الآفة الرابعة والعشرون - الشح
والآفة الرابعة والعشرون التي أصابت وتصيب نفرا من العاملين، وكانت سببا في كثير مما نعاني منه نحن المسلمين اليوم إنما هي: " الشح ". وحتى يتطهر منها من ابتلي بها، ويتقيها من عافاه الله - عز وجل- منها، فإننا سنقف على أبعادها، ومعالمها من خلال هذه الفقرات. أولا: تعريف الشح لغة يطلق الشح لغة على معان منها: 1 - حرص النفس على ما تملك، وبخلها به، أو هو ضد الإيثار، إذ المؤثر غيره على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شح، وبخل بإخراجه، نقول: شح فلان بالشيء: بخل، وشح على الشيء: حرص، فهو شحيح وشحاح. 2 - القلة والعسر، نقول: شح الماء ونحوه، شحا: قل، وعسر، وشح الزناد: لم يور أي لم يشتعل. 3 - التسابق إلى الشيء والتنافس عليه، نقول: تحاشوا في الأمر وعلى الأمر: تسابقوا، وتنافسوا، وتشاح الخصمان: بدا حرصهما على الغلبة. 4 - المخاصمة أو المماحكة والمجادلة، نقول: شاح فلانا: خاصمه، وماحكه، ويقول العلماء: لا مشاحة في الاصطلاح: لا مجادلة فيما تعارفوا عليه. () وعندي أنه لا تعارض بين هذه المعاني جميعا، إذ الشح: حرص أو بخل يتلخص في المنع، أو العطاء بقلة، وربما يحمل على التنافس والمخاصمة أو المجادلة. اصطلاحا: له معنيان: أحدهما عرفي: وهو البخل بالمال، حتى صار معروفا بين الناس أنه إذا أطلقت كلمة شح انصرفت مباشرة إلى إمساك المال وعدم بذله. والآخر شرعي: وهو البخل بكل بر ومعروف مالا أو غيره، في يده أو في يد غيره، ولهذا المعنى الشرعي شواهد وأدلة منها: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم و استحلوا محارمهم)، () وفي رواية: (إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا). () قوله صلى الله عليه وسلم: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي). () وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لفلان في حائطي عذقا، () وإنه قد آذاني، وشق علي مكان عذقه، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: (بعني عذقك الذي في حائط فلان) قال: لا، قال: (فهبه لي) قال: لا، قال: (فبعنيه بعذق في الجنة) قال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت الذي هو أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام). () إلى غير ذلك من النصوص الشرعية الدالة على أن الشح في لسان الشرع: إنما هو البخل بكل بر، ومعروف، مالا أو غيره، في يده أو في يد غيره. ثانيا: مظاهر الشح وقيمته في ميزان الإسلام. وللشح - بمعناه الشرعي الذي ذكرناه - مظاهر تدل عليه، وأمارات يعرف بها، وأهم هذه المظاهر، وتلك الأمارات: 1 - البخل بالرئاسة بأن يكون المرء صاحب رئاسة تعود على الدين والأمة بالخير، ثم يحبس هذه الرئاسة، فلا يصرفها في خدمة الدين ومصالح الأمة. 2 - البخل بالوجاهة، بأن يكون المرء من بيت معروف بشرف ووجاهة يفيدان حماية الحق ومؤازرته، ثم يحبس هذا الشرف وهذه الوجاهة عن أن يقفا مع هذا الحق ويؤازرانه. 3 - البخل براحته ورفاهيته وإجمام نفسه عن أن تكون هذه جميعا في مصلحة الغير مع قدرته على ذلك. 4 - البخل بالعلم بمعنى حبسه عن الناس وإن سألوه، أو حبس الجواب الكافي الشافي عند السؤال، والاقتصار في الجواب، ولا سيما عند الفتيا، بكتابة " نعم " أو " لا ". 5 - البخل بنفع البدن في أي صورة من الصور، كالعدل بين الناس ومواساة ذوي الحاجة، وإماطة الأذى عن الطريق، وإرشاد الضال أو التائه إلى الطريق والإفساح في المجلس ونحوه. 6 - البخل بحسن الخلق من عدم مقابلة السيئة بمثلها، ومن العقود، وكف الأذى. 