الآفة السادسة والعشرون - الحقد
والآفة السادسة والعشرون التي قد ابتلي بها نفر من العاملين، بل لقد ابتلي بها كثيرون بالفعل، وكانت سببا فيما نشهده على الساحة اليوم من كيل الاتهامات للمجاهدين الصادقين إنما هي: " الحقد ". وحتى يتطهر منها من ابتلي بها، ويسلم منها من عافاه الله - عز وجل - منها، فإنه لابد من إعطاء تصور دقيق، وواضح عنها على النحو التالي: أولا: تعريف الحقد: لغة الاحتباس والمنع، يقال: حقد المطر حقدا، وأحقد: احتبس ومنع. وقال ابن الأعرابي: حقد المعدن وأحقد: إذا لم يخرج منه شيء، وذهبت منالته، ومعدن حاقد: إذا لم ينل شيئا، وأحقد القوم: إذا طلبوا من المعدن شيئا، فلم يجدوا، والحقود: كثير الحقد، () والأحقاد: التصيير إلى الحقد، نقول: أحقده الأمر، وأحقده غيره، صيره حاقدا. والضغن لغة: أ - الميل أو الجور نقول: ضغنوا عليه: مالوا عليه، واعتمدوا بالجور، وقال ابن الأعرابي: ضغنت إلى فلان: ملت إليه، كما يضعن البعير إلى وطنه، وإذا قيل في الناقة: هي ذات ضغن، فإنما يراد نزعها - أي الشوق إلى وطنها - وربما استعير ذلك في الإنسان. ب - الانطواء على الحقد، نقول: تضاغن القوم واضطغنوا: انطووا على الأحقاد. ج - الامتناع عن إعطاء كل ما في النفس لسبب ما، نقول: فرس ضاغن، وضغن: لا يعطي كل ما عنده من الجري حتى يضرب، وقال أبو عبيدة: فرس ضغون - الذكر والأنثى فيه سواء - وهو الذي يجري كأنما يرجع القهقرى، وفي حديث عمر: " والرجل يكون في دابته الضغن فيقومها جهده، ويكون في نفسه الضغن فلا يقومها "، والضغن في الدابة أن تكون عسرة الانقياد. ولا تعارض بين هذه المعاني الثلاثة؛ إذ هو الانطواء على الحقد، () المعبر عنه أحيانا بالميل أو الجور بصورة تمنع من إعطاء كل ما في النفس. والوغر لغة: أ - شدة توقد الحر أو الاحتراق من الغيظ، نقول: في صدره علي وغر - بالتسكين: ضغن، وعداوة، وتوقد من الغيظ، والمصدر الوغر بالتحريك. ب - الامتلاء غيظا، نقول: وغر صدره عليه، يوغر وغرا، ووغر يغر: إذا تجرع أو امتلأ غيظا وحقدا، والتوغير: الإغراء بالحقد، وأوغرت صدره على فلان: أوقدته، وأحميته من الغيظ. ج - الصوت، وهو مشتق من إيغار الخراج، وهو أن يؤدي الرجل خراجه إلى السلطان الأكبر فرارا من العمال. ولا تعارض؛ إذ هو امتلاء القلب غيظا وحقدا، بصورة توقده وتحرقه. () والدوى لغة: الضغن أو المرض والسل، أو هو داء باطن في الصدر يقال: تركت فلانا دوى، ما أرى به حياة، وفي حديث أم زرع: كل داء له داء، أي كل عيب يكون في الرجال فهو فيه، فجعلت العيب داء، وقولها: له داء: خبر لكل، ويحتمل أن يكون صفة لداء، وداء الثانية خبر لكل، أي كل داء فيه بليغ متناه، كما يقال: إن هذا الفرس فرس. () والغل لغة: الغش أو الضغن والحقد، نقول: غل صدره غلا وغليلا: كان ذا غش، أو ضغن، وحقد، () ومنه قوله سبحانه في التنزيل: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} (الأعراف: 43، الحجر: 47). اصطلاحا: أما في الاصطلاح فإن الحقد وما في معناه من: الضغن، والوغر، والدوي والغل يعني: حبس أو إمساك العداوة والبغضاء في الصدر للعجز عن التشفي حالا مع التربص أو التحين للتعبير عنها بصورة من الصور، أو شكل من الأشكال مآلا، وعرفه الشريف الجرجاني بقوله: " الحقد: هو طلب الانتقام، وتحقيقه أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه، فصار حقدا "، () أو هو: " سوء الظن في القلب على الخلائق لأجل العداوة "، () والتعريف الأول الذي نقلناه عن الجرجاني لا يختلف كثيرا عن التعريف الذي ذكرناه، أما التعريف الثاني فإنه تعريف للحقد ببيان آثاره. وقال الغزالي: " ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله، والبغضة له، وأن يدوم ذلك ويبقى ". () ويعرفه الشيخ عبد الرحمن الميداني بقوله: " والحقد هو العداوة الدفينة في القلب، والعداوة هي كراهية يصاحبها رغبة بالانتقام من الشخص المكروه إلى حد إفنائه وإلغائه من الوجود، ومن مرادفات الحقد تقريبا: كلمة الغل، فالغل هو العداوة المتغلغلة في القلب، ومن مرادفاته أيضا: الضغن، والشحناء، فهي جميعا كلمات تدور حول معنى واحد أو معان متقاربة، ترجع بوجه عام إلى معنى العداوة، مع بعض فروق في الدلالات ". () ثانيا: صور الحقد وحقيقته في الإسلام: وللحقد صور تدل عليه، وأمارات يعرف بها، منها: 1 - تشويه صورة وسمعة البررة المجاهدين الذين وقفوا حياتهم على دين الله فعاشوا وماتوا لهذا الدين، وعلى هذا الدين، وما كان لهم من جريرة أو ذنب إلا أنهم يقولون: ربنا الله، وأن سمعتهم، ودعوتهم طارت في الخافقين. 