَهُ بِشَيْخٍ مِن أَذَنَة ـ مِنْ مَوَاني تُرْكِيَا بجَنُوبِهَا أَقْصَى يمِينِ المُتَوَسِّط، بِالْقُرْبِ مِن حُدُودِهَا مَعَ سُورِيَّة ـ فَأُدْخِلَ مُقَيَّدَاً، وَهُوَ شَيْخٌ جَمِيلٌ حَسَنُ الشَّيْبَة، فَرَأَيْتُ الْوَاثِقَ اسْتَحْيَا مِنهُ وَرَقَّ لَهُ، فَمَا زَالَ يُدْنِيهِ حَتىَّ قَرُبَ مِنهُ، وَجَلَسَ؛ فَقَالَ لَهُ الْوَاثِق: نَاظِرِ ابْنَ أَبي دُوَاد؛ قَال: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين؛ إِنَّهُ يَضْعُفُ عَنِ المُنَاظَرَة؛ فَغَضِبَ الْوَاثِقُ وَقَالَ لَه: أَبُو عَبْدِ اللهِ يَضْعُفُ عَنْ مُنَاظَرَتِكَ أَنْتَ؟
قَال: هَوِّن عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَائْذَنْ لي، وَاحْفَظْ عَلَيَّ وَعَلَيْه، ثُمَّ قَال: يَا أَحْمَد، أَخْبِرْني عَنْ مَقَالَتِكَ هَذِهِ، هِيَ مَقَالَةٌ وَاجِبَةٌ دَاخِلَةٌ في عَقْدِ الدِّينِ فَلاَ يَكُونُ الدِّينُ كَامِلاً حَتىَّ تُقَال؟ قَال: نَعَمْ؛ قَال: فَأَخْبِرْني عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ الله: هَلْ سَتَرَ شَيْئَاً مِمَّا أُمِرَ بِهِ؟
قَال: لاَ؛ قَال: فَدَعَا إِلىَ مَقَالَتِكَ هَذِهِ؟
فَسَكَتَ؛ فَقَالَ الشَّيْخ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين [وَاحِدَة]؛ قَالَ الْوَاثِق: [وَاحِدَة]
ثُمَّ قَال: أَخْبِرْني عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالىَ حِينَ قَالَ:؟ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ؟ {المَائِدَة/3} أَكَانَ اللهُ هُوَ الصَّادِقُ في إِكْمَالِ دِينِنَا أَوْ أَنْتَ الصَّادِقُ في نُقْصَانِهِ حَتىَّ يَكْمُلَ بِمَقَالَتِك؟
فَسَكَتَ أَحْمَد؛ فَقَالَ الشَّيْخ: [اثْنَتَانِ] يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين؛ قَالَ نَعَمْ؛ فَقَال: أَخْبِرْني عَنْ مَقَالَتِكَ هَذِهِ: أَعَلِمَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ جَهِلَهَا؟
قَال: عَلِمَهَا؛ قَالَ فَدَعَا إِلَيْهَا؟
فَسَكَت؛ قَالَ الشَّيْخ: [ثَلاَثَة] مَّ قَال: فَاَتَّسَعَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمْسِكَ عَنهَا، وَلَمْ يُطَالِبْ أُمَّتَهُ بِهَا؟
قَال: نَعَمْ، قَالَ الشَّيْخ: وَاتَّسَعَ ذَلِكَ لأَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيّ؟
قَالَ نَعَمْ؛ فَأَعْرَضَ الشَّيْخُ عَنهُ وَقَال: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين؛ قَدْ قَدَّمْتُ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَحْمَدَ يَضْعُفُ عَنِ المُنَاظَرَة، يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِين؛ إِنْ لَمْ يتَّسِعْ لَكَ الإِمْسَاكُ عَن هَذِهِ المَقَالَةِ الَّتي زَعَمَ هَذَا أَنَّهُ اتَّسَعَ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمُ الإِمْسَاكُ عَنهَا: فَلاَ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْك
قَالَ الْوَاثِق: نَعَمْ، كَذَا هُوَ، اقْطَعُواْ قَيْدَ الشَّيْخ، فَلَمَّا قَطَعُوه: ضَرَبَ بِيَدِهِ، فَأَخَذَهُ؛ فَقَالَ لَهُ الْوَاثِق: لِمَ أَخَذْتَهُ؟