7 - البخل بالنفس، فلا يضحي بها ولا يبذلها فداء لدين الله، مع أنه يرى حرمة الدين تنتهك متمثلة في نشر الشرك والإلحاد، وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال، والعدوان على المقدسات ونحوها. 8 - البخل بالمال، بمعنى حبسه عن صرفه في أوجه الخير والاستحقاق. 9 - البخل بما يقدمه الآخرون من نفس ومال خدمة لدين الله عز وجل، على نحو ما يصنعه رسميون اليوم من ملاحقة وإيذاء كل من يصنع ذلك، متهمين إياه بأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان بحجة تجفيف المنابع. 10 - لمز الآخرين فيما يقدمون على نحو ما قال المنافقون في نفر من المؤمنين لم يجدوا ما يتصدقون به سوى جهدهم، وحكاه الحق تبارك وتعالى في كتابه فقال: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهـم ولهم عذاب أليم} [التوبة: 79]. وهلم جرا. والشح بكل صوره، ومظاهره مذموم: فقد بين الله في كتابه أن من طهرت نفسه من الشح فهو من المفلحين حقا، فقال: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9. التغابن: 16]. وعن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: " إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل شيئا "، وإذا الرجل: عبد الرحمن بن عوف. () وعن ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله عز وجل: {و من يوق شح نفسه} قال: من وقى شح نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئا، ولم يقربه، ولم يدعه الشح أن يحبس من الحلال شيئا فهو من المفلحين. () وعن ابن عباس قال: قوله: {ومن يوق شح نفسه} يقول: هوى نفسه، حيث يتبع هواه، ولم يقبل الإيمان. () وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: {ومن يوق شح نفسه}: أن يعمد إلى مال غيره فيأكله. () ويقول ابن جرير رحمه الله: وقوله {فأولئك هم المفلحون} يقول: فهؤلاء الذين وقوا شح أنفسهم المنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم. () كما بين سبحانه أن الشح على المؤمنين بالخير من البر والمعروف من صفات المنافقين، وكفى بهذا ذما للشح، فقال: {قد يعلم الله المعوقين منكم، والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا، أشحة عليكم، فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم، كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم، و كان ذلك على الله يسيرا} [الأحزاب: 18- 19]. يقول أبو الحسن المارودي: قوله تعالى: { أشحة عليكم} فيه أربعة تأويلات: أحدهما: أشحة بالخير، قاله مجاهد. الثاني: بالقتال معكم، قال ابن كامل. الثالث: بالغنائم أصابوها، قاله السدي. الرابع: أشحة بالنفقة في سبيل الله، قاله قتادة. () ويقول أيضا: قوله تعالى: {أشحة على الخير}، فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: على قسمة الغنيمة، قاله يحيى بن سلام. الثاني: على المال ينفقونه في سبيل الله، قاله السدي. الثالث: على النبي صلى الله عليه وسلم بظفره. () وقال تعالى{ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} [آل عمران: 18]. وقال صلى الله عليه وسلم فوق ما ذكرنا من أحاديث في تعريف الشح: وكلها في ذمه: (مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت، أو وفرت على جلده حتى تخفى بنانه، وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها ولا تتسع. () يقول الإمام الخطابي رحمه الله: هذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم للجواد المنفق، والبخيل الممسك، وشبههما برجلين أراد كل واحد منهما أن يلبس درعا يستجن بها - يعني يستتر - فصبها على رأسه ليلبسها، والدرع أول ما يلبس إنما يقع على موضع الصدر، والثديين إلى أن يسلك لابسها يديه في كميها، ويرسل ذيلها على أسفل