2 - الوقوف عند بعض الأخطاء التي تاب منها أصحابها، وانتشرت هذه التوبة في كل الأوساط حتى عرفها العام والخاص، والقاصي والداني، ثم إشاعة هذه الأخطاء بين الناس في كتب ومؤلفات أو أشرطة كاسيت، لتشويه صورة أصحابها، والتشويش على المنهج الذي يعتنقون، والدعوة التي لها يعملون، مثل التعليق المستمر على موقف الأستاذ سيد قطب من بعض الصحابة مع أنه تاب ورجع عن ذلك. 3 - تفسير بعض المواقف التي أملتها وتمليها حكمة الدعوة إلى الله من بعض الدعاة على أنها عمالة، وجاسوسية، وعلى أن أهلها ماسونيون أو رافضة، أو كفار مبتدعون. 4 - الحط على كل من لا يذعن لهم بالولاء، أو يخالفهم المذهب والمشرب، أو كان سببا في تعريتهم، وكشف سوءاتهم على الملأ من الناس. 5 - الامتناع عن الجهاد بالنفس أو المال، أو بهما معا. قال تعالى: {إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم}(محمد). يقول الماوردي: " قوله تعالى: {إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإحفاء أخذ الجميع، قاله ابن زيد، وقطرب. والثاني: أنه الإلحاح وإكثار السؤال، مأخوذ من الحفاء، وهو المشي بغير حذاء، قاله ابن عيسى، الثالث: أن معنى معه {فيحفكم}، أي فيجدكم تبخلوا، قاله ابن عيينة. وقوله تعال:{يخرج أضغانكم} يحتمل وجهين: أحدهما: يظهر بامتناعكم ما أضمرتموه من عدوانكم، والثاني: يظهرون عند مسألتكم ما أضمرتموه من عداوتكم ". () والحقد وما في معناه من الضغن، أو الوغر أو الدوي أو الغل، إن كان مصوبا نحو أهل الصلاح والتقوى فهو قبيح مذموم. دلنا على قبحه وذمه: أن الله مدح صنفا من الناس أنه كان إذا دعا ضمن دعاءه سؤال ربه أن يطهر قلبه من هذا المرض فقال:{والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} (الحشر). يقول ابن كثير-رحمه الله: " وقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}: هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان، كما قال في آية براءة: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه}(التوبة: 100) فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون} أي قائلين: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا} أي بغضا وحسدا {للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}. وما أحسن ما استنبط الإمام مالك - رحمه الله - من هذه الآية الكريمة: أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء ". () وبين الله أن من تمام منته، وفضله على أهل الجنة أنه طهر قلوبهم من الغل، فلا يبغض بعضكم بعضا، ولا يكره بعضهم بعضا، قال تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} (الأعراف: 43). يقول الماوردي: " قوله عز وجل: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} فيه أربعة أوجه: أحدها: الأهواء والبدع، قاله سهل بن عبد الله، والثاني: التباغض والتحاسد، والثالث: الحقد، والرابع: نزع من نفوسهم أن يتمنوا ما لغيرهم. وفي نزعه وجهان: أحدهما: أن الله نزع ذلك من صدورهم بلطفه، والثاني: أن ما هداهم إليه من الإيمان هو الذي نزعه من صدورهم، وفي هذا الغل قولان: أحدهما: أنه غل الجاهلية، قاله الحسن، والثاني: أنهم لا يتعادون ولا يتحاقدون بعد الإيمان، وقد روي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل}وقيل: إنها نزلت في أهل بدر، ويحتمل قوله: {وقالوا الحمـد لله الذي هدانا لهذا}وجهين: أحدهما: هدانا لنزع الغل من صدورنا، والثاني: هدانا بثبوت الإيمان في قلوبنا حتى نزع الغل من صدورنا، وفيه وجه ثالث قال جويبر: هدانا لمجاوزة الصراط ودخول الجنة ". () وقـال تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} (الحجر). يقول المـاوردي: " قوله عز وجل: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} فيه وجهـان: أحدهما: نزعنا بالإسلام ما في صدورهم من غل الجاهلية، قـاله علي بن الحسين، الثـاني: نزعنا في الآخرة ما في صدورهم من غل الدنيا قاله الحسن، وقـد رواه أبـو سعيد الـخدري مرفوعـا ". () وبين سبحانه أنه قادر على فضح المنافقين بإبراز ما في قلوبهم من ضغن وحقد فقال: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم} (محمد). قوله عز وجل:{أم حسب الذين في قلوبهم مرض} فيه وجهان: أحدهما: شك، قاله مقاتل، الثاني: نفاق، قاله الكلبي. وقوله تعالى: {لن يخرج الله أضغانهم} فيه أربعة أوجه: أحدها: غشهم، قاله السدي، الثاني: حصدهم، قاله ابن عباس، الثالث: حقدهم، قاله ابن عيسى، الرابع: عدوانهم، قاله