الآفة الخامسة والعشرون - الغضب
والآفة الخامسة والعشرون التي أصابت وتصيب نفرا من العاملين وكانت سببا في كثير مما نشهده على ساحة العمل الإسلامي اليوم إنما هي: " الغضب ". ولا بد من أن نعمل جاهدين على التخلص بل التحصن ضد هذه الآفة، وبداية ذلك أن يكون في أيدينا تصور واضح ودقيق عن أبعاد ومعالم هذه الآفة، وذلك من خلال هذه الجوانب: أولا: تعريف الغضب: لغة يأتي الغضب في اللغة على معان، منها: أ - السخط، أو عدم الرضى بالشيء، وعن الشيء، نقول: غضب عليه غضبا، ومغضبة: سخط أولم يرض، وغضب له: سخط أولم يرض على غيره من أجله. ب - العض على الشيء، نقول: غضبت الخيل على اللجم: عضت. ج - العبوس، نقول: ناقة غضوب، وامرأة غضوب: عبوس. د - ورم ما حول الشيء، تقول: غضبت عينه، وغضبت: ورم ما حولها. هـ - الكدر في المعاشرة والخلق، نقول: هذا غضابي: كدر في معاشرته وخالقه. و - الجنة: تتخذ من جلود الإبل، تلبس للقتال، والغضبة: جلد المسن من الوعول حين يسلخ. () ولا تعارض بين هذه المعاني جميعا، إذ منها ما يعبر عن حقيقة الغضب، وهو المعنى الأول، ومنها ما يعبر عن مظاهره وأماراته الدالة عليه، وهو المعنى الثاني، والثالث، والرابع، ومنها ما يعبر عن آثاره وهو المعنى الخامس، ومنها ما يعبر عن هدفه، وغايته، وهو المعنى السادس والأخير. اصطلاحا: أما في الاصطلاح فهو: تغير داخلي أو انفعال يحمل على السطو والانتقام شفاء لما في الصدر، وأشد منه الغيظ حتى قالوا في تعريفه: إنه شدة الغضب. () ثانيا: مظاهر، وحقيقته في الإسلام: وللغضب مظاهر دالة عليه، وأمارات يعرف بها، ومنها: 1 - انتفاخ العروق والأوداج مع احمرار الوجه والعينين. 2 - عبوس وتقطيب الوجه والجبين. 3 - العدوان على الغير باللسان، أو باليد، أو بالرجل، أو ما يقوم مقام ذلك. 4 - مقابلة العدوان بمثله وأشد مع عدم تقدير للعواقب الناجمة عن ذلك، () وهلم جرا. وحقيقة الغضب في الإسلام: أن منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم. * فما كان منه دفاعا عن نفس، أو عرض، أو مال، أو دين، أو حقوق عامة، أو نصرة مظلوم فمحمود. ويشهد بذلك أدلة كثيرة منها: 1 - أن الله خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض كما قال سبحانه: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} (البقرة: 30). وحتى ينهض الإنسان بهذه المهمة خلق مكونا من روح، وعقل، وبدن، واقتضت حكمته سبحانه: أن يجعل البدن في خدمة الروح، وأن يكون البدن في هيئة تجعله صالحا لخدمة الروح مدة بقاء الإنسان في الأرض، فخلق فيه قوتين: الأولى: القوة الشهوية، ومهمتها جلب كل ما ينفع البدن ويغذيه. الثانية: القوة الغضبية، ومهمتها دفع كل ما يضر البدن ويهلكه. كما خلق له الأعضاء والجوارح لتكون في خدمة كل من القوة الشهوية والقوة الغضبية، وخلق له العقل كذلك ليكون بمثابة مشير أو ناصح للروح، بحيث إن مالت كل من القوتين الشهوية والغضبية، عن حد الاعتدال، أشار العقل على الروح أو نصحه بضرورة اتخاذ موقف صارم مع القوة التي مالت، ليعود للإنسان توازنه وتكامله. وعلم الله أن العقل قد يعتريه ما يحول بينه وبين بذل النصح والإرشاد لسبب أو لآخر، فأنزل له منهاجا يتمثل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ينير الطريق، ويهدي للحق، ويحفظ التوازن والتكامل بين سائر الجوانب التي يتكون منها الإنسان، كي تبقى شخصيته سوية مستقيمة، ليس بها خلل أو اعوجاج. () فالغضب إذن خلق في الإنسان ليدافع به عن كل ما تقدم، ويصون به الحرمات، والمقدسات. 