بدنه فيستمر سفلا، فجعل صلى الله عليه وسلم مثل المنفق مثل من لبس درعا سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وحصنته، وجعل البخيل كرجل كانت يداه مغلولتين إلى عنقه، ناتئتين دون صدره، فإذا أراد لبس الدرع حالت يداه بينهما، وبين أن تمر سفلا على البدن، واجتمعت في عنقه، فلزمت ترقوته، فكانت ثقلا ووبالا عليه من غير وقاية له، أو تحصين لبدنه. وحقيقة المعنى: أن الجواد إذا هم بالنفقة اتسع لذلك صدره، وطاوعته يداه فامتدتا بالعطاء والبذل، وأن البخيل يضيق صدره، وتنقبض يداه عن الإنفاق في المعروف والصدقة. وإلى هـذا المعنى أشير - والله أعلم - في قوله عز وجل:{وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة: 64]. () ثالثا: أسباب الشح وللشح أسباب توقع وبواعث تدعو إليه، وأهم هذه الأسباب، وتلك البواعث: 1 ـ الوسط الذي يعيش فيه المسلم. فقد يعيش المسلم في وسط معروف بالشح، ونعني بالوسط هنا القريب - وهو البيت - والبعيد وهو المجتمع - ولا تكون لدى هذا المسلم الحصانة الكافية، وحينئذ يتأثر بهذا الوسط، وتنتقل عدواه إليه، فيبخل بكل بر أو معروف: مالا أو غيره، في يده أو في يد غيره. ولهذا المعنى وغيره أكد الإسلام على ضرورة نظافة وطهارة واستقامة الوسط الذي يعيش فيه المسلم. وقد ذكرنا غير مرة، وفي أكثر من آفة بعض النصوص الداعية إلى ذلك سواء في البيت أو في المجتمع. 2 ـ حب الدنيا مع توهم الفقر. وقد يكون حب الدنيا ببريقها وزخارفها، وزينتها من الأسباب المؤدية إلى الشح، حيث يتوهم من ابتلاه الله بحب الدنيا أنه إن أعطى فسيخلو جيبه، وستضيع صحته وعافيته وسيريق ماء وجهه، وتذهب مكانته ومنزلته بين الناس، ويبدد أوقاته، ويعرض نفسه لما لا تحمد عقباه من الأذى بكل صنوفه وأشكاله المادية والمعنوية. وخير له أن يمسك بره ومعروفه عن الناس كي تدوم له دنياه، ناسيا أو متناسيا أن الله يخلف على عبده كما قال:{وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبأ: 39]، ولعل هذا من بين الأسباب التي من أجلها ذم الله عز وجل حب الدنيا، والمحبين لها، إذ يقول الله سبحانه: {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} [القيامة: 21 ـ 20]. يقول الماوردي: قوله {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} فيه وجهان: أحدهما: تحبون ثواب الدنيا، وتذرون ثواب الآخرة، قاله مقاتل، وثانيهما: تحبون عمل الدنيا، وتذرون عمل الآخرة. () ويقول سبحانه: {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا{ [الإنسان: 27]. ويقول سبحانه: {وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} [إبراهيم: 2 - 3]. {ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} [النحل: 106-107]. 3 ـ إهمال النفس من المجاهدة. وقد يكون إهمال النفس من المجاهدة من بين الأسباب التي توقع في الشح، ذلك أن المرء مجبول بفطرته على الشح، كما قال سبحانه: {إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد} [العاديات: 6 - 8]. فقد فسر العلماء الخير هنا بالمال، أو بالدنيا، إذ يقول الماوردي: قوله: {وإنه لحب الخير لشديد} يعني الإنسان، وفي الخير ها هنا وجهان: الأول: المال، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والثاني: الدنيا، قاله ابن زيد، ويحتمل ثالثا: أن الخير ها هنا: الاختيار، ويكون معناه، وإنه لحب اختياره لنفسه شديد. () وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل () وفي رواية: (يكبر ابن آدم، ويكبر معه اثنتان: حب المال، وطول العمر). () فقد قال الإمام النووي رحمه الله: هذا مجاز، واستعارة، ومعناه: أن قلب الشيخ كامل الحب