قطرب، وأنشد: قل لابن هند ما أردت بمنطق ساء الصديق، وسر ذا الأضغان () وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من لم يكن فيه غفر له ما سواه لمن شاء: من مات لا يشرك بالله شيئا، ولم يكن ساحرا يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه ". () وعن أنس رضي الله عنه قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة "، فطلع رجل من الأنصار تنطف () لحيته من وضوئه، وقد تعلق بعلقة بيده الشمال، فلما كان الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو، فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت، قال: نعم، قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله - عز وجل - وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضب، ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا ثلاث مرات: " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة "، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك فأنظر: ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسه لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق ". () وهكذا تكشف لنا هذه النصوص عن قبح وذم الحقد، وما في معناه، لا سيما إذا كان منصبا على واحد من المسلمين أهل التقوى والصلاح. ثالثا: أسباب الحقد: وللحقد أسباب توقع فيه، وبواعث تؤدي إليه، وأهم هذه الأسباب وتلك البواعث: 1 - الحرمان: وذلك أن الحق تبارك وتعالى قد يحرم المرء نعمة من النعم من مال، أو حرفة، أو سلطان، أو وجاهة، أو لسان، أو صحة، أو عقل وذكاء، أو زوجة وضيئة، أو ولد، أو عشيرة، أو هيبة ووقار، أو قبول ونحو ذلك، ويعطيها غيره، ويقف المرء عند هذا الحرمان ناسيا أو متناسيا أن الله عز وجل يقسم النعم على عباده تبعا لما سبق في علمه، وفي كتابه، وحسب عمل كل منهم ونواياه، حيث يقول سبحانه في نعمة كالمال مثلا: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} (الشورى). وحيث يقول في الحديث القدسي: " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ". () وحين يقف المرء عند حد هذا الحرمان ناسيا حكم الله في خلقه، يمتلئ حقدا وغلا من داخله، ويظل ينتهز الفرصة للتعبير عن هذا الحقد، وذلك الغل في صورة من الصور، أو شكل من الأشكال. 2 - سوء التوزيع والتفريق في المعاملة: وقد يكون سوء التوزيع للثروة وكذلك التفريق في المعاملة بين أفراد البيت الواحد، والعشيرة الواحدة، وبين أبناء الوطن، أو المجتمع الواحد، وكذلك الأمة الواحدة، من الأسباب التي توقع في الحقد لا سيما والتوزيع والمعاملة ما باتا يقومان الآن على أساس المواهب والطاقات والإمكانات كما كان في العصور الإسلامية الزاهرة، وإنما أصبحا يقومان على اتباع الهوى والمحاباة والمجاملة. ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على العدالة في التوزيع، والتسوية في المعاملة من مستوى الأسرة البسيطة إلى مستوى الإمارة والدولة، إذ يقول سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}(النساء). {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} (الأنعام: 152). {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(المائدة). وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لبشير، وقد أراد تفضيل ولده من عمرة بنت رواحة بطلب منها، على إخوانه من غيرها: " اتقوا الله واعدلوا في أولادكم "، () وفي رواية: " قاربوا بين أولادكم ". () 3 - الكبت والقهر: وقد يكون الكبت والقهر وراء الوقوع في آفة الحقد؛ ذلك أن المرء إذا حيل بينه وبين التعبير عما يجيش بصدره، وما يجول بخاطره وأضيف إلى ذلك القهر على أي صورة كان: من سب، وتجريح، إلى سخرية واستهزاء، إلى اعتقال أو تحديد للإقامة، إلى سجن وتجويع، وضرب وتخويف، ودا م هذا الكبت وذلك القهر زمانا طويلا، فإن المرء يظل يختزن كل ذلك، في صورة عداوة تملأ الصدر، ويتحين الفرص والمناسبات ليعلن عما بداخله وهذا هو الحقد. ولعل هذا هو السر في دعوة الإسلام، وأمره بالشورى، وتحريم جلد الظهور، وسلب الناس أموالهم، والسخرية أو الاستهزاء بهم، إذ يتول الحق تبارك وتعالى: {وشاورهم في الأمر} (آل عمران: 159).