2 - وأن الله - عز وجل - أثنى على أصحاب نبيه بأنهم أشداء على الكفار، فيقول: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار}(الفتح: 29). والشدة على الكفار لا تنبعث إلا عن الحمية، والغضب، وهم لم يغضبوا فيما أخبر عنهم ربهم إلا له سبحانه وتعالى، حيث يقول: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}(الحشر). يقول ابن جرير-رحمه الله: " قوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار}: يقول تعالى ذكره: محمد رسول الله، وأتباعه من أصحابه الذين هم معه على دينه أشداء على الكفار: غليظة عليهم قلوبهم، قليلة بهم رحمتهم ". () 3 - وذكر الله - عز وجل - أن من صفات الصنف المرشح لحماية دين الله والتمكين له في الأرض بعد إذ يعرض من يعرض، إنما هي العزة على الكافرين فقال: {ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة: 54). يقول ابن جرير-رحمه الله: " ويعني بقوله {أعزة على الكافرين} أشداء عليهم، غلظاء بهم، من قول القائل: قد عزني فلان إذا أظهر العزة من نفسه له، وأبدى له الجفوة والغلظة ". () 4 - وقال تعالى: {ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} (التوبة، التحريم: 9). ومعلوم أن الغلظة على هؤلاء إنما تنبع من الغضب عليهم بسبب كفرهم ونفاقهم المؤدين إلى الصد عن سبيل الله، وإرادتها عوجا. 5 - وجاء في صفته صلى الله عليه وسلم أنه " ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنهك حرمة الله، فينتقم الله بها ". () وعلى هذا النوع من الغضب يتنزل قول الشافعي رضي الله عنه: " من استغضب فلم يغضب فهو حمار ". () *وما كان منه انتقاما لنفس فمذموم، وهو المقصود هنا، وبذمه جاءت الأخبار والآثار: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ". () وعن أبي هريرة أيضا: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: " لا تغضب "، فردد مرارا، قال: " لا تغضب ". () وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما تعدون الصرعة فيكم؟ "، قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: " ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب ". () وعن عبد الله بن عمرو: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقذني من غضب الله؟ قال: " لا تغضب ". () وقال أبو الدرداء: قلت: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: " لا تغضب ". () وقال عبد الله بن مسعود: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع. () وكان عمر رضي الله عنه إذا خطب، قال في خطبته: " أفلح منكم من حفظ من الطمع، والهوى، والغضب ". () وقيل لعبد الله بن المبارك: أجمل لنا حسن الخلق في كلمة، فقال: اترك الغضب. () تلك هي حقيقة الغضب في الإسلام، وقد لخص هذه الحقيقة بأسلوب سهل ميسور الشيخ علي محفوظ نقلا عن الغزالي في الإحياء فقال: للغضب ثلاث درجات: الأولى: درجة الاعتدال، بأن يغضب ليدافع عن نفسه، أو دينه، أو عرضه، أو ماله، أو ليدافع عن الحقوق العامة، ونصرة المظلوم، وتلك الحالة التي من أجلها خلق الغضب، فهو مخلوق لحكمة ضرورية اقتضتها طبيعة العمران، وطلبها نظام المجتمع الإنساني، فإن التنافس في هذه الحياة، والتزاحم على مرافقها يستدعي دفاعا قويا عن النفس، والدين، والمال، والعرض والحقوق العامة، ولولا ذلك لفسدت الأرض بانتشار الفوضى، وتقويض نظام الاجتماع؛ لأن من لا يغضب لنفسه كان معرضا للزوال من هذا الوجود، أو معرضا لأن يسخره غيره تسخير الدواب التي لا تغضب لنفسها، ومن لا يغضب لدينه، فإنه يكون عرضة لتقليد القوي في كل ما يراه ويستحسنه، فينتقل من دين إلى