للمال، متحكم في ذلك، كاحتكام قوة الشاب في شبابه، هذا صوابه، وقيل في تفسيره غير هذا مما يرتضي. () ونقل الحافظ ابن حجر عن بعض العلماء بيان الحكمة في التخصيص بهذين الأمرين، وخلاصته: أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه، فهو في بقائها، فأحب لذلك طول العمر، وأحب المال، لأنه من أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبا طول العمر، فكلما أحس بقرب نفاذ ذلك اشتد حبه له، و رغبته في دوامه. () أجل، إن المرء مجبول بفطرته على الشح - كما رأينا من هذه النصوص - وقد يستسلم هذا المرء إلى هذا الذي فطر عليه، ولا يسوس نفسه، ولا يجاهدها، وتكون العاقبة تمكن هذا الشح من نفسه بصورة يصعب معها العلاج. 4 ـ الاستعلاء و التكبر في الأرض بغير الحق. وقد يكون الاستعلاء والتكبر في الأرض بغير الحق من أسباب الوقوع في الشح، ذلك أن المستعلي، أو المتكبر في الأرض بغير الحق رسم لنفسه صورة معينة، و أحاطها بهالة خاصة، ويملي عليه هواه، وتوسوس له نفسه الأمارة بالسوء، ويغريه أقرانه من شياطين الجن والإنس، وتزين له الدنيا - أنه لا بد له كي يحتفظ بهذه الصورة التي رسمها لنفسه، وتلك الهالة التي أحاطها بها ألا يأتي ما فيه عون، وبر للآخرين، إذ هم المطالبون في خدمته وحاجته لا يكون هو في خدمتهم وحاجتهم، وحينئذ يقع في آفة الشح والعياذ بالله. 5 ـ عدم اليقين بما عند الله. وقد يكون عدم اليقين بما عند الله من ثواب الدنيا والآخرة هو الباعث على الشح. ذلك أن من لم يصدق تصديقا لا يقبل الشك بحال أن الله يخلف على العبد أكثر مما يعطي هذا العبد، بل هو المانح ابتداء من غير حول من الخلق، ولا قوة ولا طول. من لم يصدق بذلك يبخل بل يشح. وقد لفت رب العزة النظر إلى هذا السبب حين قال: {وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل: 8 - 10]. يقول الماوردي: وفي قوله: {وأما من بخل} وجهان: أحدهما: بخل بماله الذي لا يبقى، قاله ابن عباس والحسن، والثاني: بخل بحق الله تعالى، قاله قتادة، {واستغنى} فيه وجهان: أحدهما: بماله، قاله الحسن، والثاني عن ربه، قاله ابن عباس: {وكذب بالحسنى} فيه التأويلات السبعة - التي ذكرها في قوله: {وصدق بالحسنى}وهي: أحدها: كذب بتوحيد الله وهو قول: لا إله إلا الله، قاله الضحاك، الثاني: بموعود الله، قاله قتادة، الثالث: بالجنة، قاله مجاهد، الرابع: بالثواب، قاله خصيف، الخامس: بالصلاة، والزكاة، والصوم، قاله زيد بن أسلم، السادس: بما أنعم الله عليه، قاله عطاء، السابع: بالخلف عن عطائه، قاله الحسن، ومعاني أكثرها متقاربة. () 6 ـ الحقد. وقد يكون الحقد من بين الأسباب التي توقع في الشح. ذلك أن المرء إذا كان حاقدا على غيره فإنه سيسعى جاهدا ألا ينفعه بنافعة من نفس، أو مال، أو هما معا، وهذا أمر بديهي ألمح إليه رب العزة، وهو يتحدث عن موقف الأنصار من المهاجرين فقال: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]. فقد بين سبحانه في هذه الآية أن الذي حمل هؤلاء الأنصار على التضحية التي وصلت إلى حد الإيثار، إنما هو الإيمان التابع من سلامة الصدر من الأحقاد والذي أثمر المحبة والمودة والموالاة. يقول الماوردي: قوله: {يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} فيه وجهان: أحدهما: غيرة وحسدا على ما قدموا به من تفضيل وتقريب، وهو محتمل، والثاني: يعني حسدا على ما خصوا به من مال الفيء، وغيره، فلا يحسدونهم عليه، قاله الحسن. () 7 ـ الغفلة عن العواقب المترتبة عن الشح. وأخيرا قد تكون الغفلة عن العواقب والآثار المترتبة على الشح: دينية أو دنيوية، على العملين، أو على العمل الإسلامي هي السبب في الوقوع في الشح، فإن