غرق فرعون 2
من بعيد كان المشهد مختلفا: الزمان: قبل قليل من الأحداث السابقة المكان: على بعد مئات الأمتار منها إنه ركب الطاغوت و جيش الظالم مدعي الألوهية و الجبروت، مائة ألف فارس على مائة ألف أدهم بخلاف العبيد و الخدم، إنه ركب فرعون... ابتسامة عريضة تعلو شفتيه الغليظتين و قد بدا له مبتغاه من بين سحائب الغبار التى تثيرها سنابك خيله و رجله، ها هو الجمع يظهر من بعيد على ضفاف بحر بلاده، ليس لهم من ملجأ منى الآن؛ هكذا قال لنفسه، الآن حان وقت الخلاص من أولئك المتمردين الذين يشككون فى ربوبيته، و يزعزعون ركائز أسطورته، آن الأوان ليكونوا عبرة لمن يأتى خلفهم و تسول له نفسه أن يحذو حذوهم، ازدادت ابتسامته اتساعا و هذه الأفكار تتردد فى ذهنه متذكرا أحداث الساعات و الأيام السابقة، نشوة رهيبة تملأ صدره العريض حين استرجع قدرته على تشويه موسى و من معه ببعض كلمات استخف بها قومه فأطاعوه، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، هكذا حقرهم و سفه من شأنهم أمام قومه، ثم جاء وقت التحريض، إنه حريص أن يبدو فى مظهر المشاور الذى لا يأخذ قرارا بمفرده، تنهد و كادت تفلت منه ضحكة ساخرة حين تذكر كيف حرك قومه كقطيع من الماشية بقوله؛ و إنهم لنا لغائظون، و إنا لجميع حاذرون، لقد تحدث بلسانهم و سيطر على أفكارهم و ما أراهم إلا ما رأى، يا ليتها حتى كانت خطبة عصماء طويلة، إنها بضع كلمات خدع بها شعبا من المستخفين استحقوا أن يكونوا بذلك من الفاسقين، و ها هو قد دنا من بغيته و اقتفى أثر عدوه و اقتربت المواجهة التى اشتاق إليها منذ أعوام أذله فيها موسى مرة تلو أخرى.. نعم أذله! حتى ولو لم يعترف بذلك أمام أحد، لكنه كان يوقن بذلك فى قرارة نفسه، لقد هزمه فى كل تحدٍ، علا عليه فى كل مفاصلة، و هل ينسى يوم النيروز؛ يوم الزينة حين ألقى سحرته ساجدين و آمنوا برب موسى و هارون، يا له من يوم محرج و وصمة عار فى تاريخه، صحيح أنه أطاح بأولئك السحرة المتمردين المتآمرين ونكل بهم على رؤوس الأشهاد ومزق سيرهم قبل أن يمزق أبدانهم = إلا أن المرارة لم تفارق حلقه قط! مرارة الهزيمة و فزع المشهد حين رأى عصا موسى تلقف أفاعى أتباعه، و المرارة الأكبر حين اضطر أن يبعث لموسى يرجوه أن يدعو ربه ليكشف الرجز و المجاعة و الآفات التى حلت بقومه، اختفت الابتسامة و تلاشت النشوي، حين بلغت الذكريات هذا المبلغ، لقد اجترأ موسى على تحديه فى كل موضع، و قلَّب عليه أقرب الناس إليه، حتى وصل الأمر إلي امرأته التى آمنت بموسى، وإلي صاحبه و قريبه الرجل المؤمن الذى وقف هو الآخر يتحداه على الملأ، لكن لا بأس، ها قد حانت لحظة الانتقام، سيذكر التاريخ طويلا هذا اليوم و سيجعل عاشوراء عيدا يحتفل به المصريون و يتذكرون كيف نكل إلاههم وربهم الأعلى بهؤلاء المتمردين الذين يبدون قليلى الحيلة من بعيد، لكن.. ما هذا؛ ما هذا الذى يحدث للبحر؛ ما هذا الصوت الهادر الذى يصم الآذان؟! تسمر الجيش فى مكانه، و جفلت الخيل، و كادت أن تسقط براكبيها لهول المشهد، إنه الموج يتعالي، ما يحدث وتراه العين شيء مستحيل؛ لقد صار الموج يصافح السحاب و كأنه طود شاهق! هلموا أيها الرعاع، تحركوا، أدركوهم، لا يمكن أن يفلتوا هذه المرة، أسرعوا فلقد كادوا يغيبون عن البصر و تطويهم ظلال جبلى الماء، هيا اقتحموا، ما لكم تترددون؟ إن كان موسى قد عبر فما يمنعنا من العبور خلفه؟! إنها مجرد ظاهرة طبيعية لعلنا فقط لم نسمع بها من قبل، هيا أيها الجبناء، ها أنا أتقدمكم و لا يرهبنى هدير الماء و لا ظلال الحيتان، تقدم الجند على مضض حين رأوا قائدهم الأحمق يقتحم تلك المخاضة المرعبة، تقدموا يهمهمون باعتراض مكتوم، لم تمكنهم نفوسهم المستخفة الفاسقة من البوح به، رغم أنهم يشعرون بقدر الحماقة التى هم مقبلون عليها، إنهم يعلمون جيدا أن هذه معجزة جديدة من معجزات موسى فكيف يأمنون ألا تسلط عليهم؟ يا لكبر قائدنا و غروره! هلموا أيها الجبناء، رددت جبال الموج صيحة قائدهم يستحث خطاهم للحاق به فى قعر البحر المشقوق، بدأ القلق يخبو شيئا فشيئا و قد صاروا فى منتصف المسافة تقريبا، و ظهرت أ ضواء الضفة الأخرى على مرمى البصر، ها قد اقتربنا و يبدو أنه قد صدق قائدنا، أسرعوا الخطي فهاهو موسى و قومه يظهرون على الضفة الأخرى و قد عبروا بسلام، وفرعون يحث الخطي و يكاد يطير بفرسه، هل هو قلق؟ هل هو خائف أن نكون وحدنا بين جبلى الماء؟ أين ثقته التى كانت تقطر من حروفه منذ قليل حين حمسنا للدخول؟! فجأة: التأم البحر، انطبق، هكذا وبدون مقدمات، عاد البحر لسابق عهده و ارتطم جبلا الماء! غاب الجند فى الأعماق و كتمت الأمواج صرخاتهم فلا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}. صوت مكتوم منفرد هو المسموع الآن؛ صوت يغرغر مختنقا بعبرات تختلط ملوحتها بملح البحر و طميه الذى يدسه جبريل فى فمه الفرعونى المنعم، {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يا لها من عبارة طويلة بالنسبة لهذا الموقف العصيب، كل تلك الحروف و الكلمات و ليس فيها الكلمة الأعظم، ليس فيها اسم الله! ألهذه الدرجة ثقل لسانك الأثيم عن النطق باسم الله؟! تدعى الإيمان الآن؟ {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن. ازداد الاختناق و توالت السكرات و الحسرات و الندم على ما فات، لكن هيهات هيهات، لقد هلك، و مات، مات أفجر طاغية عرفته البشرية، مات من قال أنا ربكم الأعلى و ما علمت لكم من إله غيرى، مات الذى قال أليس لى ملك مصر و هذه الأنهار تجرى من تحتى، ها هى تجرى من فوقه البحار و لات حين مناص، ها هو يغيب رويدا رويدا تحت الأمواج و لكن كلا لابد أن يكون آية لابد أن يعرف الخلق أنه قد هلك لا يقولن أحدهم: إله علا فى سماء، لابد أن يروه و الطين فى فمه و الرعب على قسماته، {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}. اليوم يوم عاشوراء الذى ظننت يا فرعون أنه سيكون يومك وعيدك الذى سيتحاكى فيه الناس عن بطولاتك و أمجادك، لقد ظل يوما مشهودا، يوما من أيام الله الذى جحدته و استكبرت على عباده، يوما أظهر الله فيه عبده عليك، و تركك آية لمن خلفك، و صدق الموقن الكليم فى حرفه الواثق؛ كلا، إن معى ربى سيهدين، فها هو قد هداه و نصره، لم تزل الرحلة طويلة، ولم يزل الطريق شاقا، و الله ينظر كيف يعملون، لكنه سيبقى اليوم المشهود، يوم ظهر الحق و زهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
مختارات