{وأمرهم شورى بينهم} (الشورى: 38). {ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم}(الحجرات: 11). وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " رجلان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: سلطان ظلوم غشوم، وآخر غال في الدين، مارق،منه "، () وفي رواية. " صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: سلطان ظلوم غشوم، وغال في الدين يشهد عليهم ويتبوأ منهم "، () " إذا حكمتم فاعدلوا، وإذا قلتم فأحسنوا، فإن الله - عز وجل - محسن يحب المحسنين "، () " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله، وعرضه ". () ولعل ما نشهده على الساحة الإسلامية اليوم من القيام في وجه أصحاب السلطان في كثير من أنحاء العالم الإسلامي بل العربي: مرده إلى حالات الكبت والقهر المفروض على الناس، والتي لا أمل في زوالها، أو على الأقل التخفيف من حدتها ولو على المدى البعيد. 4 - عدم رعاية حقوق الأخوة الإسلامية: وقد يكون عدم رعاية حقوق الأخوة الإسلامية من: المواساة بالنفس وبالمال، ومن إظهار الفضائل والمحاسن، وإخناء المعايب والرذائل، ومن الوفاء بحق الصحبة، ومن الدعاء بظهر الغيب، ومن ترك التكلف، ونحوها، من وراء الوقوع في آفة الحقد؛ ذلك أن المسلم إذا رأى أخاه في النعمة، ولا يواسيه بنفس، أو مال، ولا يبرز فضائله ومحاسنه حين تقتضي الظروف ذلك، ولا يخفي عيبه ورذيلته، ويحاول التشهير به، ولا يفي له بحق الصحبة ويعرض عنه، ويتكلف له في اللقاء، والتوديع، والضيافة ونحوها، يتغير من داخله عليه، وبمرور الزمن يتولد لديه الكراهية والبغضاء والعداوة، ويكون الحقد. ولعل هذا هو السر في تأكيد المنهج الإلهي على رعاية حقوق الأخوة الإسلامية، إذ يقول الحق تبارك وتعالى:{ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين} (المائدة: 54). ويقول في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين وأنصار: {رحماء بينهم} (الفتح: 29). ويقول: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} (الحجرات). وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا "، () وفي رواية: " لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه ". () " مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ". () 5 - غرور بل تكبر الآخرين: وقد يكون غرور بل تكبر الآخرين مما يوقع في آفة الحقد؛ ذلك أن المغرور هو المعجب بنفسه إلى حد احتقار واستصغار كل ما يصدر عن الآخرين في جنب ما يصدر عنه، والمتكبر هو ما يصنع ذلك من النيل من ذوات الآخرين، والترفع على أشخاصهم، ولا شك أن هذا مما يترك آثاره في النفوس، فإذا هي مليئة من داخلها بالعداوة والبغضاء، وما هذه العداوة، وتلك البغضاء إلا الحقد، ولعل من حرص الإسلام وتأكيده على طهارة النفوس من الغرور والتكبر إنما هو العمل على حماية الآخرين من الوقوع في هذه الآفة بذمها و التحذير منها على النحو الذي ذكرنا في علاج كل من الغرور والتكبر. () 6 - استغلال الآخرين: وقد يكون استغلال الآخرين للمرء، ولا سيما في أوقات الشدائد والمحن، من الأسباب الحاملة على الحقد، فقد تنزل بالمرء شدة أو ضائقة، ويتلفت فلا يجد عونا من الآخرين إلا إذا كانت هناك منفعة مادية بحتة، وتحت وطأة الحاجة يقبل، ولكنه والحالة هذه لا يسلم صدره من العداوة والبغضاء بل يتحين الفرصة للانتقام، وهذا هو الحقد. ولعل هذا هو السر في مجيء النصوص الكثيرة التي تحظر على المسلم استغلال الآخرين في أي صورة من صور الاستغلال كالربا، والاحتكار، والغبن، وأكل أموا ل اليتامى ظلما ونحوها، إذ يقول سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} (البقرة). {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}(النساء). وإذ يقول صلى الله عليه وسلم: " درهم ربا يأكله الرجل - وهو يعلم - أشد عند الله من ست وثلاثين زنية "، () (لا تلقوا البيوع، ولا يبع بعض على بعض، ولا يخطب أحدكم - أو أحد - على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب الأول أو يأذنه فيخطب ". () 7 - التفريط في حق الجار: وقد يكون التفريط في حق الجار مسلما أو غير مسلم، قريبا أو غير قريب، من الأسباب المؤدية إلى الحقد؛ ذلك أن المرء إذا رأى جاره لا يرعى حقوق الجار، وأبسط شيء في ذلك المواساة بالنفس والمال، فإنه يبغضه، ويظل هذا البغض ينمو حتى يصل إلى أن يصير حقدا. ولعل هذا من بين الأسرار التي من أجلها دعا الإسلام إلى رعاية حق الجوار، إذ يقول الحق - تبارك وتعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} (النساء). وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه "، () " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره... " الحديث. () إلى غير ذلك من النصوص. 