من جهل عاقبة الشيء الضارة، وأثره المهلك، تردى في هذا الشيء وهو لا يدري. رابعا: آثار الشح. وللشح آثار ضارة، وعواقب مهلكة، على العاملين والعمل الإسلامي، ودونك طرفا من هذه الآثار، وتلك العواقب: أ- على العاملين. فمن آثار الشح على العاملين: 1 - حمل النفس على الوقوع في كل إثم و رذيلة. وخلاصة وفحوى هذا الأثر: أن من ابتلاه الله بداء الشح فبخل بكل بر ومعروف في يده أو في يد غيره، لا بد له من عمل يشغل به نفسه، وهذا العمل لا يخرج أن يكون توظيفا للنفس في الإتيان بكل إثم ورذيلة، من منطلق [أن نفسك التي بين جنبيك، إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل]. ولقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآثام والرذائل التي يثمرها البخل حين قال في الحديث الذي تقدم في تعريف الشح: (.. واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم). () وفي رواية: إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا. () وقد فهم ذلك الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، إذ قدمنا عن أبي الهياج الأسدي قوله: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: إني إذا وقيت شح نفسي: لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل شيئا، وإذا الرجل: عبد الرحمن بن عوف. () 2 - القلق والاضطراب النفسي. والأثر الثاني الذي يتركه الشح على العاملين: إنما هو القلق والاضطراب النفسي، وذلك أن الشحيح صار غارقا في الآثام والرذائل: صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها كما قدمنا، ومثل هذا الصنف من الناس يعاقبه الله بأشد العقاب في الدنيا، وهو القلق والاضطراب النفسي، مصداقا لقوله سبحانه: {ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذابا صعدا} [الجن: 17]،{ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} [طه: 124]. 3 - العذاب الشديد في الآخرة. ولا يقف أثر الشح على العاملين عند حد العقاب في الدنيا بالقلق والاضطراب النفسي، بل يتعداه إلى عقاب الآخرة، وهو العذاب الشديد في نار جهنم، وهذا الأثر الثالث. قال تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} [النساء: 14]، {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} [الجن: 23]. ب- على العمل الإسلامي. وأما آثار الشح على العمل الإسلامي فكثيرة أيضا، وأهمها: 1 ـ الفرقة والتمزق. ذلك أن عمل كل المنتمين إليه، والقائمين به أو أكثرهم معروف بالشح، لا يمكن أن يجمع الله هؤلاء على قلب رجل واحد أبدا بحيث يصيرون الروح الواحد، والفكر الواحد، والمشاعر الواحدة ويصدرون عن رأي واحد، وإن تعددت منهم الأجساد، بل على العكس يمزقهم الله شر ممزق، جزاء وفاقا. 2 - طول الطريق وكثرة التكاليف. وإذا ابتلي العمل الإسلامي بالفرقة والقطيعة بين أهله، ومزقوا شر ممزق، كانت النتيجة: تمكن العدو، وإحكامه القبضة على أعناقنا وتضييق الخناق علينا، فتطول الطريق، وتكثر التكاليف، على النحو الذي نشهده، ونعيشه نحن المسلمين اليوم. خامسا: علاج الشح. وما دمنا قد وقفنا على ماهية الشح، ومظاهره، وأسبابه وآثاره على العاملين، وعلى العمل الإسلامي فقد أصبح من السهل علينا وصف الدواء، بل الوقاية من هذا الداء، وإليك السبيل: 1 - النظر في العواقب والآثار المترتبة على الشح في الدنيا والدين، فإن مثل هذا النظر مما يخوف النفوس، ويحركها من داخلها، الأمر الذي ييسر عليها سبيل الإقلاع، والتخلص من هذا الداء. 