دين بسبب التقليد الأعمى، ومن لا يغضب لعرضه لا يغار على نسائه، وتختلط الأنساب، وتشيع الفاحشة في طبقات الأمة، ويصبح الإنسان كالحيوان ينزو ذكره على أنثاه بدون غيرة ولا حمية، ومن لا يغضب لماله فإنه لا يلبث أن يسلبه الناس منه فيصبح فقيرا معدما، وإذا فشا سلب المال تعطل نظام العمل، بل بطلت الأعمال التجارية، والصناعية، والزراعية، واعتمد الناس على سلب بعضهم بعضا، وذلك شر ووبال في العاجل والآجل، ومن لا يغار للحقوق العامة، وإنصاف المظلومين فقد خالف مقتضى الطبيعة التي فطر الله الناس عليها، وفي مثله يقول الإمام الشافعي - رحمه الله: من استغضب فلم يغضب فهو حمار؟ أي بليد الطبع، فاقد الحمية، والى ذلك يشير قوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}(البقرة). الثانية: درجة التفريط، وهي أن ينحط الغضب عن درجة الاعتدال، بأن يضعف في الإنسان، أو يفقد منه رأسا، وتلك الحالة مذمومة شرعا، وعقلا؛ لأن من لا يغضب لنفسه، أو لدينه، أو لعرضه، أو لماله، أو للمصالح العامة فهو جبان لم يجر على سنن الله في خلقه. وفي ذلك خطر عظيم على الاجتماع؛ لأنه مثار الفوضى في جميع مرافق الحياة كما علمت. الثالثة: درجة الإفراط، وهي أن يخرج الغضب عن حد الاعتدال، ويطغى على العقل والدين، ويندفع في سبيل الشر اندفاعا قد يؤدي إلى الهلاك من حيث لا يدري، وربما جره غضبه لأجل أمر يسير إلى ارتكاب أكبر الجرائم، وشر الموبقات، ومعلوم أن الغضب في تلك الحالة مذموم شرعا وعقلا، وتتفاوت درجات الذم بتفاوت الآثار المترتبة عليه قوة وضعفا، فكلما اشتد ضررها كان الغضب أكبر حجما، وأكثر ذما ". () ثالثا: أسباب الغضب: وللغضب أسباب تؤدي إليه، وبواعث توقع فيه، وأهم هذه الأسباب وتلك البواعث: 1 - البيئة المحيطة بالمرء: والسبب الأول الذي يؤدي بالمرء إلى الغضب إنما يرجع إلى البيئة المحيطة بهذا المرء، أعم من أن تكون قريبة - وهي البيت، أو بعيدة - وهي المجتمع؛ إذ قد تحيط بالمرء بيئة مليئة بأشرار يحسبون التهور شجاعة، وطغيان الغضب الموجب للظلم رجولة، فتتأثر نفسه بذلك، وتصبح سرعة الغضب عادة له، وشعارا. 2 - المراء أو الجدل: والسبب الثاني المؤدي إلى الغضب إنما يرجع إلى المراء أو الجدل بالباطل؛ ذلك أن كلا من المتخاذلين يريد الانتصار على الآخر، ولو بالباطل، وحين لا يتم له ذلك يغضب ويثور، قاصدا السطو أو الانتقام، لا سيما إذا كان يرى نفسه أقوى وأشد ممن يناظره أو يجادله. ولعل هذا هو السبب في التحذير من المراء أو الجدل بالباطل على النحو الذي قدمنا في آفة: " المراء أو الجدل لا من هذه السلسلة أعني سلسلة: " آفات على الطريق ". 3 - المزاح بالباطل: والسبب الثالث المؤدي إلى الغضب إنما يعود إلى المزاح بالباطل؛ ذلك أن المزاح إذا تجاوز حدود الحق إلى الباطل أدى إلى الخصومة، وتنتهي الخصومة إلى إشعال نار الغضب في القلب بصورة تنعكس على الجوارح، فإذا هي ساعية إلى السطو والانتقام. ولعل هذا هو السبب في أنه صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقا، وأنه نهى عن المزاح بالباطل، إذ يقول: " لا تمار أخاك ولا تمازحه، ولا تعده موعدة فتخلفه ". () 4 - عدوان الآخرين بأي لون من ألوان العدوان: والسبب الرابع الذي يؤدي إلى الغضب إنما يرجع إلى عدوان الآخرين بأي لون من ألوان العدوان، ذلك أن المرء إذا وقع عليه عدوان من الآخرين بأي لون من ألوان العدوان: سخرية، أو استهزاء، أو تجسسا وتتبعا لعوراته، أو غيبة، ونميمة، أو سبا وتجريحا، أو اعتقالا وسجنا، أو ضربا وتعذيبا، على نحو ما تصنعه أكثر حكومات العالم الإسلامي - بل