الآفة الثانية - الإسراف
والآفة الثانية التي تصيب العالمين ولابد أن يتخلصوا منها وأن يتحصنوا ضدها إنما هي الإسراف ولكي يكون حديثنا عن إسراف العاملين واضحاً محدد المعلم سنجعله يدور على النحو التالي: أولاً: معنى الإسراف لغة: الإسراف في اللغة يطلق ويرد به: (أ) ما نفق من غير طاعة. (ب) أو التبذير ومجاوزة الحد. اصطلاحا: أما في اصطلاح الدعاة فيراد به مجاوزة حد الاعتدال في الطعام والشراب واللباس والسكنى ونحو ذلك من الغرائز الكامنة في النفس البشرية. ثانياً أسباب الإسراف: وللإسراف أسباب وبواعث توقع فيه وتؤدى إليه ونذكر منه: (1) النشأة الأولي: فقد يكون السبب في الإسراف إنما هي النشأة الأولي أي الحياة الأولي ذلك أن المسلم قد ينشأ في أسرة حالها الإسراف والبذخ فما يكون منه سوى الإقتداء والتأسي إلا من رحم الله على حد قول القائل: وينشئ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه ولعلنا بهذا ندرك شيئا من أسرار دعوة الإسلام وتأكيده على ضرورة إنصاف الزوجين والتزامهم بشرع الله وهديه: { وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم....} { ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه،......} (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك). (2) السعة بعد الضيق: وقد يكون الإسراف سببه السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر ذلك أن كثيرا من الناس قد يعيشون في ضيق أو حرمان أو شدة أو عسر وهم صابرون محتسبون بل وماضون في طريقهم إلى ربهم وقد يحدث أن تتغير الموازين وأن تتبدل الأحوال فتكون السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر وحينئذ يصعب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال فينقلب على النقيض تماما فيكون الإسراف أو التبذير. ولعلنا بهذا ندرك بعض الأسرار التي من أجلها حذر الشارع الحكيم من الدنيا وأوصى بأن يكون النيل منها بقدر. يقول النبي صلى الله عليه وسلم فأبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها تهلككم كما أهلكتم). (إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء). (3) صحبة المسرفين: وقد يكون في الإسراف إنما هي صحبة المسرفين ومخالطتهم ذلك أن الإنسان غالبا ما يتخلق بأخلاق صاحبه وخليله لاسيما إذ طالت هذه الصحبة وكان هذا الصاحب قوى الشخصية شديد التأثير. ولعلنا بذلك ندرك السر في تأكيد الإسلام وتشديده على ضرورة انتقاء الصحاب أو الخليل ولقد مرت بنا بعض النصوص الدالة على ذلك أثناء الكلام عن أسباب الفتور. (4) الغفلة عن زاد الطريق: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن زاد الطريق ذلك أن الطريق الموصلة إلى رضوان الله والجنة ليست طريقاً مفروشة بالحرير والورود والرياحين بل بالأشواك والدموع والعرق والدماء والجماجم وولوج هذه الطريق لا يكون بالترف والنعومة والاسترخاء وإنما بالرجولة والشدة ذلك هو زاد الطريق والغفلة عن هذا الزاد توقع المسلم العامل في الإسراف. ولعلنا بذلك ندرك سر حديث القرآن المتكرر المتنوع عن طبيعة الطريق: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }. { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين }.......