قَال: لأَنيِّ نَوَيْتُ أَن أُوصِيَ أَنْ يُجْعَلَ مَعِيَ في كَفَني لأُخَاصِمَ هَذَا [أَيِ ابْنَ أَبي دُوَاد] بِهِ عِنْدَ الله، ثُمَّ بَكَى، فَبَكَى الْوَاثِقُ وَبَكَيْنَا، ثُمَّ سَأَلَهُ الْوَاثِقُ أَنْ يُحَالَّه [أَيْ يُسَامحَهُ وَيجْعَلَهُ في حِلّ]، وَأَمَرَ لَهُ بِصِلَةٍ؛ فَقَالَ الشَّيْخ: لاَ حَاجَةَ لي بِهَا؛ ثمَّ قَالَ المُهْتَدِي: فَرَجَعْتُ عَن هَذِهِ المَقَالَة، وَأَظُنُّ الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنهَا يَوْمَئِذٍ»
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّيرَازِيِّ الحَافِظ:
«هَذَا الأَذَنيُّ هُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللهِ بْنُ محَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الأَذْرَمِيّ»
عَجِبتُ وَاللهِ لِهَؤُلاَءِ الجُهَلاَء؛ قَالُواْ فِيمَا نَقَلَ عَنهُمُ الإِمَامُ الذَّهَبيّ: تَعَالىَ اللهُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّم؛ فَوَصَفُوهُ بِأَقْبَحَ مِنْ ذَلِك، أَلاَ لاَ يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلاَّ هَالِك، هَلَكَ ثُمَّ هَلَكَ المُتَنَطِّعُون
إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
اللَّهُمَّ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ المِسْكِينَةَ بِأَلْفِ قَبِيلَةٍ نَبِيلَة؛ أَقَلُّهَا كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبي هُرَيْرَةَ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَير
وَبِأَلْفِ قَبِيلَةٍ نَبِيلَةٍ في الحَدِيثِ أَقَلُّهَا مِن كَالإِمَامِ أَحْمَدَ وَالإِمَامِ البُْخَارِيّ وَبِأَلْفِ قَبِيلَةٍ نَبِيلَةٍ في الْفِقْهِ أَقَلُّهَا مِن كَالإِمَامِ أَبي حَنِيفَةَ وَالإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وََرَبِيعَةَ وَالشَّعْبيِّ وَأَبي الزِّنَاد
وَبِأَلْفِ قَبِيلَةٍ نَبِيلَةٍ في الجُودِ الْعِلْمِ أَقَلُّهَا مِن كَالإِمَامِ ابْنِ المُبَارَكِ وَالإِمَامِ اللَّيْثِ ابْنِ سَعْد
وَبِأَلْفِ قَبِيلَةٍ نَبِيلَةٍ في في الْفِكْرِ وَالتَّبَحُّرِ أَقَلُّهَا مِن كَالإِمَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَالإِمَامِ ابْنِ كَثِير وَبِأَلْفِ قَبِيلَةٍ نَبِيلَةٍ في التَّفْسِيرِ أَقَلُّهَا كَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ ومجَاهِدٍ وَالإِمَامَينِ الطَّبرِيِّ والْقُرْطُبيّ
وَبِأَلْفِ قَبِيلَةٍ نَبِيلَةٍ في نَقْدِ الرِّجَالِ وَعِلَلِ الحَدِيثِ أَقَلُّهَا مِن كَأَبي زُرْعَةَ الرَّازِي وَأَبي حَاتمٍ الرَّازِي، وَشُعْبَةَ وَيحْيىَ بْنِ مَعِين، وَيَحْيىَ بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيّ، وَعَلِيِّ بْنِ المَدِينيّ
وَبِأَلْفِ قَبِيلَةٍ نَبِيلَةٍ في الزُّهْدِ أَقَلُّهَا كَوَكِيعٍ وَالثَّوْرِيِّ وَعَمْرِو بْنِ قَيْسٍ وَابْنِ عَوْنٍ وَالسِّخْتِيَانيّ
وَبِأَلْفِ قَبِيلَةٍ نَبِيلَةٍ في سَعَةِ التَّصْنِيفِ أَقَلُّهَا كَالإِمَامِ الذَّهَبيِّ وَالإِمَامِ السُّيُوطِيّ {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُون} {إِبْرَاهِيم}
مختارات