2 - اليقين التام بما عند الله من الأجر والمثوبة، والنعيم المقيم {وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون} [القصص: 60]، {وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}[الشورى: 36]، {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل: 96]، {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39]. 3 - العيش الطويل مع كتاب الله عز وجل للوقوف على خبر وعاقبة أهل الشح والبخل، وكذلك خبر وثواب أهل العطاء والجود، الأمر الذي ييسر علينا سبيل التخلص من أخلاق الأشحاء، ويحملنا على التحلي بأخلاق الأجواد ممن وصفنا. 3 - دوام النظر في سنة وسيرة وهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع النعمة التي أنعم الله بها عليه من مال أو غيره، وكيف كان من أحرص الخلق على إنفاق هذه النعمة، وتوظيفها في مرضاة الله عز وجل توظيفا كاملا دون شح أو بخل: إذ يقول ابن عباس رضي الله عنهما في صفته صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. () قال الحافظ ابن حجر: قوله: فيدارسه القرآن، قيل الحكمة فيه: أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة. () ولقد ذكر ابن القيم في كتابه مدارج السالكين مراتب عشرة للجود: مثل الجود بالنفس، والجود بالجاه، والجود بالراحة والرفاهية، والجود بالعلم، والجود بالبدن، والجود بالبشر وبسط الوجه، والجود بالصبر، والجود بالعفو والصفح، والجود بكف الأذى، والجود بالمال والتعفف عما في أيدي الناس، () وما من شك في أنه صلى الله عليه وسلم كان مصدر هذه المراتب تلقاها عن ربه وحيا، ثم حولها إلى واقع عملي في دنيا الناس، أجل إنه لا بد من دوام النظر في سنة وسيرة وهدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من الجود بنعمة الله عليه، وبذلها فيما فيه مرضاته ونفع عباده على النحو الذي بينا، فلعل ذلك يحرك نفوس الأشحاء ويحملهم على التخلص من الشح، ثم التحلي بالجود اقتداء وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم. 5 - مطالعة أخبار الأجواد من البشر، ولا سيما أبناء أمتنا المسلمة على نحو ما أثر عن قيس بن سعد بن عبادة، و كان من الأجواد المعروفين: أنه مرض مرة، فاستبطأ إخوانه في العيادة فسأل عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه، لكثرة من عاده. وقالوا له يوما: هل رأيت أسخى منك؟ قال: نعم، نزلنا بالبادية على امرأة، فحضر زوجها، فقالت: إنه نزل بك ضيفان، فجاء بناقة فننحرها، وقال: شأنكم؟ فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها، فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير، فقال: إني لا أطعم ضيفاني البائت، فبقينا عنده يومين أو ثلاثة والسماء تمطر، وهو يفعل ذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته، وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه، ومضينا، فلما طلع النهار إذ نحن برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام، أعطيتموني ثمن قرأي؟ ثم إنه لحقنا، وقال لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي، فأخذناه وانصرف. () وعلى نحو ما حفظ عن مفتي الديار المصرية الأسبق المرحوم الشيخ محمد حسنين مخلوف، إذ أوى في داره واحدا من أبناء الحركة الإسلامية الفارين من جحيم زعماء ثورة يوليو المصرية المباركة لعشر سنين، وهو يعلم تمام العلم أنه لو كشف أمره، فإن رقبته هي ثمن هذا الإيواء، ولكن جوده هو الذي حمله على ذلك مستعينا بالله. نعم إن مطالعة أخبار هذا الصنف من البشر له دور كبير في تحريك الأشحاء من داخلهم، علهم يتوبون أو يذكرون. 6 ـ الانسلاخ من الوسط المعروف بالشح والارتماء في الأوساط المعروفة بالجود والسخاء، فإن مثل ذلك يحمل الشحيح على الاقتداء والتأسي، أو على الأقل المحاكاة والتشبه. 