إلى غير ذلك من الآيات. (5) الزوجة والولد: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الزوجة والولد. إذ قد يبتلى المسلم بزوج وولد دأبهم وديدنهم الإسراف وقد لا يكون حازما معهم فيؤثرون عليه وبمرور الأيام وطول المعاشرة ينقلب مسرفا مع المسرفين. ولعلنا بذلك نفهم بعض الأسرار التي قصد إليها الإسلام حين أكد ضرورة انتقاء واختيار الزوجة وقد قدمت بعض النصوص الدالة على ذلك قريبا أثناء الحديث عن السبب الأول وحين أكد على ضرورة الاهتمام بتربية الولد والزوجة. { يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } (ألا كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤل عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤل عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤلة عن عنهم......الحديث). (6) الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا وما ينبغي أن تكون ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا أنها لا تثبت ولا تستقر على حال واحد بل هي متقلبة تكون لك اليوم وعليك غدا وصدق الله العظيم:{ وتلك الأيام نداولها بين الناس }. والواجب يقتضي أن نكون منها على وجل وحذر: نضع النعمة في موضعها وندخر ما يفيض عن حاجتنا الضرورية اليوم من مال وصحة ووقت إلى الغد أو بعبارة أخرى: ندخر من يوم إقبالها ليوم إدبارها. تلك طبيعة الحياة الدنيا وهذا ما ينبغي أن تكون والغفلة عن ذلك قد توقع في الإسراف. (7) التهاون مع النفس: وقد يكوون السبب في الإسراف التهاون مع النفس ذلك أن النفس البشرية تنقاد وتخضع ويسلس قيادها بالشدة والحزم وتتمرد وتتطلع إلى الشهوات وتلح في الانغماس فيها بالتهاون واللين وعليه فإن المسلم العامل إذا تهاون مع نفسه ولبى كل مطالبها أوقعته لا محالة في الإسراف. ولعلنا بذلك نفهم السر في تأكيد الإسلام على ضرورة المجاهدة للنفس أولا وقبل كل شئ: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }. { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها }. { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }. (8) الغفلة عن شدائد وأهوال يوم القيامة: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن الشدائد وأهوال يوم القيامة ذلك أن يوم القيامة يوم فيه من الشدائد والأهوال ما ينعقد اللسان وتعجز الكلمات عن الوصف والتصوير وحسبنا ما جاء في كتاب الله عز وجل ـ وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا اليوم. ومن ظل متذكرا ذلك متدبرا فيه قضى حياته غير ناعم بشيء في هذه الحياة الدنيا أما من غفل عن ذلك فإنه يصاب بالإسراف والترف بل ربما ما هو أبعد من ذلك. ولعلنا بهذا ندرك شيئا من أسرار دوام خشيته صلى الله وعيه وسلم لربه وقلة تنعمه ونيله من الحياة الدنيا، يقول صلى الله عليه ويسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). وفي رواية أخرى: (وما تلذذتم بالنساء على الفراش). (9) نسيان الذي تحياه البشرية عموما والمسلمون على وجه الخصوص: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هو نسيان الواقع الذي تحياه البشرية عموما والمسلمون على وجه الخصوص: ذلك أن البشرية اليوم تقف على حافة الهاوية ويوشك أن تتزلزل الأرض من تحتها فتسقط أو تقع في تلك الهاوية وحينئذ يكون الهلاك أو الدمار أما المسلمون فقد صاروا إلى حال من الذل والهوان يرثى لها ويتحسر عليها ومن بقى مستحضرا هذا الواقع وكان متبلد الحس ميت العاطفة فإنه يمكن أن يصاب بالترف والإسراف والركون إلى زهرة الدنيا وزينتها. ولعلنا بذلك ندرك شيئا من أسرار حزنه واهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر البشرية قبل البعثة وبعدها حتى عاتبه ربه ونهاه عن ذلك: { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا }. { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين }. { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }. (10) الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي الغفلة عن الآثار المترتبة على الإسراف ذلك أن للإسراف آثاراً ضارة وعواقب مهلكة على نحو الذي سنعرض له بعد قليل. ولقد عرف من طبيعة الإنسان:أنه غالبا ما يفعل الشيء أو يتركه إذا كان على ذكر من آثاره وعواقبه أما إذا غفل عن هذه الآثار فإن سلوكه يختل وأفعاله تضطرب فيقع أو يسقط فيما لا ينبغي ويهمل أو يترك ما ينبغي. وعليه فإن المسلم العالم إذا غفل عن الآثار المترتبة على الإسراف يكون عرضة للوقوع في الإسراف. ولعلنا بذلك نفهم السر في اهتمام الإسلام بذكر الحكم والمقاصد المنوطة بكثير من الأحكام والتشريعات. ثالثاً: آثار الإسراف: هذا وللإسراف آثار ضارة وعواقب مهلكة سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي وإليك طرفا من هذه الآثار: على العاملين: فمن آثاره على العاملين: (1) علة البدن: أي أن الأثر الذي يتركه الإسراف: إنما يكمن في علة البدن ذلك أن هذا البدن محكوم بطائفة من السنن والقوانين الإلهية بحيث إذا تجاوزها الإنسان بالزيادة أو بالنقص تطرقت إليه العلة وحين تتطرق إليه العلة فإنه يقعد بالمسلم عن القيام بالواجبات والمسؤليات الملقاة على عاتقه أو المنوطة به (2) قسوة القلب: والأثر الثاني الذي يترتب على الإسراف: إنما هو قسوة القلب ذلك أن هذا القلب يرق ويلين بالجوع أو بقلة الغذاء ويقسو ويجمد بالشبع أو بكثرة الغذاء سنة الله { ولن تجد لسنة الله تحويلا }وحين يقسو القلب أو يجمد فإن صاحبه ينقطع عن البر والطاعات، والويل كل الويل لمن كانت هذه حالة { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } وحتى لو جاهد المسلم نفسه وقام بالبر والطاعات فإنه لا يجد لها لذة ولا حلاوة بل لا يجنى من ورائها سوى النصب والتعب (... ورب قائم حظه من قيامه السهر) (3) خمول الفكر: والأثر الثالث الذي يترتب على الإسراف إنما هو خمول الفكر ذلك أن نشاط الفكر وخموله مرتبط بعدة عوامل، البطنة أحدها، فإذا خلت البطنة نشط الفكر، وإذا امتلأت اعتراه الخمول حتى قالوا قديما: (إذا امتلأت البطنة نامت الفطنة) ويوم أن يصاب الفكر بالخمول يوم أن يحرم المسلم الفقه والحكمة وحينئذ يفقد أخص الخصائص التي تميزه عن باقي المخلوقات. (4) تحريك دواعي الشر والإثم: والأثر الرابع الذي يخلقه الإسراف إنما هو تحريك دواعي الشر والإثم ذلك أن الإسراف يولد في النفس طاقة ضخمة ووجود هذه الطاقة من شأنه أن يحرك الغرائز الساكنة أو الكامنة في هذه النفس وحينئذ لا يؤمن على المسلم العامل الوقوع في الإثم والمعصية إلا من رحم الله ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على الصوم لمن لم يكن قادرا على مؤن النكاح إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) (5) الانهيار في ساعات المحن والشدائد: والأثر الخامس الذي يتركه الإسراف إنما هو الانهيار في ساعات المحن والشدائد ذلك أن المسرف قضى حياته في الاسترخاء والترف فلم يألف المحن والشدائد ومثل هذا إذا وقع في شدة أو محنة لا يلقى من الله أدنى عون أو تأييد فيضعف وينهار لأن الله عز وجل لا يعين ولا يؤيد إلا من جاهد نفسه وكان صادقا مخلصا في هذه المجاهدة { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم }. (6) عدم الرعاية أو الاهتمام بالآخرين: والأثر السادس الذي يتركه الإسراف إنما هو عدم الرعاية أو الاهتمام بالآخرين ذلك أن الإنسان لا يرعى الآخرين ولا يهتم غالبا إلا إذا أضناه التعب وعصبته الحاجة كما أثر عن يوسف عليه السلام: أنه لما صار على خزائن الأرض ما كان يشبع أبدا فلما سئل عن ذلك قال: أخاف أن شبعت أن أنسى الجياع. والمسرف