العربي على وجه الخصوص - مع بعض الشباب المتدين الغيور الذي أخطأ الطريق، الأمر الذي يثيره من داخله، ويحمله على الرد بصورة أو بأخرى. ولعل هذا هو السبب في تحذير الله ورسوله من العدوان على الآخرين دون مبرر يقتضي ذلك، إذ يقول سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله... " الحديث. () 5 - الاستعلاء والتكبر في الأرض بغير الحق: والسبب الخامس الذي يؤدي إلى الغضب إنما يرجع إلى الاستعلاء والتكبر في الأرض بغير الحق؛ ذلك أن المستعلي المتكبر في الأرض بغير الحق يتأثر كلما فاته ما يعتقد أنه يستبقي عظمته ومنزلته بين الناس، فإذا طالبه أحد بحق استشاط غضبه، وكذا إذا نهاه عن رذيلة، أو عارضه في أي أمر كان، لاعتقاده أنه كامل من جميع الجهات، فلا يصح لأحد أن يأمره، أو ينهاه، أو يقف في سبيله، وهو في الواقع ناقص من كل وجه، يحاول أن يجبر نقصه باستعلائه، وتكبره. 6 - نسيان النفس من المجاهدة: والسبب السادس الذي يؤدي إلى الغضب إنما يعود إلى نسيان النفس من المجاهدة؛ ذلك أن أي داء يبتلى به الإنسان يتفاقم ويعظم، ويصبح كأنه قطعة من جبلة الإنسان حين يهمله، ولا يجاهد نفسه أن تقلع عنه، وتتخلص منه. ولهذا دعا الله - كما قدمنا غير مرة -إلى المجاهدة، فقال سبحانه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} (العنكبوت). 7 - عدم قيام الآخرين بواجبهم نحو من ابتلى بالغضب: والسبب السابع الذي يؤدي إلى الغضب إنما يرجع إلى عدم قيام الآخرين بواجبهم نحو من ابتلي بالغضب؛ ذلك أن الإنسان قد يعرف عجبه وآفته، ولكنه لضعفه أمام نفسه، وأمام إغراءات شياطين الإنس والجن، وزينة الحياة الدنيا، يعجز عن التخلص من هذا العيب، وهذه الآفة، وحينئذ لا بد له من عون الآخرين، ووقوفهم بجانبه حتى يتخلص من عيبه بالغضب، فإن هذا الغضب يتفاقم، ويعظم حتى يصبح وكأنه جزء من شخصية صاحبه لا ينفك عنه بحال. 8 - الوصف بما يراه المرء منقصة له أو عيبا: والسبب الثامن الذي يؤدي إلى الغضب إنما يرجع إلى الوصف بما يراه المرء منقصة له أو عيبا؛ ذلك أن الإنسان إذا وصف بأوصاف يرى فيها انتقاصا له، ونيلا من كرامته بأن يقال له: لو كنت رجلا للقيت فلانا وفلانا، وأظن أنك ما تريد أن تلقى فلانا إلا فرقا أو خوفا من بأسه، وهكذا، الأمر الذي يحركه من داخله وينعكس ذلك على جوارحه فإذا هو محمر الوجه والعينين، مرغيا، مزبدا، ساعيا إلى السطو والانتقام على نحو ما جاء في سبب خروج أمية بن خلف إلى مصرعه يوم بدر: إذ يروي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيقول: " انطلق سعد بن معاذ معتمرا، فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد، فقال أمية لسعد: انتظر، حتى إذا انتصف النهار، وغفل الناس، انطلقت فطفت، فبينا سعد يطوف إذا أبو جهل، فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ فقال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنا، وقد آويتم محمدا وأصحابه، فقال: نعم، فتلاحيا بينهما، فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم، فإنه سيد أهل الوادي، ثم قال سعد: والله، لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام، قال: فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك، وجعل يمسكه، فغضب سعد فقال: دعنا عنك، فإني سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يزعم: أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال: نعم، قال: والله، ما يكذب محمد إذا حدث، فرجع إلى امرأته، فقال: أما تعلمين ما قال أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: إنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي، قالت: فو الله ما يكذب محمد، قال: فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ، قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي، قال: فأراد ألا يخرج، فقال أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يوما أو يومين، فسار معهم، فقتله الله ". () وفي رواية عن ابن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح: " أن أمية بن خلف كان أجمع القعود، وكان شيخا جليلا، جسيما ثقيلا، فأتاح عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر، فإنما أنت من النساء، قال: قبحك الله، وقبح ما جئت به، قال: ثم تجهز، وخرج مع الناس ". () وفي رواية: " أن أبا جهل هو الذي ما زال به يدفعه ويحرضه حتى قال: أما إذ غلبتني لأشترين أجود بعير بمكة ". () فانظر كيف استطاع عقبة بن أبي معيط أو أبو جهل إغضاب أمية بن خلف إغضابا حمله على شراء أجود بعير ليشاركهم الخروج إلى بدر، وكانت وسيلة كل منهما في ذلك إنما هي وصف أمية بن خلف بما اعتبره انتقاصا، وعجبا، وإهانة له، ورأى أن أحسن وسيلة للرد على كل هذه الأوصاف، إنما هي الخروج مع القوم على أجود راحلة. 9 - التذكير بالعداوات والثارات القديمة: والسبب التاسع الذي يؤدي إلى الوقوع في الغضب إنما يرجع إلى التذكير بالعداوات والثارات القديمة ؛ ذلك أن المرء قد يكون له ثأر عند آخرين، ويتنازل عنه ديانة أو إيمانا، وتلتقي القلوب ويكون الحب والإخاء، وهنا يعمل الحاقدون والحساد على تسويد هذه القلوب، والنيل من الأخوة بوسيلة أو بأخرى، ويتخذون من التذكير بالثارات القديمة وسيلة من أنجح الوسائل لذلك. على نحو ما جاء في علاقة الأنصار- أوسهم وخزرجهم - فقد كانت بينهم حروب وثارات في الجاهلية، ولما جاء الإسلام أبطل هذه الثارات، وألف بين قلوبهم، وجمع كلمتهم. وغاظ ذلك اليهود، فحاولوا الوقيعة بينهم - على ما أورده ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم(إلى قوله تعالى:)وأولئك لهم عذاب عظيم} (آل عمران). إذ يقول: " وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله: {قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} والآيات بعدهما إلى قوله: {وأولئك لهم عذاب عظيم} نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيين من الأوس والخزرج بعد الإسلام ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء، فعنفه الله بفعله ذلك، وقبح له ما فعل، ووبخه عليه، ووعظ أيضا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف وذكر الرواية بذلك فقال: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني الثقة، عن زيد بن أسلم قال: مر شاس بن قيس، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية - يعني: كبر-عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد -يعني أمهم، وكانت تسمى قيلة - والله ما لنا معهم - إذا اجتمع ملؤهم - بها من قرار، فأمر فتى شابا من اليهود، وكان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، وذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا، وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة. وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة - والظاهرة الحرة - فخرجوا إليها، وتحاور الناس، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج: بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: " يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا "، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاش بن قيس، وما صنع، فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع: {قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا} (آل عمران)، وأنزل الله - عز وجل - في أوس بن قيظي، وجبار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا مما أدخل عليهم شاس بن قيس من أمر الجاهلية {ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} إلى قول: {وأولئك لهم عذاب عظيم} (آل عمرا ن) ". () 10 - الغفلة عن العواقب المترتبة على الغضب: وأخيرا، قد تكون الغفلة عن العواقب والآثار المترتبة على الغضب فردية أو جماعية، دنيوية أو أخروية، هي السبب في الوقوع في الغضب؛ ذلك أن المرء إذا غفل عن الآثار والعواقب المترتبة على أمر ما وقع في ذلك الأمر من حيث لا يدري، ولا يشعر. ولعل هذا هو السر في دعوة الشارع الحكيم إلى الفقه في الدين إذ يقول الله عز وجل في أول آيات الوحي:{اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق). ويقول: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة). {وقل رب زدني علما} (طه). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين... " الحديث. () رابعا: آثار الغضب: وللغضب آثار ضارة، وعواقب مهلكة على العاملين، وعلى العمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه الآثار، وتلك العواقب: أ - على العاملين: فمن آثار الغضب على العاملين: 1 - الإضرار بالبدن: ذلك أن الغضب ينشأ من غليان الدم في القلب، ثم اندفاعه في العروق، كما يظهر من احمرار الوجه والعينين، وتكرار ذلك ينشأ عنه غالبا ضغط الدم، وربما تصلب الشرايين، ثم الشلل والعياذ بالله، وهكذا ينتهي الغضب إلى الإضرار بالبدن. 2 - نقصان الدين: وذلك أن الغضب قد يؤدي بصاحبه إلى غيبة الآخرين، وربما إلى انتهاك أعراضهم، وسلب أموالهم وسفك دمائهم، وذلك كله إثم، ونقصان في الدين. 3 - عدم القدرة على الإمساك بزمام النفس: ذلك أن العقل في ساعة الغضب يكون كالمستور أو كالمغطى، وإذا ستر العقل أو غطي صار الإنسان غير قادر على الإمساك بزمام النفس، وحينئذ يصدر منه مالا يحمد عقباه، وما يؤدي إلى الندم، ولكن بعد فوات الأوان. وقد قال سليمان بن داود عليهما السلام: " إياك وكثرة الغضب، فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم ". () وعن وهب بن منبه: " أن راهبا كان في صومعته، فأراد الشيطان أن يضله فلم يستطع، فجاءه حتى ناداه، فقال له: افتح، فلم يجبه، فقال: افتح فإني إذا ذهبت ندمت، فلم يلتفت إليه... قال: فولى مدبرا، فقال الراهب: ألا تسمع؟ قال: بلى، أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم؟ فقال: الحدة، إن الرجل إذا كان حديدا قلبتاه كما يقلب الصبيان الكرة ". () وقال بعضهم لولده: " يا بني، لا يثبت العقل عند الغضب، كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل الناس غضبا أعقلهم، فإن كان للدنيا كان دهاء ومكرا، وإن كان للآخرة كان حلما وعلما، فقد قيل: الغضب عدو العقل، والغضب غول العقل ". () 4 - الوقوع في مذلة الاعتذار: ذلك أن المغضب يقع منه حال الغضب مالا يدري ولا يشعر به، وهذا بدوره يوقعه في مذلة الاعتذار. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ارتكاب كل ما يؤدي إلى الوقوع في مذلة الاعتذار، فقال: " إياك وكل ما يعتذر منه ". () وكان بعضهم يقول: " إياك والغضب، فإنه يصيرك إلى ذلة الاعتذار ". () 5 - العذاب الشديد: إذ الغضبان كثير الخطأ، والوقوع في المعاصي والسيئات، وهذه توجب العذاب الشديد في الآخرة فقط، أو في الدنيا والآخرة جميعا، وصدق الله إذ يقول: {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} (الجن)، {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} (طه: 124). وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول - وقد سأله عبد الله بن عمرو بن العاص: ما ينقذني من غضب الله؟ " لا تغضب "، () وإذ يقول - وقد سأله أبو الدرداء قائلا: دلني على عمل يدخلني الجنة؟: " لا تغضب ". () ب - على العمل الإسلامي: ومن آثار الغضب على العمل الإسلامي: 1 - قلة كسب الأنصار والمؤيدين: ذلك أن النفوس تألف العاقل المنضبط الحكيم في تصرفاته وتقبل عليه، وتلتف حوله، وتعينه وتؤازره ما استطاعت أما الطائش الأرعن في سلوكياته وتصرفاته، فإنها تعرض وتنفض عنه، وعليه فإذا كان العاملون لدين الله ممن يغضبون لأنفسهم ويطيرون لكل هيعة، ويستجيبون لكل مثير دون تقدير للنتائج أو العواقب، فان الناس لن يقبلوا على هؤلاء العاملين، ولن يؤازروهم، ويخسر العمل الإسلامي بذلك كثيرا من الأنصار والمؤيدين. 2 - الفرقة والتمزق: وثمة أثر ثان على العمل الإسلامي من وراء الغضب، ألا وهو الفرقة والتمزق؛ ذلك أن الغضب للنفس يعني أن العمل لغير الله، وكل ما كان كذلك فلن يرجى من ورائه مودة، أو ترابط، بل على العكس تكون الفرقة والتمزق. فقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: " والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ". () 3 - طول الطريق وكثرة التكاليف: والأثر الأخير للغضب على العمل الإسلامي، إنما هو طول الطريق وكثرة التكاليف، وهذا أمر بدهي، إذ أن قلة كسب الأنصار، والمؤيدين، مع شيوع الفرقة والتمزق ينتهيان حتما بهذا العمل إلى طول الطريق وكثرة التكاليف. خامسا: علاج الغضب: وما دمنا قد وقفنا على ماهية الغضب، وحقيقة موقف الإسلام منه، والأسباب الحاملة عليه، وآثاره على العاملين، وعلى العمل الإسلامي، فقد صار سهلا وميسورا أن نرسم طريق العلاج، بل طريق الوقاية من هذا الغضب، وتتلخص هذه الطريق في: 1 - التبصير بالآثار الضارة والعواقب المهلكة المترتبة على الغضب، سواء على العاملين، أو على العمل الإسلامي، دنيوية كانت أو أخروية، فإن مثل هذا التبصير يفيد في تحريك النفس من داخلها، فإذا هي ساعية في طريق العلاج، بل الوقاية من هذا الداء. 2 - تطهير البيئة التي يعيش فيها المرء في البيت أو في المجتمع من هذا الداء ما أمكن، وإلا لزم التحول إلى بيئة أو إلى وسط آخر نظيف، يساعد في التخلص بل الوقاية من هذا الداء. 3 - التداوي من المراء أو الجدل، وكذلك من المزاح بالباطل، فإن التداوي منهما يقضي على رافدين في غاية الأهمية بالنسبة للغضب، من باب أن القضاء على الداء ينبع من القضاء على أسبابه. 4 - عدم العدوان على الآخرين ظلما وعدوانا، فإن مثل هذا العدوان يحمل على الرد مهما تكن التكاليف والتضحيات، وهناك ألف طريق وطريق لعلاج الخطأ، وآخرها العدوان من باب: أن آخر الدواء الكي. 5 - التحرر من الاستعلاء والتكبر في الأرض بغير الحق، مع التحلي بنقيضهما، وهو التواضع، فإن ذلك من شأنه أن يحمل المعروفين بالغضب عند رؤية هؤلاء، وقد تحرروا من أمراضهم أو أدوائهم، أن يتخلصوا بل أن يتوقوا هذا الغضب. 6 - قيام الأمة - حكاما ومحكومين - بواجبها نحو المعروفين بالغضب، مرة بالنصيحة، ومرة بالإنكار، ومرة بالتخويف، ومرة بالثواب ومرة بالهجر والمقاطعة، وهكذا فإن القيام بمثل هذا الواجب يفيد كثيرا في التخلص بل الوقاية من هذا الداء. 