7 ـ التخلص من داء الاستعلاء والتكبر في الأرض بغير الحق، وعلى نحو ما رسمنا في الجزء الأول من هذه الآفات، فإن من تحرر من الاستعلاء، والتكبر في الأرض بغير الحق يسهل عليه أن يتحرر بعد ذلك من الشح على اعتبار أنه ثمرة من ثماره المرة. 8 - تطهير الصدر من الأحقاد، فإن الصدر إذا طهر من الأحقاد سهل على صاحبه أن يتحرر من الشح، وربما تجاوز ذلك إلى المواساة بل الإيثار، على نحو ما جاء في كتاب الله عن الأنصار {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9]. 9 - مجاهدة النفس، وأخذها بالعزيمة، وحملها حملا على ترك الشح وأن تتحلى بالمواساة بل بالإيثار، ويحسن أن يأخذها صاحبها بالتدريج مع الترغيب تارة، والترهيب أخرى، ويصبر على ذلك زمانا، فإن هذه المجاهدة إن كانت صادقة توصل بسرعة إلى المراد، وصدق الله الذي يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} [العنكبوت: 69]. 10 - كثرة الدعاء والضراعة إلى الله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، فإن هذا الدعاء وهذه الضراعة إن كانا صادقين أجاب الله، وأعان على النفس، ورزق التخلص من هذا الداء، وكيف لا يكون الأمر كذلك، والله سبحانه يقول: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60]. 11 - النظر إلى النعم التي أفاض الله علينا على أنها ليست ملكا لنا حتى نمنعها عن عباده، وإنما هي ملك لله، ونحن أمناء أو خزنة فقط على هذه النعم، ومن واجب الأمين أو الخازن أن يتصدق وفق مراد صاحب النعمة، وقد دعا صاحب النعمة إلى إنفاقها على عباده، و في مرضاته، مع الوعد الحق بأنه سيخلف أضعافا مضاعفة، إذ يقول سبحانه:{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } [الحديد: 7]، {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}[سبأ: 39]. 12 - محاسبة النفس أولا بأول، فإن المحاسبة لها دور كبير في التخلص من هذا الداء، ولا سيما إذا كان مع المحاسبة تأديب للنفس، واستئصال لدائها عن طريق العقاب. 13 - التذكير الدائم بكل ما يتصل بهذه الآفة على النحو الذي ذكرنا، كما قال سبحانه وتعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات: 55]} فذكر إن نفعت الذكرى} [الأعلى: 9]. 14 - فتح مجالات أو ميادين يمارس فيها الأشحاء صنوف البر والمعروف، ويهون عليهم أن يوظفوا ما لديهم من طاقات وإمكانات. 15 - تشجيع هذا الصنف من الناس حين يأتي برا ومعروفا بالثناء والمدح، فإن المرء كثيرا ما ينجح مع نفسه بالثناء والمدح على نحو ما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: في مسألة غير الشح، إذ يقول: كنت غلاما شابا عزبا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أبيت في المسجد، وكان من رأى مناما قصه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اللهم إن كان لي عندك خير، فأرنا مناما يعبره لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنمت، فرأيت ملكين أتياني، فانطلقا بي، فلقيهما ملك آخر، فقال لي: لن تراع، إنك رجل صالح، فانطلقا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفت بعضهم، فأخذا بي ذات اليمين، فلما أصبحت ذكرت ذلك لحفصة، فزعمت حفصة أنها قصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل). () فقد أثر هذا الثناء في ابن عمر، قال الزهري: وكان عبد الله بعد ذلك يكثر الصلاة من الليل. 16 - الوقوف على عواقب الأشحاء والبخلاء كأصحاب الجنة المذكورين في سورة القلم، ويمكن الاعتماد على كتاب البخلاء للجاحظ في تغطية هذا الجانب، فإن مثل ذلك مما يحمل العقلاء غالبا على تجنب ما يؤدي إلى هذه العواقب، أعني: الشح، وما ذلك على الله بعزيز.
مختارات