مغمور بالنعمة من كلا جانب فأنى له أن يفكر أو يهتم بالآخرين. (7) المساءلة غدا بين يدي الله: والأثر السابع المترتب على الإسراف إنما هي المساءلة غدا بين يدي الله كما قال سبحانه { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }. ومجرد الوقوف بين يدي الله للمساءلة والمناقشة عذاب كما قال صلى الله عليه وسلم: (... من نوقش الحساب يوم القيامة عذب). (8) الوقوع تحت وطأة الكسب الحرام: والأثر الثامن الذي يتركه الإسراف إنما هو الوقوف تحت وطأة الكسب الحرام ذلك أن المسرف قد تضيق به أو تنتهي موارده فيضطر تلبية وحفاظا على حياة الترف والنعيم التي ألفها إلى الواقع والعياذ الله في الكسب الحرام وقد جاء في الحديث: (كل جسد نبت من سحت أي من حرام فالنار أولى به). (9) أخوة الشياطين: والأثر التاسع يتركه الإسراف هي أخوة الشياطين كما قال سبحانه وتعالى:{ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا }. وأخوة الشياطين تعنى الصيرورة والانضمام إلى حزبهم وإن ذلك لهو الخسران المبين والضلال البعيد { ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون }. (10) الحرمان من محبة الله: والأثر العاشر الذي يتركه الإسراف إنما هو الحرمان من محبة الله كما قال سبحانه:{.........إنه لا يحب المسرفين }. على العمل الإسلامي: وأما آثاره على العمل الإسلامي فتنحصر في: سهولة القضاء عليه أـو على الأقل تأخيره إلى الوراء عشرات السنين نظرا لأن السلاح الوحيد الذي يواجه به المسلمون أعداء الله ألا وهو الإيمان إنما يتأثر أشد ما يكون التأثير بالإسراف والترف والراحة والنعيم. تلك هي آثار الإسراف على العاملين وعلى العمل الإسلامي وقد مرت بنا أثناء الحديث عن أسباب الفتور عدة نصوص من كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف تتضمن إجمالا لكل هذه الآثار. رابعاً: الطريق لعلاج الإسراف: ومادامت هذه آثار وعواقب الإسراف وتلك أسبابه وبواعثه فإن طريق العلاج تتخلص في: (1) التفكر في الآثار والعواقب المترتبة على الإسراف فإن ذلك من شأنه أن يحمل على تدارك الأمر والتخلص من الإسراف قبل فوات الأوان. (2) الحزم مع النفس وذلك بفطمها عن شهواتها ومطالبها وحملها على الأخذ بكل شاق وصعب من قيام ليل إلى صوم تطوع إلى صدقة إلى مشى على الأقدام إلى حمل الأثقال....ونحو ذلك. (3) دوام النظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته فإنها مليئة بالتحذير من الإسراف بل ومجاهدة النفس والأهل والعيش على الخشونة والتقشف إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (والمؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبع أمعاء) وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضافه ضيف وهو كافر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى فشربه ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب سبع شياه ثم أنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فشرب حلابها ثم أمر بأخرى فلم يستتمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والمؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبع أمعاء). ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه). وإذ تحكى أم عائشة رضى الله تعالى عنها لعروة بن الزبير بن أختها فتقول (إن كنا لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فيقول لها عروة، ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر و الماء، إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقيناه). وإذ تقول أيضاً: (كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف) (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض) بل كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزق آل محمد قوتاً) وأن المسلم العامل لدين الله حين يقف على ذلك، وعلى غيره تتحرك مشاعره،وتتأجج عواطفه فيترسم خطاه صلى الله عليه وسلم ويسير على هديه اقتداء وتأسياً وطمعاً في معيته في الجنة: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ذلك الفضل من الله وكفي بالله عليماً }. 4- دوام النظر في سيرة سلف هذه الأمة، من الصحابة المجاهدين و العلماء العاملين فقد اقتدى هؤلاء به صلى الله عليه وسلم فكان عيشهم كفافاً، ولا هم لهم من الدنيا إلا أنها معبر أو قنطرة توصل للآخرة. دخل عمر بن الخطاب على ابنه عبد الله - رضى الله تعالى عنهما - فرأي عنده لحماً، فقال: ما هذا اللحم؟ قال: أشتهيه قال: وكلما اشتهيت شيئاً أكلته؟ كفي بالمرء سرفاً أن يأكل كل ما اشتهاه) وأتى سلمان الفارسي أبا بكر الصديق - رضى الله تعالى عنهما - في مرضه الذي مات فيه فقال: أوصيني يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو يكر: (إن الله فاتح عليكم الدنيا فلا يأخذن منها أحد إلا بلاغاً) وكتب سعد بن أبى وقاص إلى عمر بن الخطاب - رضى الله عنهما - وهو على الكوفة يستأذنه في بناء بيت يسكنه فوقع في كتابه: (ابن ما يسترك من الشمس ويكنك من الغيث، فإن الدنيا دار بلغة) وحكى ميمون أن رجلاً من بنى عبد الله بن عمر - رضى الله تعالى عنهما - استكساه إزاراً قائلاً: قد تخرق إزاري، فقال له عبد الله: (اقطع إزارك ثم اكتسه) فكره الفتى ذلك فقال له:0 ويحك اتق الله ولا تكونن من القوم الذين يجعلون ما رزقهم الله تعالى في بطونهم وعلى ظهورهم)...... إلى غير ذلك من الأخبار المودعة في بطون الكتب المنثورة هنا وهناك. وأن المسلم العامل حين يقف على هذه الأخبار يتحرك من داخله فيتولد عنه حب السير على نفس المنهج فتراه يطرح الترف و السرف ويعيش على الخشونة و التقشف ليكون ناجياً مع الناجين. 5- الانقطاع عن صحبة المسرفين، مع الارتماء في أحضان ذوى الهمم العالية و النفوس الكبيرة، الذين طرحوا الدنيا وراء ظهورهم، وكرسوا كل حياتهم من أجل اسئناف حياة إسلامية كريمة، تصان فيها الدماء والأموال والأعراض، ويقام فيها حكم الله عز وجل في الأرض، غير مبالين بما أصابهم ويصيبهم في ذات الله، فإن ذلك من شأنه أن يقضى على كل مظاهر السرف والدعة و الراحة، بل ويجنبنا الوقوع فيها مرة أخرى، لنكون ضمن قافلة المجاهدين وفي موكب السائرين. 6- الاهتمام ببناء شخصية الزوجة و الولد فإن ذلك من شأنه أن يقضى على كل مظاهر الترف، وأن يحول دون التورط فيها مرة أخرى، بل ويعين على سلوك طريق الجادة حين تنقضي هذه الحياة بأشواكها وآلامها ونرد إلى ربنا فنلقى حظنا هناك من الراحة و النعيم المقيم. 7- دوام التفكر في الواقع الذي تحياه البشرية عموماً و المسلمون على وجه الخصوص، فإن ذلك يساعد على التخلص من كل مظاهر الإسراف بل ويحول دون التلذذ أو التنعم بشيء من هذه الحياة، حتى يمكن لمنهج الله وترفع الراية الإسلامية من جديد. 8- دوام التفكر في الموت، وما بعده من شدائد وأهوال، فإن ذلك أيضاً يعين على نبذ كل مظاهر الإسراف و الترف، ويحول دون الوقوع فيها مرة أخرى استعداداً لساعة الرحيل ويوم اللقاء. 9- تذكر طبيعة الطريق، وما فيها من متاعب وآلام، وأن زادها ما يكون بالإسراف والاسترخاء و الترف بل بالخشونة و الحزم و التقشف، فإن ذلك له دور كبير في علاج الإسراف ومجاهدة النفس و القدرة على اجتياز وتخطى المعوقات و العقبات.
مختارات