8 - تفكك الأسرة مع عدم سعي الأمة في علاج هذا التفكك: وقد يكون تفكك الأسرة بسبب موت العائل أو الطلاق، والزواج بأخرى في ضوء غياب القيم، والضوابط الشرعية ومع عدم سعي الأمة، حكاما، ومحكومين في القيام بواجبها نحو علاج هذا التفكك، من بين الأسباب المؤدية إلى الحقد ؛ ذلك أن الأسرة هي المحضن الأساسي في تخريج وحماية الأجيال. ويوم يطرأ على الأسرة ما يؤدي إلى تفككها على النحو الذي ذكرنا، وينساها المجتمع، فإن الأولاد يتعرضون لحرمان وتشريد ينتهي بهم إلى الحقد على كل أجناس وطبقات المجتمع. ولعل هذا من بين الأسرار التي من أجلها أوجب الإسلام الولاية بين المؤمنين بعضهم بعضا، إذ يقول سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله} (التوبة: 71). كما أوجب العدل عند تعدد الزوجات، وكذلك كفالة اليتامى وحذر من إهمالهم، إذ يقول سبحانه: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} (النساء: 3). {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} (البقرة). {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} (البقرة: 220). 9 - السماع للوشاة من غير تثبيت: وقد يكون السماع للوشاة من غير تثبيت هو المسبب في الحقد ذلك أن المرء كثيرا ما يتأثر بما يسمع، وإذا لم يكن عاقلا، وتبين أو تثبت من كل ما يسمع، فإنه يبني على ذلك أحكاما قد يكون من بينها العداوة والبغضاء والحقد. وخير ما نستدل به على ذلك: ما يلقيه أعداء الله على حكام المسلمين من أن الإسلاميين يريدون أخذ الكرسي والسلطة منهم ويصدقهم الحكام من غير تبين أو تثبت، وتكون العاقبة الحقد والسعي للانتقام، والتنكيل بهؤلاء. ومن هذا الباب أيضا: ما يصنعه نفر من الجماعات الإسلامية تجاه جماعة أخرى أكثر ظهورا وانتشارا وقبولا في الناس، واستقامة على منهج الحق، إذ يلقون في روع خالي الذهن من أي تصور عن هذه الجماعات أن الجماعة ذا السمت الفلاني جماعة مبتدعة بل كافرة، ذات صلة بالاستعمار والصهيونية، والرافضة، ويظلون يكيلون مثل هذه التهم، ولا يطالبهم المخاطب بالدلائل الواضحات القطعيات البينات، بل ربما يأخذون عليهم العهد والميثاق ألا يتصلوا بأي واحد له انتماء لهذه الجماعة، وألا ينظروا في فكرهم، وألا يشهدوا أي تجمع لهم، وألا يسمعوا لأي متحدث فيهم، وتكون النتيجة العداوة والبغضاء أو الحقد. ومن أجل هذا وغيره دعانا الله - عز وجل - إلى التثبيت أو التبين فقال سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (الحجرات). {ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء). 10 - القطيعة أو الهجر الطويل: وقد تكون القطيعة أو الهجر الطويل من بين الأسباب التي تؤدي إلى الحقد؛ ذلك أنه قد يختلف المرء مع غيره لسبب أو لآخر، وربما تكون النتيجة القطيعة أو الهجر، ولا ضير في قطيعة خفيفة، أو هجر يسير ريثما تهدأ النفوس، وتكون المراجعة، وعودة المياه إلى مجاريها، لكن أن تدوم القطيعة، وأن يطول الهجران، فذلك هو الخطر بعينه؛ لأنه مع كل يوم يتعمق البغض، وترسخ البغضاء، وتكون العاقبة الوقوع في الحقد، والعياذ بالله. ولعل هذا هو سر تحريم طول القطيعة أو الهجران بين المتخاصمين، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ". () " لا هجر بعد ثلاث ". () 11 - المراء أو الجدل: وقد يؤدي المراء أو الجدل إلى الوقوع في الحقد؛ ذلك أن كلا من المتجادلين أو المتمارين يكون حريصا على إفحام الآخر وغلبته، وحين ينهزم أحدهما أمام الآخر، ويكون غير قادر على الانتقام، يضمر في نفسه الحقد، والعداوة، والبغضاء. وفي هذا يقول المناوي: الحقد من البلايا التي ابتلى بها المناظرون، قال الغزالي: لا يكاد المناظر ينفك عنه، إذ لا تكاد ترى مناظرا يقدر على ألا يضمر حقدا على من يحرك رأسه عند كلام خصمه، ويتوقف في كلامه، فلا يقابله بحسن الإصغاء، بل يضمر الحقد، ويرتبه في النفس. 12 - البيئة المحيطة بالمرء: وقد تكون البيئة التي يوجد فيها المرء قريبة كانت كالبيت، أو بعيدة كالمجتمع هي السبب في الوقوع في الحقد؛ ذلك أن المرء كثيرا ما يتأثر بالوسط الذي يعيش فيه، وإذا كان هذا الوسط مبتلى بالحقد، فإنه يعمل على توريثه للمستعدين لذلك ممن يعيشون معه، وقد رأينا كثيرين ورثوا الحقد من آبائهم أو من مجتمعهم قيادة، وجندية، كما نبهنا على ذلك غير مرة فيما سبق من آفات. 13 - الجهل بالعواقب المترتبة على الحقد: وأخيرا قد يكون الجهل بالعواقب المترتبة على الحقد، سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي - كما سنذكر هذه العواقب بعد قليل - هو السبب في الوقوع في الحقد، فإن المرء إذا جهل العواقب الضارة، والآثار المهلكة