7 - إنزال الناس منازلهم، وإعطائهم حقهم من الاحترام، والتقدير، وتجنب وصفهم بما لا يليق أو بما لا ينبغي، فإن هذا من شأنه أن يحمل على التخلص بل الوقاية من هذا الداء. 8 - عدم إثارة العداوات أو الثارات القديمة، فإن ذلك من شأنه أن يقضي، بل يقي الوقوع في هذا الداء. 9 - تغيير الحال التي يكون عليها الإنسان ساعة الغضب بأن يتوضأ أو يغتسل، ويجلس إن كان قائما، ويمرغ خده ووجهه في التراب إن كان جالسا، ويكثر من ذكر الله دعاء، وتوبة واستغفارا، وثناء على الله - تبارك وتعالى - أو يمشي إن كان واقفا، وهكذا حتى تهدأ ثائرته، ويعود إلى رشده وصوابه. ولقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء، إذ يقول سليمان بن صرد: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه، مغضبا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إني لست بمجنون. () ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: ".... ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أما رأيتم إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض " الحديث. () وعن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي ذر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: " إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع ". () وعن أبي وائل القاص قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي، فكلمه رجل فأغضبه، فقام، فتوضأ، ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدثني أبي، عن جدي عطية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الغضب من الشيطان، وان الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ". () 10 - تذكير الغضبان بحاله وقت الغضب، وأنه أشبه ما يكون بالمجانين، أو بالوحش الهائج، وأن مثل هذا ما لا يليق بإنسان خلقه ربه في أحسن تقويم، وفضله على كثير من خلقه إذ يقول: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (الإسراء). {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين)، فلعل مثل هذا التذكير يفيد في العلاج بل الوقاية من الغضب. 11 - لفت النظر إلى ضرورة مجاهدة النفس ضد الغضب، وأن هذه المجاهدة دليل القوة والشجاعة حقا، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ". () فإن مثل هذا الأسلوب كثيرا ما يفيد في العلاج بل الوقاية من الداء. 12 - بيان الأجر الذي ينتظر المسلم حين يجاهد نفسه، ويكظم غيظه، إذ يقول سبحانه: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون}(الشورى). {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} (آل عمران). وإذ يقول صلى الله عليه وسلم: " ما جرع عبد جرعة أعظم أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى "، () " من كتم غيظا، وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما شاء ". () فإن من لاح له بريق الأجر هانت عليه مشقة التكليف. 13 - دوام المعايشة لكتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإنها تبصر الطريق، وتربي ملكة التقوى، وهما خير ما يعين على التخلص بل الوقاية من الغضب. 14 - النظر في تاريخ من عرف عنهم كظم الغيظ والتحلي بالحلم والعفو كالأحنف بن قيس، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي وغيرهم، فإن هذا النظر يحمل على الاقتداء والتأسي أو على الأقل المحاكاة والتشبه. 15 - الدعاء إلى الله أن يشفي القلوب مما بها من غيظ، وأن يسكب فيها الرضا، والرحمة، والشفقة على عباد الله، فإن الدعاء سهام نافذة لا تكاد تخطئ، بل هو العبادة حقا.
مختارات