المترتبة على أمر ما، فإنه يقع في هذا الأمر، بل ربما كان نصيرا له مدافعا عنه، وهذا شأن كثير من الناس؛ ولهذا دعا الله إلى الفقه في الدين، وجعله من الجهاد فقال: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة). وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وقل ربي زدني علما " (طه: 114). رابعا: آثار الحقد: وللحقد آثار ضارة، وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه الآثار، وتلك العواقب: أ - على العاملين: فمن آثار الحقد على العاملين: 1 - القلق والاضطراب النفسي: وذلك أن كراهية الناس إلى حد الحقد عليهم بغير موجب ولا مبرر مع عدم السعي في التطهر منها، تكون عاقبتها القلق والاضطراب النفسي، وكفى بذلك عقابا؛ إذ قد ينتهي بصاحبه إلى الموت كما حكى سبحانه عن صنف من المنافقين لم يكن لهم من عمل إلا الحقد على المؤمنين: ملأ {إن تمسسكم حسنة تسؤهم} (آل عمران: 120). {قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} (آل عمران). 2 - الحسد: وذلك أن الحاقد ممتلئ عداوة وبغضا من داخله، ويحاول التنفيس عن هذا الذي بداخله، ويرى الحسد - وهو تمني زوال نعمة من يحقد عليه - ميدانا واسعا من ميادين هذا التنفيس، فيأخذ به، والحسد مما يحبط العمل، ويبطله كما سيظهر من خلال الحديث عن هذه الآفة مستقبلا إن شاء الله تعالى. 3 - الشماتة بالغير: وذلك بالسرور والفرح حين تلم بالمحقود عليه مصيبة أو تنزل به كارثة، كما قال سبحانه عن المنافقين: {وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} (آل عمران: 125) والمسلم منهي عن الشماتة بالمسلمين، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك ". () 4 - تضييع ما تبقى من حقوق الأخوة الإسلامية: وذلك أنه قد مضى معنا أن من أسباب الوقوع في الحقد: عدم رعاية الأخوة الإسلامية، ويحاول الحاقد الرد على ذلك بأن يضيع هو الآخر ما تبقى من حقوق الأخوة الإسلامية، فيكون منه الهجران والقطيعة، والاحتقار والاستهزاء والسخرية، والنيل منه بما لا يحل من سوء الظن، وتتبع العورات، والغيبة والنميمة، وقد يتفاقم هذا الحقد، فيصل إلى حد الإيذاء البدني بالضرب ونحوه، ومنعه حقه من قضاء دين، أو صلة رحم، أو رد مظلمة، أو نصرته في وقت يوجب النصرة، وذلك كله حرام يأكل الحسنات ويؤدي إلى عذاب جهنم والعياذ بالله. 5 - الحرمان من الأجر والثواب: وذلك أن الحاقد يخاف الوقوع في العواقب المذكورة آنفا نظرا لما يترتب عليها من الإثم والعذاب، فيجاهد نفسه ويبتعد عنها غير أنه لا يتجاوز ذلك إلى ما يوجب الفضل العظيم والثواب الجزيل من البشاشة، والرفق، والإفساح في المجلس، وإظهار المحاسن والفضائل والتحريض على البر والمواساة بل والإيغار. يقول أبو حامد الغزالي عن آثار الحقد التي ذكرنا في إجمال: " والحقد يثمر ثمانية أمور: الأول: الحسد، وهو أن يحملك على أن تتمنى زوال النعمة عنه، فتغتم بنعمة إن أصابها، وتسر بمصيبة إن نزلت به، وهذا من فعل المنافقين، وسيأتي ذمه إن شاء الله تعالى. الثاني: أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن، فتشمت بما أصابه من البلاء. الثالث: أن تجهره، وتصارمه، وتنقطع عنه، وإن طلبك، وأقبل عليك. الرابع: وهو دونه، أن تعرض عنه استصغارا له. الخامس: أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب، وغيبة، وإفشاء سر، وهتك ستر، وغيره. السادس: أن تحاكيه استهزاء به، وسخرية منه. السابع: إيذاؤه بالضرب، وما يؤلم بدنه. الثامن: أن تمنعه حقه من قضاء دين، أو صلة رحم، أو رد مظلمة، وكل ذلك حرام. وأقل درجات الحقد: أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما تعصي الله به، ولكن تستثقله في الباطن ولا تنهي قلبك عن بغضه، حتى تمتنع عما كنت تطوع به من البشاشة، والرفق، والعناية، والقيام بحاجاته، والمجالسة معه على ذكر الله تعالى، والمعاونة على المنفعة له، أو بترك الدعاء له، والثناء عليه، والتحريض على بره ومواساته، فهذا كله مما ينقص درجتك في الدين، ويحول بينك وبين فضل عظيم، وثواب جزيل، وإن كان لا يعرضك لعقاب الله ". () ب - على العمل الإسلامي: وأما آثار الحقد على العمل الإسلامي فتتلخص في: 1 - قلة كسب الأنصار: وذلك أن الحاقد قد أتى من المعاصي والآثام ما يوجب نفرة الآخرين منه، بل عدم تأثرهم بما يصدر عنه، إذا لم يجدوا فيه النموذج الذي ينبني الاقتداء أو التأسي به، فيتولون عنه ويخسر العمل الإسلامي سواعد تشارك في حمل الأمانة وإبلاغها للناس، وحمايتها من كيد الكائدين، وعبث العابثين أو على الأقل تؤيد ولو بالدعاء من يحملون هذه الأمانة ويحاولوا الخروج من هذه التبعة وتلك المسؤولية. وقد جاء في الحديث: (... والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ". () 2 - الفرقة والتمزق: وكذلك تكون عاقبة الحقد على العمل الإسلامي الفرقة والتمزق ذلك إذا شاع الحقد في هذا الوسط، فإنه يثمر عدم رعاية حقوق الأخوة الإسلامية، وتكون العاقبة الفرقة والتمزق الأمر الذي يفتح الطريق على أعداء الله فيمسكون بخناقنا، ويضيقون هذا الخناق حول أعناقنا يوما بعد يوم ويحرمنا الله عز وجل تأييده ونصره، فتطول الطريق وتعظم التكاليف. خامسا: علاج الحقد: وما دمنا قد عرفنا حقيقة الحقد، ومظاهره، وموقف الإسلام منه وأسبابه، وآثاره، فقد سهل علينا تحديد سبيل العلاج بل الوقاية، وتتلخص هذه السبيل في هذه الخطوات: 1 - اليقين التام بأن الله عز وجل عليم حكيم، يعطي العباد من النعم تبعا لما سبق في علمه، وما اقتضته حكمته، وما فيه مصلحة للعبد، فإن هذا اليقين يحمل صاحبه على الرضا بما قسم الله وأعطى من النعمة، أعم من أن تكون هذه النعمة له، أو للآخرين. 2 - الحرص على العدالة في التوزيع، والتسوية في المعاملة من الأب لأولاده، ومن الأخ لإخوانه، ومن الحاكم للرعية، فإن ذلك له دور كبير في اقتلاع جذور الحقد من النفس، وأن يحل محله العفو، والصفح، والإحسان. 3 - إعطاء الغير الحق في التعبير عما يدور بداخله، ومنع جلد الظهور، والاعتداء على الدماء، والأموال والأعراض، فإن هذا مما يساعد كذلك في تطهير النفس من الحقد، وصبغها بصبغة العفو والتسامح. 4 - رعاية حقوق الحقوق الإسلامية - على النحو الذي شرحنا - فإن هذا له دور كبير في القضاء على هذا الحقد، وآثاره، وأن يعيش المسلمون أعزة كرماء، وفي رفاهية ورخاء. 5 - التخلص من أمراض الإعجاب بالنفس، والغرور، والتكبر على النحو الذي تقدم في الجزء الأول من هذه الآفات، فإنه بالتخلص من هذه الأمراض تكون طهارة النفس من الحقد. 6 - التحذير بعدم استغلال الآخرين في أي صورة من الصور ببيان أن هذا الاستغلال تكون له عواقب وخيمة، ومنها الحقد، فلعل هذا التحذير يؤدي إلى تلاشي الاستغلال، وأن يحل محله الرحمة، والمواساة بل والإيثار. 7 - التأكيد على رعاية حقوق الجار بغض النظر عن عقيدة وجنسية هذا الجار، فإنه إذا روعيت هذه الحقوق وكانت صادقة أثمرت اقتلاع جذور العداوة والبغضاء والحقد. 8 - السعي لحل المشكلات الأسرية، ورعاية العدالة عند تعدد الزوجات، وكفالة اليتامى حين يموت عائلهم كفالة تحميهم من سائر العلل والأمراض الظاهرة والباطنة، فلعل هذا يسهم في اقتلاع جذور الحقد من النفس. 9 - التثبت من كل ما نرى، وما نسمع، فإن هذا له دور كبير في عدم الوقوع في الحقد أصلا، ومن باب أولى التخلص منه، إن كان قد ألقي بجرانه في الصدر. 10 - السعي لقطع الهجران بطريق أو بأخرى، فإن هذا له دور كبير في اقتلاع بذور الحقد من النفس، قبل أن تنبت وتثمر، والقصة التالية تشرح ذلك: " جاء عن عوف بن مالك بن الطفيل - هو ابن الحارث - وهو ابن أخي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها: أن عائشة حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله علي نذر، ألا أكلم ابن الزبير أبدا، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: والله لا أشفع فيه أبدا ولا أتحنث إلى نذري، فلما طال ذلك على ابن الزبير، كلم المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث - وهما من بني زهرة - وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة، فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المسور، وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما، حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا: قالوا: كلنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا: دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة، وطفق يناشدها، ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته، وقبلت منه ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة، فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة، والتحريج طفقت تذكرهما، وهي تبكي، وتقول: إلي نذرت، والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك، فتبكي حتى تبل دموعها خمارها ". () 11 - تنقية المحيط الذي يعيش فيه المرء، قريبا كالبيت أو بعيدا كالمجتمع، من الحقد، بل تهيئة الأجواء الطاهرة النظيفة القائمة على سلامة الصدر من الأحقاد، بل المواساة والإيثار فإن ذلك له دور كبير في العلاج من الحقد، بل والتحصن ضده. 12 - دوام العيش مع كتاب الله وسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف جاء الذم للغل، والبغضاء، والدغل، والضغن، ونحوها مما يصب في النهاية في إناء الحقد فإن ذلك يساعد أولا على مجاهدة النفس والتطهر أو التخلص من الحقد، وثانيا يقوي الإيمان في النفس، بحيث تسد الطريق في وجه الحقد، فلا يدخل إلى هذه النفس مرة أخرى. 13 - محاسبة النفس أولا بأول، وإفهامها أن الحقد على الآخرين ؛ لأنهم أوتوا من النعمة ما حرمت منه يعني الاعتراض على الله وعدم الرضا بقضائه وقدره، وهذا خدش في أصل الإيمان يوجب أن يحبط العمل، وأن يحل غضب الله في الدنيا والآخرة. 14 - دوام المطالعة في التاريخ الإسلامي، والسماع والنظر فيما جاء عن السلف في علاج الحقد عند الآخرين، حيث كانوا يقابلون السيئة بالحسنة، فيقدمون لهؤلاء النفقة، والهدية، ويحسنون جوارهم، وضيافتهم، وتفقدونهم، ويشاركونهم أفراحهم ولا يؤذونهم في غياب أو حضور، ويدعون لهم بظهر الغيب وهكذا، وحسبنا هنا موقف الصديق من مسطح بن أثاثة، وكان قريبا له، وكان الصديق يتعهده بالنفقة، وحين تورط في حادثة الإفك حلف الصديق أن يمنع عنه رفده وعطاءه، فنزل القرآن يقول: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} (النور). وحين سمع الصديق ذلك قال: بلى يا رب أحب أن تغفر لي، وعاد إلى النفقة عليه وكفر عن يمينه. () وهذا الفاروق عمر كان يرى عدم قسمة أراضي سواد العراق والشام ومصر ونحوها محتجا بأن مثل هذا الفتح لا يكون كل يوم، وأنه إذا قسمت هذه الأراضي بين المقاتلين لم يبق شيء لمن بعدهم، ولم يبق لبيت المال مورد ثابت، كما استند إلى آيات سورة الحشر: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} (الحشر). قائلا: " قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء، ولئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء، ودمه في وجهه - يعني كرامته مصونة، إذ يقال لمن يسأل الناس: أراق ماء وجهه ". () يقول الدكتور يوسف القرضاوي معقبا على هذه الآيات، وفقه عمر هذا: " وقررت الآيات توزيع عائد الفيء توزيعا عادلا، لا زال غرة في جبين الإنسانية، فجعلت نصيبا فيه للجيل الحاضر من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وصودرت ملكياتهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، ومن الأنصار الذين فتحوا صدورهم، ودورهم لإخوانهم المهاجرين، فآووا ونصروا، وآثروا على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وأشركت مع هذا الجيل الذي بذل، وضحى أجيالا أخرى، عبر عنهم القرآن بقوله: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا}(الحشر: 10). وبهذا علمتنا الآيات الكريمة: أن الأمة كلها وحدة متكاملة على اختلاف الأمكنة، وامتداد الأزمنة، وأنها - على مر العصور - حلقات متماسكة، يعمل أولها لخير آخرها، ويغرس سلفها ليجني خلفها، ثم يأتي الآخر، فيكمل ما بدأه الأول، ويفخر الأحفاد بما فعله الأجداد، ويستغفر اللاحق للسابق، ولا يلعن آخر الأمة أولها، وبهذا التوزيع العادل تفادى الإسلام خطأ الرأسمالية التي تؤثر مصلحة الجيل الحاضر، ومنفعته مغفلة- في الغالب - ما وراءه من الأجيال، كما تجنب خطأ الشيوعية التي تتطرف كثيرا إلى حد التضحية بجيل، أو أجيال قائمة في سبيل أجيال لم تطرق بعد أبوب الحياة. ولهذا قال الفقيه الجليل معاذ بن جبل لأمير المؤمنين عمر- حين هم بقسمة الأرض أول الأمر على الفاتحين -: والله إذن ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون، فيصير إلى الرجل الواحد، والمرأة، ثم يأتي بعدهم قوم يسدون من الإسلام سدا - يعني يدافعون عنه - وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم، وآخرهم، قال: فصار عمر إلى قول معاذ. ومن هنا قال عمر لبلال وغيره - ممن عارض وقف الأرض على الأمة كلها-: تريدون أن يأتي آخر الناس ليس لهم شيء ". () وبالجملة فإن عمر كان يرى أن بقاء هذه الأرض ملكا للأمة كلها دون قسمة لها على الأجيال الحاضرة، مما يتفق وجوهر هذا الدعاء: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا} (الحشر: 10). 15 - التذكير الدائم بهذا الداء وخطورته على الفرد والجماعة، وأسبابه وسبيل الوقاية منه، فإن الإنسان ينسى، وعلاج النسيان إنما يكون بالتذكير. 16 - كثرة الدعاء والتبتل والضراعة إلى الله - عز وجل - أن يطهر القلوب من هذا الداء، وخير ما ندعو به في هذا المقام ما قدمنا مما علمنا الله في كتابه.
مختارات